العالم كما يراه فيلسوف الحداثة السائلة زيغمونت باومان (2)

*ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

 

   زيغمونت باومان Zygmunt Bauman ( الذي توفّى قبل بضعة أسابيع ) هو من غير شكّ واحد من أكثر علماء الإجتماع تأثيراً على مستوى القارة الأوربية وعلى مستوى العالم كذلك ، وتشتمل قائمة كتبه – التي تُقرَأ في كل القارات – نحواً من ستين كتاباً واظب على نشرها بمثابرة واضحة منذ أن تقاعد عام 1990 من عمله أستاذاً لعلم الإجتماع في جامعة ليدز البريطانية – ذلك الموقع الذي شغله على نحو مستمر لما يقارب الثلاثة عقود .

   الحوار التالي هو القسم الثاني من حوار مع زيغمونت باومان منشور أصلاً بالألمانية في مجلة Das Magazin  وكذلك بالإنكليزية في مطبوعة 032c  ( العدد 29 المنشور في مطلع 2016 ) ، ويُلاحظ في هذا الحوار توزّعه على معظم المحاور التي عمل عليها باومان في كتاباته الكثيرة ؛ الأمر الذي يجعل من هذا الحوار ذا أهمية إستثنائية في معرفة الخطوط العامة لفكر باومان لمن لم يقرأ أعماله الأصلية .

                                                            المترجمة

 

               المحور الثاني : الفرد وشبكة العلاقات الحاكمة 

*  المجتمع الإستهلاكيّ – كما اعتدتَ القول – يجعل سعادتنا أمراً بعيد المنال لأنّ أمر سعادتنا موكول لنا – نحن الكائنات غير السعيدة ؟ !!

–  ” غير سعيدة ” تبدو مفردة كبيرة الحجم للغاية في سياق سؤالك ، ولكن لنلاحظ أن كل مدراء التسويق ( في كبريات الشركات ) لاينفكّون يؤكدون أنهم يسعون مخلصين لخلق نمط من الإكتفاء  والرضا بواسطة المنتجات التي تقدّمها شركاتهم ، ولو كان هذا القول صحيحاً لما إنتهينا إقتصاداً إستهلاكياً : لو أن الحاجات قد أشبِعت جميعها بالكامل لما كان ثمة سبب عقلاني يقتضي استبدال منتج بآخر صُنِع بعده .

*  المستهلكون هم أنفسهم صاروا جزءاً من السوق ، وصاروا – كما تؤكّد هذا – أقرب إلى الكائنات السلعية في أيامنا هذه ؟

–  ثقافة النزعة الإستهلاكية تدفع المرء ليكون تحت ضغط تحوّله لكائن آخر بقصد حيازة صفات تولّد طلباً سوقياً جمعياً : عليك أن تكون طرفاً في عالم التسويق وأن تجعل من نفسك سلعة قادرة على إجتذاب الزبائن . المفارقة في الأمر هي أن الدافع الضاغط لتقليد أي أسلوب حياة يتمّ تقديمه عبر المروّجين مدفوعي الأجر سيعمل على تعديل وإعادة صياغة الهوية الذاتية للفرد ، وسيبدو الأمر لا كاستجابة لضواغط خارجية بل كواحدة من دلالات الحرية الشخصية . هذه هي المفارقة الكبرى !!

*  هذا يحيلنا فوراً إلى موضوعة الهوية . بالنسبة إلى عالم الإجتماع الفرنسي ( فرانسوا دو سينغلي ) لم يعُد للهوية أية جذور  وراح يستخدمها ( على عكس المفهوم الراسخ سابقاً ) مفردة إصطلاحية تفيد معنى الملاذ أو المرساة ؛ إذ بدلاً من قطع كل جذورك الأبوية والإجتماعية الدائمية والراسخة يمكن لك أن تعيد تشكيل هويتك مثلما يفعل البحّار عندما يرفع المرساة أحياناً ويلقيها في البحر أحياناً أخرى ، وتلك عملية ليست دائمية أو نهائية لأن بالإمكان تكرارها أنّى نشاء . ماالذي يقلقك بشأن هذه الموضوعة ؟

–  لايمكن أن نغدو إنساناً آخر إلا عندما نقرّر بمحض إرادتنا أن نتوقف عن أن نكون الإنسان الذي لطالما عرفناه فينا من قبلُ – أي عندما نواصل – وعلى نحو متواتر – نبذ صورة ذاتنا السابقة ، وفي خضمّ توفّر سيلٍ لاينقطع من الخيارات المستحدثة دوماً فإننا نرى ذواتنا القديمة دوماً بالية الطراز ، ضيقة الآفاق ، وغير مُشبِعة على نحوٍ كافٍ .

*  أليس ثمة وسيلة يمكنها تحريرنا من هذا الميل الطاغي لتحويل كينونتنا على النحو المتواتر الذي بات لصيقاً بحياتنا الحديثة ؟

–  الدوران على أعقابنا والإنطلاق مع الحشود عندما يغدو الطريق وعراً قاتماً وتضيق قدرتنا على الصدّ والممانعة : مما لاشكّ فيه أن هذه الستراتيجية ليست بالأمر الجديد ؛ إذ لطالما إستخدمتها شعوب كثيرة على مرّ العصور ، ولكن الأمر الجديد في عصرنا هذا هو إنتزاع هويتنا الذاتية وتبنّي ذات جديدة مختارة من قائمة ( كاتالوغ ) ذوات عدّة ، وإنّ مايبدو أول الأمر خطوة باتجاه توطيد الثقة بالنفس ودفعها نحو آفاق جديدة غير مجرّبة سرعان ماينقلب سريعاً ليغدو روتيناً مسكوناً بنزعة هوسيّة تستحيل نمطاً ثابتاً لايمكن الفكاك من أسره ؛ وحينها تغدو عبارة ( يمكن أن تكون شخصاً آخر ) الباعثة على التحرّر والإندفاع مكافئة لعبارة ( يجب أن تكون شخصاً آخر ) الهوسية الباعثة على العبودية . إنّ عبارة ( ينبغي ) المغلّفة بروح الإلتزام الواجب بعيدة لأبعد الحدود عن حالة الحرية الحقيقية التي نتوق لها جميعاً ، ولهذا بات الكثيرون يتمرّدون على مفهوم الحرية المفروضة والمُدّعاة في عالمنا هذا .

16736742_1547684928593668_749673236_n

*  ماالذي يعنيه أن يكون المرء حرّاً ؟

–  أن يكون المرء حراً يعني أن يكون قادراً على السعي وراء تحقيق رغباته وأهدافه الشخصية ( هو وليس كائناً أو كياناً سواه ) . يَعِدُ فنّ العيش في المجتمع المكيّف إستهلاكياً في عصر الحداثة السائلة بتحقيق هذه الحرية ؛ غير أنه يفشل في الوفاء بوعده .

*  ” الجيل ” مفهوم نحته الفيلسوف الإسبانيّ ( خوزيه أورتيغا غاسيت ) قبل نحو قرن من يومنا هذا . ماالذي يعنيه هذا المفهوم في يومنا هذا ؟

–  انبثق مفهوم ” الجيل ” من قلب التجربة المروّعة التي جاءت بها الحرب العالمية الأولى – تلك التجربة التي فصلت جيلاً عن آخر ، وجعل التمزّق الحاصل في الهوية الأوربية من مفهوم ” الجيل ” واحداً من أهمّ الأدوات في بحث واستكشاف العوامل السياسية والإجتماعية المقسّمة للمجتمع . إن مفردة ” الجيل ” – تبعاً للمسوّغات العلمية الموضوعية – تقوم على طائفة واسعة من تجارب الحياة الذاتية وشديدة التباين عن بعضها ، أما في يومنا هذا فإن تجارب الحياة المعرّفة لمفهوم ” الجيل ” باتت تلعب دوراً أقل أهمية بكثير عن سابقاتها ؛ بل ربما لن يكون لها دورٌ يذكر بالنسبة للأجيال التالية .

*  ما الذي يعنيه هذا بالنسبة للجماعة ( البشرية ) ؟

–  فكرة الجماعة البشرية ( أو المجتمع البشري ) تمّ استبدالها بفكرة الشبكة network . تمتاز الجماعة البشرية بكونها صعبة الإختراق ( من قبل فرد لاينتمي لها ) ، وكمثال على ذلك ليس بمستطاع كلّ فرد أن يكون سويسرياً إلّا بعد أن يجتاز إجراءات طويلة ومعقدة على الأرض ، وفي الوقت ذاته فإن التملّص والإنفكاك من جماعة بشريةٍ ما هو أمر صعب بمثل صعوبة الإنضمام إليها ، كما أن تفكيك أواصر الروابط الإجتماعية التي تربط الفرد بتلك الجماعة يتطلّب موهبة مميزة وقدرة فائقة لاتُتاح للجميع ، أما مع الشبكات الإجتماعية ( مثل الفيسبوك ) فالحكاية مختلفة تماماً ؛ إذ يمكن للفرد أن ينضمّ ويشارك في تلك الشبكات أنى شاء وبطريقة يسيرة للغاية ، كما يمكنه مغادرتها بمثل سهولة الإنضمام إليها .

                       المحور الثالث : التقنية

 

*  تمتلك الشبكة العالمية ( الإنترنت ) العديد من الجوانب الإيجابية ، كما أستخدِمت العديد من الشبكات الاجتماعية لتدعيم الحركات الديمقراطية ( مثل حركة الربيع العربيّ ) . ماالذي تراه من جوانب سلبية في تلك الشبكات ؟

–  عندما يتعلّق الأمر بمحاولة تدمير شيء قائم ( مثل إزاحة حكومة ما ) فإن الشبكات يمكن أن تكون مفيدة بالطبع ؛ لكن الوهن الملازم لتلك الحركات ( الموصوفة بالديمقراطية ) هو أنها لاتملك سوى خطط ضبابية واهية بالنسبة لليوم التالي لنجاحها في الوصول إلى السلطة ، والمواطنون الغاضبون على حكوماتهم يكونون في العادة قوة جبارة إذا مانظرنا إلى قدرتهم الممكنة في التدمير ؛ ولكن ينبغي عليهم إثبات قدرتهم على بناء شيء جديد بمثل قدرتهم على تقويض الهياكل القديمة .

*  التطور التقني قاد دوماً إلى إحداث تغيير في المجتمع ، أما اليوم فإن التطور التقني بات ينطوي على ماهو أكثر من مفهوم التغيير . لِمَ هذا الأمر ؟

–  لأننا لم نعُد نوظّف التقنية في سبيل إيجاد وسائل مناسبة تقود لتحقيق غاياتنا ؛ بل صرنا – وعلى العكس من قبلُ – نسمح لغاياتنا بأن تحدّدها الوسائل التقنية المُتاحة ، أي – بكلمات أخرى – ماعُدنا نطوّر التقنية بقصد إنجاز مانبتغي إنجازه ؛ بل صرنا ننجز ماتتيح لنا التقنية الحاضرة إنجازه .

*  ولكن ألم تكن هذه الحالة هي السائدة على الدوام ؟ إذ منذ إختراع العجلة وحتى شطر الذرّة فإن التطورات التقنية أستُخدِمت في كل المجالات الممكنة سواء أكانت خيّرة أم شرّيرة .

–  المسألة برمّتها هي مسألة البعد المفاهيمي : بالطبع أثّرت التطورات التقنية على الطريقة التي نعيش بها ؛ غير أن النتائج التي جاءت بها كانت عرضة للإنتقادات دوماً . هذه هي الحالة تماماً عندما إخترع ( غوتنبرغ ) المطبعة ؛ إذ ساد شعور بين أفراد الطبقة المثقفة تثقيفاً عالياً بأن هذا الإختراع سيقود لامحالة إلى الإنحلال الأخلاقيّ ، واشتكى هؤلاء الأفراد من ( أنّ كلّ فرد ستُتاحُ له إمكانية القراءة ) لأن الرأي السائد بينهم كان بضرورة أن يبقى أفراد الطبقات الدنيا غير متعلّمين أو قادرين على القراءة ؛ فقد رأى أفراد الطبقات العليا أن القراءة تفسِد رغبة غير المتعلّمين في الإنكباب على العمل .

*  ولكن هذه الحالة هي تماماً ماحصل مع الشبكة العالمية ( الإنترنت ) ؛ إذ وفّرت هذه الشبكة التعليم المجاني لملايين يصعب إحصاؤها من الأفراد في أكثر بقاع العالم فقراً – ذلك التعليم الذي لطالما حُرِموا منه لسنوات طوال . إذن ، لِمَ هذه الشكاوى غير المسوّغة ؟

–  تميل التطورات التقنية تأريخياً لأن تحصل في خطوات صغيرة ؛ إذ كان دوماً ثمة إبتكارات هنا أو هناك ولكن ليس بمقياسٍ عالمي وبعيداً عن أية نتائج ذات زخم ثوري ، كما لم تبلغ تلك الإبتكارات كل المجتمع وطريقة حياة جميع أفراده . ماكان يحصل في العادة هو إمتصاص وتكييف تلك الإبتكارات بحيث تصبح جزءاً من الحياة اليومية للمجتمع ، أما اليوم فقد باتت الإبتكارات مختلفة تماماً عمّا سبق لأن التغيّرات التي تأتي بها التقنية في أيامنا هذه غدت تؤثر في كل أفراد المجتمع كما باتت توفّر إمكانية نشوء بعض التوجهات الشمولية : أطلق أحد الأثرياء الأوليغاركيين الروس ( ديمتري إيتسكوف ) مشروعه المسمى ( المبادرة 2045 ) التي ترمي لجعل الدماغ البشري شيئاً يمكن الإستغناء عنه !! ، ويموّل هذا الثري اليوم مشروعاً لتطوير آلة ألكترونية مصممة للتفكير مثل كائن بشري ، ولست أدري كم هي واقعية هذه الفكرة ولكن لابدّ من وجود من يفكّر بمثل هذه الأمور التي كانت تعدُّ غير واقعية حتى وقت قريب للغاية ، وها نحن نشهد – للمرة الأولى – كيف يمكن للآلات أن تكون مصدر تهديد جدّي لأنماط التفكير البشري .
____
*المدى

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *