رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان: حرية الحب والكتابة والتذكر

*ممدوح فرّاج النّابي

عندما أقدمت الروائيّة السورية غادة السّمان على نشر رسائل الشاعر أُنسي الحاج إليها، وقد كشفت الرسائل عن علاقة حبّ متوهجة من طرف الشاعر أُنسي الحاج، وقفت الأوساط الأدبيّة في حيرة، فأنسي نفسه لم يُشرْ إلى علاقة من هذا النوع بينه وبين غادة السمان التي كانت في بدايات طريقها الأدبي، كما أنه لم يُفْصح عن أيّ إشارات لهذه العلاقة بين أصدقائه أو في كتبه. ومن ثمّ لم تمر الرسائل كما كانت تريد لها غادة السّمان “دون ضوضاء إعلامية”، فما أن طرحت الرسائل في معرض كتاب بيروت في ديسمبر 2016، حتى تناولتها الأقلام ما بين مهتم بطبيعة الرسائل وما بين ساخر من توقيت صدورها والغرض منها.

أخذت “رسائل أنسي إلى غادة” أكثر من الحجم الذي تستحقه، فالرسائل لا تُضاهي رسائل غسان كنفاني لغادة السمان ذاتها، ولا احتوت على عناصر فضائحيّة مثيرة تكشف عن جوانب خفيّة في حياة الشّاعر الراحل، بل جاءت الرّسائل جميعها من طرف واحد، قابلها صمت تام من الطرف الثاني غادة، حتى في التصدير الذي قدّمت به الكتاب، جاء مقتضبا وكأنها لا تريد أن تقول شيئا أكثر مما قاله أُنسي، فقالت في التصدير “لم أكتب لأنسي أي رسالة، فقد كنا نَلتقي كل يوم تقريبا.. (ثم تعلن في النهاية) أنها عجزت عن تمزيق هذه الرسائل الرائعة أدبيّا وأيّا كان الثمن”. فعلى ما يبدو أن غادة لم تكن تُبادل أنسي الغرام. لذا ظلت مُتحفظّة طيلة هذه العلاقة التي لم يكتب لها الكثير، ولازمها هذا التحفُّظ بعد مرور الكثير من السنوات حتى أصدرتها مؤخّرا.

هوامش على رسائل حب

الدويُّ الذي أحدثته الرسائل وسط المثقفين، بتعليقاتهم السّاخرة على صفحات التواصل الاجتماعي، أخرج غادة عن صمتها، فكتبت مقالة نشرتها في جريدة القدس العربي بتاريخ 17 ديسمبر 2016، بعنوان “هوامش على رسائل حب”. المقال من وجهة نظري جاء متأخِّرا، وكان يجب أن يكون مقدمة للكتاب الذي جاء خاليّا من أي مقدمات، باستثناء التصدير المقتضب. كشفت السّمان في المقالة عن دوافع نشر هذه الرسائل قائلة “فأنا لا أستطيع تمزيق كلمة مبدعة..

وأجد أن قتل نص إبداعي يُوازي الشروع في قتل طفل.. ثمّ إنني شعرتُ بالغيرة من صدور كتاب رئيس جمهورية فرنسا ‘رسائل حب إلى آن’ التي استقبلها الإعلام الفرنسي بترحاب”. مع تأكيد غادة السمان على قيمة الرسائل إبداعيّا حتى أنها تصفها بأنها “مزيج مُتفجّر من جماليات اللغة العربية والشعر والحياة بلا أقنعة والحرية والرفض الشرس والاستسلام النابض ولكن بإيقاع خاص” ومن ثمّ فليس مهمّا لمن (كتب) إبداعه بل المهم (إبداعه) ذاته. إلا أنَّ الأمر لا يخلو من موضة التقليد الأدبيّ لا أكثر.

تفصح السمان في مقالتها عن الهدف الرئيسي من نشر الرسائل، حيث كونها كما تقول عن نفسها “ببساطة: أنا متمردة على القوالب الجاهزة التقليدية المثقلة بالمحرمات و’التابو’ في أدبنا العربي وأحاول المُساهمة في إدخال اللون الناقص في لوحته أي ‘أدب الاعتراف’ بأنماطه كافة: الحميم من الرسائل، المذكرات وسواهما، الشائعة في آداب الغرب والذي نفتقر إليه مقصرين بذلك عن أجدادنا التراثيين الذين لم تقم قيامتهم حين تغزلت جدتي ولادة بنت المستكفي بالحبيب الشاعر ابن زيدون وتغزل بها حتى الثمالة والجنون”.

الرسائل من الداخل

يحتوي الكتاب الذي نشر في مطلع هذا العام 2017 عن دار الطليعة في بيروت على الرسائل الخاصة بين الشاعر أُنسي الحاج والأديبة غادة السمان. الكتاب قليل الصفحات، فلم تصل إلى المئة. كما أنه لا يحتوي على تقديم وعرضٍ لمناسبات الرسائل وطبيعة ما ورد فيها، وإنما اكتفت الكاتبة بتصدير مقتضب عنونته بعبارة “لحظة نوستالجيا وحنين” عن علاقتها بأُنسي الحاج. ربما تكشف هذه العبارة عن سبب استدعاء الرسائل في هذا الوقت.

يتكوّن الكتاب من سبع رسائل، تبدأ مع بداية العلاقة بين أنسي الحاج وغادة السمان عام 1963 التي كانت في العشرين من عمرها، تدرس في الجامعة الأميركية. تأخذ هذه الرسائل تواريخ تبدأ من 02/12/1963، ثم الرسالة الثانية بتاريخ 3-4/12/1963، والرسالة الثالثة بتاريخ فجر الخميس 5/12/1963، وبدءا من الرسالة الرابعة إلى الأخيرة تسقط التواريخ. المتأمّل في التواريخ، يلاحظ أن الرسائل كانت بصفة يومية، حسب ما ورد في الرسائل من الأولى إلى الثالثة. كما أن الشيء المميّز أن الرسائل كانت خالية من الترويسة الشهيرة، بحبيبتي أو حتى عزيزتي. كانت الرسائل مباشرة.

وبالمثل في النسخة الأصلية بخط الكاتب المرفقة في الكتابة، خالية من توقيع أنسي الحاج. لكن مع غلبة الاسم في بداية الرسائل إلا أنه كان دائم التكرار في متن الرسالة، فيشار إليها باسمها غادة. وبضمائر المخاطب أنتِ والكاف العائدين عليها، خاصة في جمل “إني أُحبكِ”، أو”قررت أنني أريد أن أُحبكِ” أو “ليتك تعلمين كم أنتِ كل شيء” أو “إما أنتِ أو النهاية”، أو “أيتها الغادة أنتِ أنتِ أنتِ أنتِ”.

منذ الرسالة الأولى وحالة أنسي تتكشف رويدا رويدا، فهو يبحث عمّن يفهمه كما يقول “أن يفهمني أحدٌ، وأن أفهم نفسي”. حالة من التيه تعتريه، فيصرخ “لم أعد أعرف. كنت دائما أعرف؟ ماذا حدث؟ هل خرجت من شرنقة مقدسة إلى الواقع؟ هل هي الوحدة الحقيقية وكل ما عرفته قبلا لم يكن وحدة حقيقية؟ أهذه هي الغربة؟ أكل هذا الوقت لم أكن غريبا؟ لا. مستحيل. إنني أعرف الآن ما هو أفظع من الوحدة وأشنع من الغربة.

هذه هي علامة المجهول. لقد دخلت في دور العجز الحقيقي. العجز الذي أعلنت عنه قبل ثلاث سنوات ها هو يتمّ”. بعد هذه الحالة التي تكشف ما هو عليه من اضطراب فكري وتشتت ذهني، يقول لها بصراحة “إنني بحاجة إليكِ”، وكأنّ الحالة المرضية التي شخَّصها في السُّطور السَّابقة هو الوحيد من يَعْلَمُ علاجها، بل هي السبب في المأساة التي يعيشها.

ترفُّع غادة السمان عن الاستجابة لهذه المشاعر التي خصّها بها أُنسي الحاج ليس سببها أنه كان متزوجا وقتها ولديه أبناء، في ظني أن الترفُّع كان سببه التخبط والتناقض اللذين ظهر بهما أنسي؛ فمشاعره أشبه بعاشق وَلِه، على الرغم من أن العلاقة بينهما حديثة نسبيًّا، فهو في الرسالة الأولى يؤكّد بصراحة على أنه بحاجة إليها” ويجيب على لسانها “وربما فكرتِ: كيف يعرف أنه بحاجة إليّ، أنا بالذات، شخص لا يعرف عنّي شيئا، ولا أعرف عنه شيئا، ولا يعرف إذا كنت أنا، (أي أنتِ) بحاجة إلى أن يكون أحدٌ بحاجة إليّ”.

الحالة التي بدا عليها أنسي لا تكشف عن إنسان يبحث عن الحب، بقدر ما كان يبحث عن إنسان يفهمه، حتى لو اعترف بأنها “ليست مجرد خشبة إنقاذ بالنسبة إليه”. فهو في نفس الوقت يعترف بأنه “بحاجة إلى إنسان” يصفه بأنه “إنسان يتناسب مع ذكائه وإحساسه وطاقته جميعا، الإيجابية منها والسلبية، مع ما أنا فيه، وما سأصير فيه”. ما بين السطور يكشف عن حالة اضطراب وفقدان للثقة كان يمر بهما أُنسي الحاج، ومن ثمّ كان يبحث عمّن يعيد إليه اتزانه وثقته في نفسه”.

ثم يتحرّر من شرح مفاهيم الحاجة والارتباط ليعلن “أحبك”. العجيب بعد حالة الوله والعشق الجارف، التي رادفت معنى الامتلاك وهو يقول لها “أريدك أن تكوني معي، أن تكوني لي. أريد أكثر من ذلك، أن أكون لكِ” لم تظهر لها معالم بعد هذه الرسائل السبع فقط. فلم تتجاوز العلاقة بينهما هذه الرسائل باستثناء ما كتبه عن أحد أعمالها وهو ما ثبتته في نهاية الكتاب.

ما عدا ذلك اختفت معالم هذه القصة التي بدأت قصة حب عاصف، لكن مع الأسف لم تستمر. ومبعث عدم استمرارها، ربما في عدم رغبة الطرف الثاني غادة في هذه العلاقة، فهي على حد قولها في مقالتها “هوامش على رسائل حب”، قد تمسكت بأنسي ولكن ليس المحب وإنما أنسي الصديق، ففي أثناء عودتهما معا من أنطلياس إلى بيروت شعرت بأن صلتنا بدأت تستقر على “سكة الصداقة النقية” وهي في نظري أجمل من الحب لأنها تدوم دونما عواصف رعدية مفاجئة. وهو الأمر الذي احترمه أنسي وظل على علاقة بها بعد زواجها، وأيضا قبل سفرها إلى باريس.

مهما تكن طبيعة العلاقة ونهايتها السريعة، إلا أننا مع نصوص أدبية بامتياز، كشفت عن جوانب مهمّة في حياة الأديب عندما يُحب، وأثر هذا الحب عليه، والأهم قدرته على الإفصاح عنه والتصريح به. وهو يمثّل شجاعة أدبية من الطرفين الأوّل؛ الذي غامر بكتابة الرّسائل وهو لديه أسرة ومتحقّق أدبيّا حيث صدر له ديوانه الشهير “لن”، وإضافة إلى عمله في جريدة النهار.

ومن الطرف الثاني الذي نشر الرسائل دون خوف من الآثار المترتبة على هذه الخطوة، في مجازفة منها لتنتصر للأدب، فتقدم لنا هذه الوثائق الأدبية الغالية. وهي مهمة لدارسي أدب أُنسي، فبالطبع الحالة التي كان عليها أثناء حالة العشق انعكست بصورة آلية على نتاجه الأدبي. ومثلما لاحظنا حالة الارتباك بادية عليه وهو يسرد عواطفه وتشتت أفكاره. والتي ستكون بالطبع قد انعكست على ما كتبه من أشعار في هذه الفترة المهمّة.

قد يبدو لي أن القيمة الفنية الأدبية تتجاوز العلاقة الشخصية، والأهم أنها تكشف عن أثر وقوع الأديب في الحب. كما كشفت عن مزاج الكاتب وهو واقع تحت سهام أكيبوبيد. فهو قلق يكتب في ساعات متأخرة من الليل، بل إن حالة الحب متقدة، فرسائله متواصلة لم تنقطع يوميّا أثناء فترة العلاقة، على الرغم من أن ثمة لقاءات واقعية كانت تتمّ في الفنادق والمقاهي.
____
*العرب

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *