الذاكرة الآثمة

*خيري منصور

هناك حالات يستعاد فيها التاريخ أو يتكرر خارج نطاق ثنائية التراجيديا والكوميديا، تبعا للتصنيف الماركسي، إنها تجليات وأصداء يصعب اختزالها في مصطلح أو خانة ثالثة، وما أسميه الذاكرة الآثمة هو من تلك التجليات، والأمثلة في عصرنا عديدة، منها ما كتبه مثقفون غربيون عن الهولوكوست، خصوصا في ألمانيا، ومنها ما كتبه باموق قبل فوزه بجائزة نوبل عن المذابح الأرمنية، ولا تشذّ كتابات الأمريكيين عن فيتنام عن هذه القاعدة.
وكلما صدر كتاب في إسرائيل مضاد للأطروحة الصهيونية أجده ليس بعيدا عن هذا السياق، سواء تعلق الأمر بالأدب بمختلف فروعه أو بالفكر، وحين التقيت الصديق الكاتب توفيق فياض، قبل أيام دار، بيننا حوار حول هذه المسألة، بدءا من مقدمته الاحترازية لترجمة رواية يزهار سيملانسكي «خربة خزعة»، وهذا الاحتراز في ترجمة الأعمال الأدبية العبرية يشمل معظم من ترجموا لكتّاب يهود، ففي «الزمن الأصفر» لغروسمان ثمة مثل هذا الاحتراز، وكذلك في ترجمة «الأدب الصهيوني بين حربين» وترجمة روايتين ليائيل ديان، إحداهما بعنوان «غبار» والأخرى بعنوان «طوبى للخائفين»، وسبب هذا الاحتراز هو الخشية من تهمة التجسير، أو بمعنى مباشر التطبيع.
لكن شعار معرفة العدو الذي شهره بعد عام 19677 عدد من المثقفين العرب سرعان ما تحول إلى مبرر وحافز لفهم إسرائيل من داخلها، لأن بعض الأعمال الأدبية تعكس واقعا سياسيا واجتماعيا، بحيث تقرب من الوثنية، على الأقل في تلك النصوص التي ترجمها إبراهيم البحراوي في كتابه «الأدب الصهيوني بين حربين»، حيث شمل الكتاب نصوصا كتبها مجندون سيقوا إلى لبنان أثناء اجتياحه عام 1982. وأنا أقرأ تلك الأعمال في ضوء فهم يتلخص في ما أسميه الذاكرة الآثمة، لأن الكاتب الذي تغتسل ذاكرته من إثم مزمن وموروث يبحث عن توازن أخلاقي أولا، بحيث يسعى إلى تبرئة ذاته من دم الضحية التي أجهز عليها من يزعمون أنهم فعلوا ذلك باسمه أو دفاعا عنه، هذا ما أحسست به عند قراءة ميشيل مزراحي في قصصها القصيرة، التي توقفتُ عند نماذج منها في هذه الزاوية قبل فترة تحت عنوان «بعينين يهوديتين»، لكن تجليات هذا الشعور بالإثم تتضح أكثر في معالجات فكرية، لأن الأداء فيها مباشر، وقابليته للتأويل محدودة، وأمثلته تتجسّد على نحو ما وبتفاوت بين كتابات إسرائيل شاحاك وبورغ وإسرائيل شامير وأخيرا لدى شاؤول ارئيلي وميخائيل سفارد في كتابهما المشترك «الجدار الفاصل أمْنٌ أم جشع؟» وإن كان كتاب شلومو ساند بعنوان «اختراع الشعب اليهودي» علامة فارقة في هذا السياق، لأنه يتولى تاريخيا ومنهجيا وحفريا نقض كل الإطروحات الصهيونية الزاعمة بوجود شعب يهودي في التاريخ.
إن ما يكتبه هؤلاء يبدو للوهـــــــلة الأولى نقدا للصهــيونية وجرائم الدولة التي أسْرَلَتْها، وهذا أمر وارد، لكن الجانب الآخر المسكوت عنه هو غسيل الذاكرة، وبمعنى آخر التطهّر لكن بطريقة مغايرة لما سماه الإغريق الكاثارسيس في مسرحهم.
يزهار سيملانسكي مثلا شارك في حرب العصابات، أو على الأقل شهدها عن قرب، فكانت روايته القصيرة «خربة خزعة» إفراغا لمخزون تاريخي وواقعي في الذاكرة، وما سمعته من الصديق فياض مترجم الرواية، الذي عرف مؤلفها عن كثب ضاعف لديّ الإحساس بأن هذا الأدب ينتمي إلى الذاكرة الآثمة.
في كتاب آفي شلايم «الجدار الحديدي» وهو تاريخ مفصّل لأدبيات الغيتو والدياسبورا، كما ترد في الكتابات الإسرائيلية، ثمة ما يجزم بنأن اأأن الغيتو كان خيارا صهيونيا بامتياز، وهو امتداد لما سمي مقاومة الاندماج منذ الثورة الفرنسية، ومن ثمة ثورة اكتوبر الروسية، وما كان إخفاق حزب البوند في بواكير التجربة السوفييتية إلا نتيجة لهاجس الغيتو ومقاومة الاندماج. ونجد في كتابات إسحق دويتشر، سواء في سيرة ستالين أو في كتابه «اليهودي اللايهودي» ما يكرّس هذا الفهم، لهذا تقوأ ارملة دويتشر إن بن غوريون رفض مصافحة زوجها عندما التقاه لأول مرة، ما خشيته دائما هو أن أدب الذاكرة الآثمة ينقل الصهيونية من حركة تستلهم الأسطورة المضادة للتاريخ إلى التاريخ، بحيث يصبح الصراع بين الصهيونية الكلاسيكية وما بعدها، أو بين صهيونية راديكالية وأخرى معتدلة، لأن ذلك إذا بلغ أقصى مداه فإن معادلة الصراع سوف تتغير ويصبح العربي هذه المرة عرضة للنفي خارج التاريخ، وليس خارج الجغرافيا فقط، لكن ما احترز منه بدوري في هذا الاستقصاء هو تأويل الطرح بحيث يصبح مضادا لكل ما يكتبه اليهود ضد الصهيونية كحركة، فالفارق دقيق وقد يكون شعرة واحدة بين أركان الضحية إلى ما يكتب عنها وباسمها، بحيث تصبح خرساء، وبين أن تتولى الضحية ببلاغتها التراجيدية رواية سرديتها الوطنية التي هي في النهاية نخاع هويتها وليس فقط لحمها ودمها وعظمها.
حين تظاهر أتراك غداة فوز باموق بجائزة نوبل ضد فوزه، بحجة أنه اقترب من المحظور وتحدّث عن مذابح أرمنية، أدركت على الفور أن الوقت لا يزال مبكرا على التوازن الأخلاقي في كوكبنا بأسره، سواء تعلق الأمر باعتذار الرجل الأبيض أو الواسب الأمريكي إلى إفريقيا على ما اقترفه من جرائم واتجار بالرقيق فيها، إضافة إلى السطو على ما في باطنها، أو باحتلال فرنسا للجزائر، حيث كان اعتذار الرئيس أولاند أثناء زيارته لها باسم حزبه واسمه الشخصي ليس باسم فرنسا الأم، الاعتذار شكل آخر من أشكال غسل الذاكرة من إثمها المزمن والموروث، خصوصا عندما يصدر عن رئيس ينطق باسم بلاده وليس باسمه الشخصي أو باسم حزبه فقط، لكن ما ينوب عن هذه الاعتذارات السياسية المباشرة هو الاعتذارات الثقافية التي يمارسها كتّاأ وادباء وذلك لسببين على الأقل، أولهما أن الثقافة تحظى بمساحة أوسع من الحرية وقابليات التأويل، وثانيهما أن الاعتذارات السياسية الرسمية يترتب عليها الكثير من الاجرائيات ماديا ومعنويا، والكاتب اليهودي الذي أصدر كتابا بعنوان صادم هو «اختراع الهولوكوست» لم يمثل أكثر من رأيه الشخصي، لهذا يبقى الاعتذار أخلاقيا، وفي النطاق الفردي ولا يترتب عليه أي إجرائيات قانونية، وما أخشاه مرة أخرى هو أن تنوب الاعتذارات الأدبية عن الاعتذارات السياسية وتحقق بمرور الوقت التوازن المنشود، بحيث تتخلص الذاكرة من الأشباح التي تستوطنها وبالتالي من الإثم الذي يثقلها.
ان الاعتراف في ادبيات القانون يخفف العقوبة لكنه لا يلغيها، والتاريخ ليس بعيدا عن هذا والعربي الذي يقرأ شاحاك أو ساند أو حتى أفنيري، قد يشعر بقدر من التوازن النفسي، لأن هناك شهودا من داخل الدولة التي تأسست على أنقاضه، لكن لهذا التوازن حدودا ما أن يتخطاها حتى تصبح الضحية خرساء وعاطلة عن كل دفاعاتها الإنسانية والثقافية، لأن هناك من ينوب عنها حتى في الأنين، هؤلاء الكتّاب بمجمل طروحاتهم المضادة للصهيونية سيستحقون الثناء، ويجب أن لا نشعر بأي حرج ونحن نترجم أعمالهم، أو نجري مقاربات ازاءها شرط أن لا تنقلب المعادلة، بحيث يصبح اللاجئ من الجغرافيا منزوحا وليس نازحا فقط من التاريخ.
_______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *