لا نَامَتْ أعينُ القراءِ

 

خاص- ثقافات

*المصطفى رجوان

يرفع شعار:”لا نامت أعين القراء”،ولم يخسر واحدة ضد التلقي وأفق الانتظار،وما في قلبه موضع شبر إلا فيه ضربة بحرف أو رمية بانزياح أو طعنةُ استعارةٍ،وهو صاحب فتوحات شعرية مستحيلة لم يقترب منها أحد.

الشاعر خالد البيهي،صوت شعري موزون،قادم من مرتفعات البلاغة،لا يحبذ الأفكار الجاهزة ولا القوالب المألوفة،لا يشبه أحدا،ويراهن على أن يكون هو في كل حرف.وهو إذا أراد أن يريك أذنه،لا يريك أذنه القريبة المباشرة،ولكنه يأخذك بعيدا ليريك أذنه الأخرى.الأدهى أنك لن تتوقع شكل هذه الأذن.

نصوص خالد حقول دهشة، زرقاءُ أبعد من المدى، فأين قرأتَ تنفجر عيونُ الشعر.يدهشني حين يقول:

أسأل الليل: “كم عشتَ؟”

يهمس لي في برود: “ولا امرأةً واحدهْ..”

إن مجرد محاورة الليل يعتبر انزياحا عن المألوف، وبالتالي يتحقق الشعر. من هنا تظهر قدرة الشاعر على تحويل المباشر إلى شعري، وتحويل التراب إلى ذهب باقتدار حجر الفلاسفة.وهنا تظهر قدرة الشاعر على الرهان والعطاء في موضوعات تعد مستهلكة، وهو الذي قال يوما: “لكثرة ما استعمل الشعراءُ الليْلَ لم يعد يصلح الآنَ إلا لتجريبِ دراجةٍ عالية السرعة لا تملكُ تصريحًا بالسير.”

ويدهشني حين يقول أيضا:

زوجة البحر تقلقُ

توقظ أبناءَه

لم يعدْ .. لم يعدْ !

أيكم سيسير إليه رسولا؟

       بينما كان يمسكه

     من تلابيبه عاشقٌ

 ويقول لهُ:

هل أحدثك الآن عنها قليلا؟

في قصائد خالد إيقاع سمعي زماني يوقع بك في شراكه، وفي نفس الوقت إيقاع بصري يعتمد المد والجزر بين الأبيض والأسود في المكان.

أمْسِ اعْتَذَرْتُ لِفِكْرَةٍ
كَانَتْ تُعَرِّي صَدْرَهَا
وَأنَا أفَسِّرُ مَا يَقُولُ السِّجْنُ عَنْ رُؤْيَاهُ
قُلْتُ: أخَافُ لاَ مِمَّا يَجِيءُ غَداً
وَلَكِنْ مِنْ لَظَى التَّأوِيلِ
فِي عَامِ الضَّجَرْ
أمْسِ اعْتَذَرْتُ لِهَامِشٍ حَكَّ الجَنَاحَ
عَلَى يَدِي
وَبَكَى وَقَبَّلَ رِيشَهَا
قُلْتُ: اتَّسَعْتَ بِمَا سَيَكْفِي كَيْ تَصِيرَ النَّصَّ
مَاذَا سَوْفَ أُبْقِي لِلسَّمَاءِ أنَا ؟
وَأنْتَ النَّظْرَةُ الأوْلَى وَآخِرُ مَنْ نَظَرْ

لم يطبع خالد بعدُ ديوانا.المهم ليس هو النشر،بل هو الاشتغال على التجربة الشعرية وتعتيق الشعر في زمان نفسي طويل.عكس الذين يتهافتون على النشر بعدما أوحى لهم الهذيان أنهم كتبوا شعرا،ذاك أنهم لا يعرفون أن المحو أعظم من الكتابة،وأن النصوص الغائبة هي التي تقرر مصير النص الحاضر في الحياة.النشر حالة مستحدثة وطارئة على الأدب،الأصل أن ينتشر الشعر انتشار العطر،ويطرق زجاج العيون دون استئذان كالمطر الشفيف،ثم بعد ذلك تأتي مطالبة القراء بنسخ ديوان الشاعر.حمى النشر والتهافت عليه،عادة غير صحية،فالأجدر أن يُعرف الشاعر قبل نشر ديوان،لا أن يراهن على استقطاب الجمهور بعد النشر.

يراهن خالد على مبدأ: أكون شاعرا كبيرا أو لا أكون،ذاك أن بعضهم يقنعون بأنصاف الحلول وبالتالي بنصف شاعر.وله هنا فلسفة خاصة ونصيحة مهمة،رغم أن لا نصيحة في الشعر لكنها الموهبة:

اكْتبْ كأنَّكَ سَوفَ تَفقدُ

بعدَ سَاعَتِها يَديْكْ

أكْتُبْ بِكُلِّ المُمْكناتِ

المُستَحيلاتِ

النًّوارِسِ والبِحارِ

وبالمَحارِ وبالنًّهارِ

وباللَّيالِي الوَاقفاتِ علَى شَواطئِ

مُقلتَيْكْ

 أكْتُبْ…

كأنَّ العَالمَ المَوبوءَ أعلنَ كُفْرَهُ

وَكًأنًّ ربّاً واقفاً يَتْلُو عَليْكْ

وسلام على الشعر يوم يولد،ويوم يموت مع أولئك،ويوم يبعث مع هذا الجيل حيا.

 

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *