فرناندو بيسوا.. هل كان حقيقة أم خيالاً؟

القاهرة-  أن نعطي «فرناندو بيسوا» حقه فهذا يعني أن نضع في اعتبارنا التعقيدات والتناقضات التي تحيط بكل من شخصيته وكتاباته، فقد كتب تحت أسماء مستعارة عديدة ولغات متعددة، ولم تكن تلك الأسماء مستعارة، ولا شخصيات أدبية ابتكرها، كي يخفي هويته، أو كي يعبر عن أفكار أو وجهات نظر، لم يرد لأي سبب من الأسباب أن ترتبط بشخصه واسمه، كان هؤلاء كتاباً مستقلين عنه، يكتب عبرهم أو يكتبون عبره، لكل منهم رؤيته الخاصة للعالم، وأسلوبه الأدبي وجمالياته، وأحياناً آراؤه السياسية والاجتماعية، ولكي يؤكد هذا الاستقلال أطلق عليهم بيسوا وصف «الأنداد».

تقول المزحة الشائعة إن أهم أربعة شعراء في التاريخ الأدبي الحديث للبرتغال هم فرناندو بيسوا، بالإضافة إلى أنداده الثلاثة الأكثر شهرة بين أنداده: ألبرتو كاييرو، وريكاردو رييس، وألبارو دي كامبوس، غير أن عالم أنداد بيسوا أكثر اتساعاً من هذا الثلاثي الشعري، فهو يشمل عديداً من شخصيات أخرى، وقد أحصى بعض دارسيه 136 نداً، بعضها رئيسي وبعضها هامشي، تناولوا في كتاباتهم موضوعات مدهشة في تنوعها، شعراً ونثراً بالبرتغالية والإنجليزية والفرنسية، في النقد الأدبي والرأي السياسي، في الكتابة الساخرة والتحليل الاجتماعي، في القصة القصيرة والرواية البوليسية والفلسفة.
منذ طفولته، كما جاء في الكتاب الذي عنونه وائل عشري إلى العربية بعنوان «رسائل ونصوص لفرناندو بيسوا» يخبرنا بيسوا بأنه شعر بحاجة إلى التعامل مع إحساسه بالتوحد عبر ملء العالم الواقعي بشخصيات خيالية، ويكتب: «منذ كنت طفلاً شعرت بالحاجة إلى توسيع العالم بشخصيات متخيلة، أحلام لي صيغت بعناية، متصورة بوضوح فوتوغرافي، وسبرت أغوارها حتى أعماق روحها»، وهكذا قبل أن يتعدى الخامسة من العمر كان بيسوا قد اخترع شخصيتين، فقد كان طفلاً منعزلاً وراضياً بذلك، بل إن أحد محرري أعماله المعاصرين، وجد في أرشيفه عدداً من الجرائد المتخيلة التي بدأ في كتابتها في سن الثالثة عشرة.
يشير وائل عشري في تقديمه لكتاب الرسائل إلى أن هناك تعقيداً آخر يحيط بشخصية بيسوا، فقد عبر عن أفكار وآراء اجتماعية وسياسية وفكرية، ليست تقدمية بالضرورة، ولا تستدعي سوى موقف نقدي، وفي أكثر من موضع أظهر تحيزاً ضد النساء، واهتم اهتماماً عميقاً بالتنجيم، وكشف الطالع والجماعات السرية، كان بيسوا يهتم دائماً بما وراء العقل، وبما يقع خلف التخوم التي ليس بوسع العقل أن يستكشفها.

رأى بيسوا أن «الكمال» يكمن في الشعور بكل ما يمكن الشعور به «كن كاملاً في كل شيء» هكذا يكتب بيسوا في شذرة مبكرة «أن تكون كاملاً في أي شيء يعني أن تكون على حق، كل الطرق تصل إلى نفس المكان» على هذا النحو فإن التعدد البيسوي ليس سوى تعدد العالم ذاته، بخيره وشره، بتعقيده العصيّ على التبسيط، وهنا يتساءل عشري: أي سيرة يمكن أن تكتب لفرناندو بيسوا إذاً؟ كيف يمكن أن تكتب سيرة ولو موجزة لذلك التعدد والتناقض المسمى بيسوا؟ هل هناك أهمية لما فعله هو، وما مر به فعلاً بجسده، بشخصه؟

يوضح وائل عشري أنه من المعتاد في رسائل كاتب شهير أن تقاس جاذبيتها بالنسبة إلى جمهور مهتم، وأن تحدد قيمتها، بمدى ما تسمح برؤيته داخل ذلك الكاتب، ودرجة الصدق الذي تكشف به أو تعرى من خلال شخصيته الحقيقية تلك التي لا تظهر عادة في كتاباته، لكن ماذا إذا كانت تلك الشخصية الحقيقية ببساطة غير موجودة؟
تحمل المختارات التي يتضمنها هذا الكتاب مفارقة لا يمكن تجنبها، ففي حياته نشر بيسوا عدداً قليلاً من الكتب أغلبها كتيبات شعر بالإنجليزية: 35 سونيتا، قصائد إنجليزية، أما الأغلبية العظمى من أعماله المنشورة، فقد ظهرت متفرقة في مجلات ودوريات أدبية، وعند وفاته لم تكن أي من أعماله الرئيسية كما نعرفها اليوم قد نشرت في كتاب، وبعد وفاته اكتشف محررو بيسوا الخزانة التي أودع فيها مخطوطاته، ما أودعه بيسوا كان شذرات متفاوتة في طولها وفي درجة اكتمالها ومخططات لأعمال لم يكتبها قط، وأوراقاً تنتمي إلى مشروعات متنوعة، وأجزاء من مقالات أعاد كتابتها عدة مرات، دون أن يكملها.
يذهب عشري في اتجاه مضاد حين يقول إن بيسوا هذا من اختراع المحررين، فالكتب المنشورة وغيرها كانت مشروعات أدبية خطط لها ولم ينته منها، هل كان بيسوا حقيقة أم خيالاً؟ تتساوى الكلمتان في ذلك الكون، لا شيء يكتمل، لا يوجد شيء كامل، لا الكتب، ولا كاتبها.
________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *