“المحاسب” لبين أفليك: المحاسب المتوحد والقاتل المتنمر!

خاص- ثقافات

*مهند النابلسي

يلعب “بين أفليك” هنا دور “كريس وولف” المحاسب الموهوب الذي يتم استدعائه لفحص سجلات شركة ضخمة معقدة يملكها لامار بلاك “جون ليتغو”، وذلك للبحث في مصير الـ61 مليون دولار التي اختفت من سجلات السيولة المالية، حيث يتم اطلاعه على السجلات المحاسبية للشركة الكبيرة، ويكتشف “بعبقريته” ملابسات اختلاس جريمة خفية “خطيرة ومتداخلة”…

يستعرض فيلم الأكشن الغريب هذا طفولة “كريس” الذي يعاني من التوحد، ويعرضه والده  العسكري المتقاعد الصارم لتدريب قاسٍ متواصل ليتمكن من مواجهة الحياة وظروفها القاسية، كما يلاحظ ميله العقلي الشديد للرياضيات، ليصبح فيما بعد محاسبا عالميا قديرا يتورط بالعمل في منظمات الإجرام العالمية، متكسبا من عمله هذا ثروة طائلة، ثم يتجه لاحقا للعمل المهني الاعتيادي، فيتوظف كمتخصص محاسبي قادر على كشف التلاعب الخفي  في السجلات المحاسبية المعقدة، كما أنه يملك موهبة “القتل الاحترافي” كنتيجة لتدريبه القاسي في سني طفولته ومراهقته.

طبعا لا نستطيع أن نصدق كمشاهدين ونقاد قدرته السريعة الفذة على اكتشاف  التلاعب  المحاسبي لسجلات هذه الشركة، والذي تراكم على مدى خمسة عشر عاما، كما تندهش محاسبة الشركة الذكية دانا كامينغ (أنا كيندريك) من قدرته الإعجازية هذه، بالرغم من أنها كانت السباقة باكتشاف الملايين المفقودة، وقد تم تعيينها بقصد لتساعده في إنجاز مهمته العسيرة، ولكن المستشار العنيد يرفض أية مساعدة بعد أن يتمكن من جرد وجدولة كافة حسابات الشركة الضخمة خلال ليلة واحدة فقط.

ينجح المحاسب طبعا باكتشاف  ثغرات ومواضع تسرب الأموال، ومن هنا ينحى هذا الشريط الشيق مسارا جديدا يرتبط بالفساد المستتر والإجرام على المستويات الإدارية والتنظيمية، ولا يستطيع أحد أن يتجاهل قدرات المخرج “جافين اوكونور” في مجال أفلام الأكشن خصوصا، وقد سبق وأخرج أربعة افلام لافتة هي المعجزة و”الفخروالمجد” والمحارب، ثم فيلم “الأمريكي” الأخير من بطولة جورج كلوني  في العم 2013، وهو يستعرض هنا عضلاته الاخراجية العالمية في مجال الأكشن، مستعينا بسيناريو “بيل دوبوكيس”، متطرقا لفساد الشركات العالمية المتداخل مع الاجرام والاغتيالات، حيث لا مجال للمفاوضات، ويطلعنا على الوجه القذر الآخر للغة الأعمال، ويبدو وكان “وولف” وحده يشكل جيشا، وخاصة عندما تتعرض حياة مساعدته “دانا” للخطر، حيث يلجأ لاستخدام مهاراته القتالية الخاصة لحمايتها، ثم تعود العلاقة بينهما وكأن شيئا لم يحدث، ولكنه يتعامل بود وطيبة وتواضع وتساهل مهني مع عجوزين، مستخدما مزرعتهما للتدرب على إطلاق النار والقنص …تتميز الفرادة في هذا الفيلم بقدرة البطل على الجمع بين ثلاثة مهارات معا “الرياضيات والمحاسبة والقتل الاحترافي”، كما يبدع أفليك كعادته بإظهار سمات الشخص المتوحد-المعقد “الكتوم والعبقري”، وخاصة أثناء استعراضه السريع المجدول لكافة البيانات الحسابية في قاعة الاجتماعات، محققا استنتاجات صائبة وكاشفة، كما لعبت “آنا كيندريك” دورا محوريا متناقضا كمحاسبة بريئة ذكية، كما يبدع “جي كي سيمونس” (بدور رايموند كينغ) كعادته بدوره كرئيس لهيئة التحقيق بالفساد (حاميها حراميها)، وكذلك يبدع كل من “جيفري تامبور” كمرافق للمحاسب أثناء سجنه، و”سينشيا آدال روبنسون” كرئيسة لفريق البحث والتقصي، وآخرين مثل “ماري بيت ميدينا” السمراء الذكية التي تكشف هوية “كريس” الحقيقية، و”جون بيرنثال” الذي يلعب  دورا موازيا كقاتل محترف يخفي سرا، ليتبين لنا في آخر الشريط أنه هو “نفسه” شقيق كريس الأصغر، حيث دربهما والدهما العسكري على القسوة منذ نعومة أظفارهما…

هكذا نجح هذا السيناريو الدقيق في إعطاء هوية واضحة سردية مشوقة لمعظم الشخصيات في ربط متداخل عكس الكثير من أفلام الأكشن التي تغفل احيانا عن ذلك، وتغرقنا في متاهات وتفاعلات الشخصية الرئيسية المحورية…لذا فقد نجح هذا الفيلم كفيلم أكشن تشويقي بمضمون “متداخل ومترابط” بدون أن يتجاهل مواطن الغموض والالتواء العديدة هنا وهناك، حتى يصل أحيانا للتزاحم والاستطراد المبالغ به (كما بحالة قصص التوحد ومعاناته في ذاكرة البطل)، كما أنه ينغمس كثيرا بقصص العنف والحركات “السوبرمانية، حت بتنا نعتقد أحيانا أن البطل هو ربما “باتمان” بهيئة عصرية جديدة.

لا يترك لنا المخرج تفصيلا خفيا إلا ويتطرق اليه لإظهار الصورة المتكاملة لبطلنا المتوحد الموهوب، حتى أنه يستعرض لنا بالفلاش باك سبب هروب والدته البائسة بعد أن عجز والده عن احتواء هذا التوتر العائلي المزمن الغريب يوما ما، كما يرينا كيف وظف والده العسكري المتقاعد الصارم، كيف وظف مدربا مخضرما ليعلمه هو وشقيقه أساليب القتال اليدوي، وكيف يساعده هذا التدريب لاحقا في مواجهة الأولاد المشاغبين الذين يرفضون اختلافه عنهم ويتعرضون له!

وأتمنى ان يعرض  هذا الفيلم على مؤسسات مكافحة الفساد العربية والشركات الكبيرة وجمعيات المحاسبة المختلفة لمعرفة أساليب التلاعب “الشيطانية” بالسجلات المحاسبية المعتمدة، وأن سلامة القيود المحاسبية ظاهريا لا تعني أبدا خلو بعض هذه المؤسسات من الفساد والاختلاس الكامن المعقد “التشابكي” …وأنه يتوجب تبعا لذلك مراجعة ممارسات الحوكمة والشفافية القائمة لضبط الامور وتعزيز النزاهة الحقيقية في المؤسسات العربية.

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *