العالم كما يراه فيلسوف الحداثة السائلة زيغمونت باومان (4)

  *ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

   زيغمونت باومان Zygmunt Bauman ( الذي توفّى قبل بضعة أسابيع ) هو من غير شكّ واحد من أكثر علماء الإجتماع تأثيراً على مستوى القارة الأوربية وعلى مستوى العالم كذلك ، وتشتمل قائمة كتبه – التي تُقرَأ في كل القارات – نحواً من ستين كتاباً واظب على نشرها بمثابرة واضحة منذ أن تقاعد عام 1990 من عمله أستاذاً لعلم الإجتماع في جامعة ليدز البريطانية – ذلك الموقع الذي شغله على نحو مستمر لما يقارب الثلاثة عقود .

   الحوار التالي هو القسم الرابع من حوار مع زيغمونت باومان منشور أصلاً بالألمانية في مجلة Das Magazin  وكذلك بالإنكليزية في مطبوعة 032c  ( العدد 29 المنشور في مطلع 2016 ) ، ويُلاحظ في هذا الحوار توزّعه على معظم المحاور التي عمل عليها باومان في كتاباته الكثيرة ؛ الأمر الذي يجعل من هذا الحوار ذا أهمية إستثنائية في معرفة الخطوط العامة لفكر باومان لمن لم يقرأ أعماله الأصلية .

                  المترجمة

17078597_1562423803786447_1216029794_n

 

                       المحور السّادس : الخوف

 

*  في كتابك المعنون ( المراقبة السائلة ) كتبتَ أنّ الخوف هو العلامة الفارقة والمميزة لعصرنا الحالي ، وأن محاولة المجتمع للحفاظ علينا بعيداً عن الخوف تنتهي في العادة بإنتاج المزيد من الخوف . ألاتوافقني أن مخاوف الماضي كانت أسوأ بكثير : الخوف من الله ، الخوف من الشيطان ، الخوف من الجحيم ، الخوف من الأشباح ، وقبل كل هذا الخوف من الطبيعة ذاتها ؟

–  لا أظنّ أن مخاوف الشعوب في عصرنا هذا هي أعظم من القدر الذي كانت عليه في العصور السابقة ، لكنها باتت اليوم مختلفة عمّا سبق ، وأكثر إعتباطيةً ، وأكثر تغلغلاً في حياة الناس ، وأكثر ضبابية وتشويشاً : تعمل مثلاً في خدمة شركةٍ ما لما يتجاوز الثلاثين سنة ، وتحتفظ لنفسك بمكانة مرموقة ، ثم يحصل فجأة أن تظهر شركة كبرى تبتلع الشركة التي تعمل فيها أنت ؛ الأمر الذي يتسبّب في بيع الشركة  وحينها تجد نفسك مرمياً على قارعة الطريق ، وما يفاقم مشكلتك أن فرص إيجاد عمل وأنت في سنّ الخمسين تبدو محدودة للغاية ، وليس خافياً أن الكثير من الناس يخشون مثل هذه الضربات المفاجئة والمحن التي تفتّ العضد وبخاصة أن المرء لايعلم من أين يمكن أن تنوشه تلك الضربات كما ليست لديه القدرة الكافية لإتخاذ أية إحتياطات لصدّ تلك الضربات والتعامل الفعّال معها .

*  لطالما عهدنا المخاوف مختلفة عن هذه السائدة في وقتنا الحاضر ؟

–  إعتاد الناس أن يخافوا من أشياء محددة : كانت المحاصيل الزراعية مثلاً تشهد نمواً ضعيفاً ، وحينها كان يمكن للناس أن يرفعوا رؤوسهم باتجاه السماء متضرعين قائلين ” هل ستبتلّ الأرض بدفق المطر آخر المطاف أم سييتفاقم الجفاف حتى يأتي على المحاصيل جميعها ليجعلها هشيماً تذروه الرياح ؟ ” ، أو ربما كان الأطفال يذهبون لمدرستهم ولكن كان يتوجّب عليهم إجتياز غابة صغيرة عُرِف عنها وجود ذئب جوّال يطارد الفرائس الصغار ؛ لذا توجّب وجود من يصطحب الأطفال عبر مسالك تلك الغابة ، بل حتى أثناء ذروة المخاوف من الحرب النووية ظنّ الناس أن في وسعهم الإحتماء من أهوال تلك الحرب عن طريق بناء قبو ، ومن الطبيعي أن فكرة بناء قبو يحمي من الحرب النووية هي فكرة سخيفة تماماً ؛ غير أن الناس في أقل تقدير كان بوسعها فعل شيء بدل الجلوس غير عابئين والخوف ينهش أرواحهم نهشاً . المهمّ في الأمر أن الناس لم يكونوا يائسين البتة وكان كل منهم يقول لنفسه ” أنا بخير ، وسأبني ملجأً مضاداً للقنابل لحماية عائلتي ” .

17035357_1562424173786410_1857837896_n

*  يعيش الناس اليوم ( في الجزء الثريّ من العالم على الأقلّ ) أعماراً أطول وأكثر أماناً من عوامل الخطورة بالقياس إلى المجتمع السابق ، ومن المؤكد أن عوامل الخطورة قد تضاءلت كثيراً ؟

–  ينبغي عليك أن تقارن بين مفهوم عامل الخطورة وبين مفهوم الخطر لكي تجعل التمايز بين المفهومين واضحاً على نحوٍ لايقبل اللبس . الخطر كيان محدد ومشخّص لأنّ المرء يعرف تماماً ماالذي يخشاه ومن ثمّ يمكنه إتخاذ إجراءات إحترازية في وجه ذلك الخطر ، وهذه حالة تختلف تماماً عن حالة عامل الخطورة ، وقد لاحظ الكثير من المنظّرين المفارقة الكامنة في حقيقة أن حيواتنا اليوم غدت أكثر أماناً من حيوات الجيل السابق لنا ؛ ولكن في الوقت ذاته نحن نعيش في ظلّ شبح عدم الأمان . يمكن القولُ أن النسخة الحديثة من الخوف يجوز تعريفها في إطار الخوف من الشر البشريّ ومرتكبي الشرور البشرية على وجه التخصيص .

*  يبدو أن صناعة كاملة قائمة تحقق فوائد عظمى من المخاوف البشرية في نسختها الحديثة ؟

–  الصناعة الخاصة بتوفير مستلزمات الأمان هي الصناعة الحديثة التي تحقق أعلى معدلات النمو المسجّلة ، وهي الصناعة الوحيدة التي لها حصانة راسخة تجاه كل الأزمات الإقتصادية ، وقد جاء الإرهاب الدوليّ بذريعة مثالية لتوسيع قوات الأمن واعتماد إجراءات أمنية أكثر قسوة وشدة من سابقاتها مع علمنا الأكيد أن ضحايا الإرهاب الدولي يشكّلون نسبة تافهة بالمقارنة مع ضحايا حوادث الطرق المميتة . ثمة الكثير دوماً من الضحايا الذين يموتون في الطرقات كلّ يوم لكنّ الإعلام لايكلّف نفسه عبء الإشارة لهؤلاء الضحايا ولو بخبر صغير .  

 

*  تقول دوماً أن الإكتئاب هو المحنة السايكولوجية المميزة للمجتمع الإستهلاكي ؟

–  في الماضي كان الناس يعانون وفرة من المحظورات والمحرّمات : الفزع من الوقوع في لجّة ديون غير قادرين على سدادها ، الخوف من الإتهامات بعدم التناغم مع الجماعة عقب كسر القواعد الحاكمة ،،، الخ – هذه الأمور وسواها كانت تتسبّب بأشكال عديدة من العُصاب فيما سبق ، أما اليوم فنحن نعاني تخمة من الممكنات والخيارات ولكن يتملّكنا  في الوقت ذاته الرعب من عدم قدرتنا على الوفاء بتلك الخيارات المتاحة ؛ الأمر الذي يقود بالتأكيد إلى الوقوع في براثن الإكتئاب .

17092061_1562423747119786_1766430738_n

                           المحور السّابع : السياسة  

*  تباعدت الفجوة كثيراً في عالمنا الحاضر بين السلطة والسياسة كما تجادلُ في كتاباتك . كيف تطوّر الأمر ليكون على هذا النحو ، وماالذي يترتّب على ذلك ؟

–  عندما بدأت دراستي ( للموضوعات السياسية والمجتمعية ) كان نموذج الأمة – الدولة Nation – State  هو نموذج المؤسسة العليا الفريدة في نوعها ، وكان هذا الأمر جوهر السيادة في كل أشكالها : الإقتصادية والعسكرية والثقافية ، أما اليوم فما عاد الأمر على هذا النحو وانقلب المشهد على أعقابه .

*  ماالسبب وراء عدم إيماننا بالدولة في إيمانا هذه ؟

–  في سبعينات القرن الماضي لم يعُد مفهوم الدولة يلقى أية شعبية أو رواج لأنه غدا عاجزاً عن الوفاء بما وعد به من قبلُ ، وحينها كان مفهوم دولة الرفاه قد صار بالياً وعصياً على أي إصلاح بسبب عدم توفّر المصادر اللازمة لتحقيق ماوعدت به دولة الرفاه ، كما تعب الناس وطاف بهم الكيل من الوعود وهم يرون الدولة تقرّر كل شيء لهم وتحرمهم من حرياتهم الثمينة ، ولكن كان ثمة مابدا معجزة راحت تنسج خيوطها في الأفق : السوق الحرة ، وتعالت الهتافات ” دعونا نبطل القواعد التنظيمية الحاكمة ، دعونا نخصخص كل شيء ، دعونا نصدق وعود اليد الخفية للسوق ،،، وحينها سيكون كل شيء على أحسن حال ” ، هكذا كان نمط التفكير السائد في تلك الأيام .

*  ربما لو أن وعد السوق الحرة لم يتحطّم من قبل لكان بالتأكيد سيتمزّق إرباً من جراء المفاعيل المدمّرة لأحدث الأزمات المالية التي ضربت عالمنا ؟

–  إن إنهيار النظام الإئتماني العالمي والبنوك في عامي 2007 ، 2008 يختلف جذرياً عن الأزمات الاقتصادية التي حصلت في ثلاثينات وستينات القرن الماضي من حيث أننا في السنوات الأحدث لم نعُدْ نؤمن بشيء إسمه الدولة أو السوق ؛ لذا يطيب لي وصف هذه  الفترة بأنها ( فترة خلو العرش interregnum ) بالمعنى الحديث للعبارة وبمثل مااستخدمها الفيلسوف الإيطالي ( أنطونيو غرامشي ) . عرّف غرامشي فترة خلوّ العرش بأنها فترة لم تعُد فيها طرائق عملنا الحالية تعمل بطريقة مقبولة ، ولكن في الوقت ذاته لم تُكتشف بعدُ البدائل الجديدة المناسبة . نحن نعيش مثل هذه الفترة في أيامنا هذه .

17078395_1562423673786460_1291531539_n

*  وكيف يمكن أن نجد مخرجاً لنا من هذه الازمة ؟

–  نعرف تماماً ماالذي لانرغب فيه ، ونبتعد عن الأمور التي لاتنجز الأعمال بطريقة مقبولة ؛ لكننا لانعرف تماماً الوجهة التي نريد بلوغها . ثمة كتاب مثير للغاية صدر حديثاً للعالم الإجتماعي ( بنجامين باربر ) ويبدو عنوانه باعثاً للتفكّر العميق : لو أنّ العُمدات حكموا العالم If Mayors Ruled the World  .  فكرة باربر بسيطة للغاية : التغيرات التي ينبغي القيام بها لايمكن إنجازها على مستوى الدولة ؛ إذ عندما نشأت الأمة – الدولة كان مطلوباً منها أن تعمل كوسيلة لنيل الإستقلال ، في حين أن مشكلتنا الحالية أننا بتنا نعتمد الواحد على الآخر وبشكل لافكاك منه وعلى نحو باتت معه الدولة المسوّرة بأسوار السيادة المقدّسة عاجزة عن توفير حلول ناجزة للمشاكل الناجمة عن إعتمادنا المركّب  المتداخل فيما بيننا ، واستحالت السياسة  في يومنا الحاضر إلى مايمكن توصيفه ( سياسة الحياة Life Politics ) التي تضع الفرد في قلب المسؤولية تجاه المعضلات الإجتماعية الراهنة . إن المشكلات على المستوى العالمي لايمكن حلّها بتطبيق وصفات ( سياسة الحياة ) بكلّ تأكيد ؛ فلا أنا ولا أنت ولاحتى أيّ فرد من فاحشي الثراء يمتلك الموارد الكافية للنهوض بأعباء مواجهة تلك المشكلات العالمية .

___
*المدى

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *