من تمثل الزمن إلى تمثيله

خاص- ثقافات

*د المصطفى سلام

صدر للباحث المغربي  د عبد الكبير الحسني دراسة تحث عنوان ” البنيات الدلالية للزمن في اللغة العربية – من اللغة إلى الذهن ” و هي من بين الدراسات التي تبحث في التجربة الزمنية و كيف يتم تمثيلها في اللغة العربية . و هذه الدراسة ليست الوحيدة في هذا المجال، بل هناك دراسات و مقاربات و أبحاث لمفهوم الزمن سواء داخل الحقل اللساني أم الفلسفي أم الديني أم الروائي ….

الإنسان في تفاعله مع الواقع أو العالم، ينقل ذلك التفاعل عبر اللغة، باعتبارها تمثيلا للوجود و تصويرا للأشياء. و لما كان الزمن عنصرا من عناصر هذا الوجود ، فإن الإنسان نقل تمثله له عبر اللغة ، أي ضمن صيغ و ملفوظات و تعابير لسانية . و هذا الأمر، ليس خاصا باللغة العربية فقط، بل لكل لغة إنسانية نسقها الزمني.

إن التمثل الزمني عند الإنسان مقترن عامة بالإدراك الحسي ،أي أن الذات من خلال الأجهزة العصبية و غيرها المسولة عن الإدراك ، تقوم بتمثيل و ترميز الزمن . و ما يلاحظ ، أن الإدراك واحد و التمثل متعدد و متنوع .  إن التجربة الزمنية تجربة تعاش و تدرك ، و يتم تمثيلها و مفصلتها أي تقطيعها وفق ما تتتيحه  اللغة من إمكانات التقطيع و المفصلة :

الذات          +            الواقع / الزمن        =                تمثلات و تصورات

لقد نظر الباحث من خلال فصول الكتاب الأربعة في التمثيل اللغوي لعنصر الزمن بهدف أن يدرك أو يفهم بنية الذهن عند الإنسان .
في الفصل الأول :”  البنية التصورية للزمن  ”  أسس الباحث تصوره لهذا الموضوع  انطلاقا من الآفاق التي أتاحها التحليل الاستعاري و اللساني ، و كذا الإمكانات المنهجية و التأويلية التي راكمها التحليل اللساني في مقاربة ظواهر إنسانية و ثقافية و مادية و رمزية .
إن الزمن في هذا التمثيل اللغوي هو إما مدة أو لحظة أو ورود أو حدث أو مصفوفة أو منفذ أو بضاعة و بالتالي كانت هذه أهم التصورات الخاصة بالزمن في التعبير اللغوي العربي.
تدرك الذات الزمن أو تعيه ، من خلال إحساسها به، فتعبر عن ذلك من خلال معجم خاص به. و هذا المعجم يشيد تصورا ي تمثيلا ذهنيا لموضوع الزمن ، فيتم تداوله و استعماله و بالتالي تأويله . و عندما يتم حصر هذا المعجم من جهة و ضبط جغرافية هذا التصور يمكن أن نتحدث أو نفكر في نمذجة لهذا الموضوع .
لقد انطلق الباحث من مركزية الذات أولا لتحديد التصورات الخاصة بالتقطيع الزمني :  ماضي و حاضر ثم مستقبل . الذات نقطة مرجعية : ما يقع وراءها يشكل الماضي و ما يحدث أمامها يكون المستقبل ، و بالتالي فالذات إما تتحرك في اتجاه الزمن أو الزمن يتحرك في اتجاه الذات و يتجاوزها . و هذا التصور بسيط و سائد و متداول، لكن كيفية تمثيله و تأويله هي العملية التي تستحق جهدا و بحثا . لقد استعان الباحث بدراسات سابقة و أبحاث في هذا المجال و حاول أن يضيف إليها جديدا من خلال تعالق التصورات التي انطلق منها . و يدرك القارئ المتخصص في الأبحاث اللسانية الحديثة أن هناك قاعدة :
1 – الزمن إحساس و إدراك داخلي و بالتالي تصور و تمثل و تمثيل .
2 – التعبير عن الزمن هو تجسيد لذلك الوعي من خلال اللغة.

لقد صاغ الإنسان تجربته الزمنية انطلاقا من إجراء تقطيع أو مفصلة للزمن، فصاغ الماضي و الحاضر ثم عبر عن المستقبل. و لإدراك ذلك أو تأويله هناك آثار لغوية أو قرائن مثل ما يعبر عن اللحظة أو الحدث أو الإحالة أو الامتداد ….

في الفصل الثاني  ” بنية النماذج المعرفية للزمن ” حاول الباحث ان ينطلق من بعض النماذج المعرفية الخاصة بالزمن مثل :  نموذج تحرك الذات و نموذج تحرك الزمن ثم نموذج التسلسل الزمني .

إن اللغة العربية ليست استثناء في التمثيل الزمني، بل لها نسقها الزمني الخاص بها، كما لها خصوصياتها في التعبير و التدليل عن ذلك. و قد اتخذ الباحث من السؤال التالي منطلقا  للبحث:  كيف تتم الإحالة على الزمن في اللغة العربية ؟  طبعا هناك إجابات كثيرة قدمتها دراسات و أبحاث في هذا المجال، و قد استثمر الباحث نتائجها و آفاقها المعرفية و المنهجية.

في لفصل الثالث ” بنية النماذج الدلالية للزمن ”  اعتمد الباحث هنا على المدخل المعجمي لما تحمله المداخل المعجمية من تمثلات دلالية على أساس أن المعجم ليس وحدات لغوية مستقلة و فارغة من حيث المعنى ، بل هناك قواعد و ضوابط تخضع لها الصناعة أو التأليف المعجمي .
إن الزمن حاضر في الذهن من خلال إحساس الذات و تجربتها الإدراكية و ممثل أو مشخص في اللغة معجما و دلالة و تركيبا . لقد نظر الباحث في هذا الفصل إلى الزمن كوحدة معجمية و كيف تغتني دلاليا أو تتعدد معانيه . وقد حصر الباحث ثمانية تصورات معجمية للزمن ( ص 143 ) . لقد خلص الدارس في هذا الفصل إلى النتائج التالية :
– للزمن تعدد دلالي ، يدرك في تراكيب اللغة و معجمها و دلالاتها، إضافة إلى السياق المؤطر لتلك التجربة
– سعي الإنسان إلى التجريد و النمذجة في ما يخص عنصر الزمن و التمثلات الخاصة به .
– للتجربة اللغوية ذاكرة و تاريخ ، و تسعى الذات الإنسانية إلى بناء و توليد معاني جديدة للزمن من تلك الذاكرة و التاريخ .

و يعد الفصل الرابع : ” التصور الاستعاري للزمن ”  الفصل الأخير قبل الخاتمة، حيث تناول فيه الباحث الزمن  كموضوع استعاري . و الاستعارة خاصية من خصائص اللغات الطبيعية، و قد ازداد الاهتمام بها،  حيث عقدت ندوات و نظمت مؤتمرات و ألفت فيها دراسات و أبحاث كما حظيت باهتمام علماء اللغة و المنطق و الفلسفة و علماء النفس و لم تعد شكلا بلاغيا أو نوعا من أنواع الزخرف اللفظي و البيان الدلالي ، بل هي تصور و تمثل للوجود . من هذا المنطلق تناول الباحث التصور الاستعاري للزمن .
توصل الباحث في هذا الفصل إلى أن الزمن لا يدرك كقاعدة في اللغة، أو بعد من أبعادها ، بل هو جزء من النسق الذهني أو النظام الإدراكي عند الذات ( ص 194) . و قد استند الباحث في مقاربته هاته على : ” الاستعارات التي نحيا بها ” إضافة إلى بعض المفاهيم المركزية مثل الخريطة المعرفية .
لقد  نظر الباحث في التصورات الاستعرية التالية :
– التصور الاستعاري للمدة
– التصور الاستعاري للحظة
– استعارية الورودات الزمنية
– استعربية التسلسل الزمني
– استعارية المصفوفة
– استعارية الزمن منفذ – فاعل
– استعارية الزمن بضاعة
– استعارية نظام القياس الزمني
إن الاستناد إلى الاستعارة كتصور معرفي لدراسة التمثلات الزمنية وفق قالب الاستعارة ، كشف عن ثراء التمثل و غنى التصورات الخاصة بالزمن في اللغة العربية . إن الزمن جزء من الوجود، من العالم الخارجي، إلى جانب الأحداث و الأشياء و الأفكار ….. و الذات من خلال اشتغال الذهن و الفكر و الخيال تؤسس تصورات و تبني تمثلات  لما أدركته في الخارج أو أحست به في الباطن ؛ و ذلك لا يتم إلا وفق النسق اللغوي من خلال آلية الاستعارة .
من خلال هذا البحث الرابع في التمثيل الاستعاري للزمن ، ندرك إحدى خصائص اللغة من جهة و خصائص الذهن الإنساني من جهة ثانية.
و يثير البناء الاستعاري لموضوعات و أشياء الواقع الخارجي أو الافكار المجردة أسئلة في كيفية بنائها و طرائق صياغتها ، فإن تأويلها من جهة ثانية يبعث على السؤال و يثير بعض القضايا، لعلها عولجت في مباحث التأويل و إشكالات الترجمة .
لقد اشتغلت هذه الدراسة حول مفهوم مركزي ، يتعلق الأمر بالزمن ، ليس كقاعدة لغوية أو مستوى من مستوياتها ، بل كتمثل ينشئه المتكلم و يشيده ضمن إمكانات النسق اللغوي الذي يتكلمه . و قد راهنت هذه الدراسة أساسا على فهم و إدراك كيف يتمثل الإنسان الزمن ضمن النسق اللغوي؟
و تعتبر هذه الدراسة مقاربة غنية بكثير من الأفكار حول الزمن كتجربة يعيشها الإنسان و يعبر عنها من خلال ما تتيحه اللغة كنظام رمزي تمثيلي للوجود . و بهذه الدراسة يكون الباحث قد فتح أفقا جديدا للنظر في كثير من الموضوعات مثل الفضاء. غير أن  تجربة الذات الإنسانية مع الزمن هي أكثر تأثيرا من غيرها من القضايا الأخرى .
لقد كان رهان الدراسة هو ضبط جغرافية الذهن من خلال التمثيل اللغوي لمقولة الزمن ، غير أن بنية الذهن البشري لا تتأسس فقط من خلال تمثلات أو تصورات خاصة بالزمن فقط ، لأن ما يؤسس ذلك يتعدى الزمن . و في الأخير ، تبقى لهذا العمل جدارته و أهميته في البحث اللساني المغربي و العربي ، و يستحق القراءة و المتابعة النقدية و التحليلية . و هذا ما نهيب به غيرنا من أهل التخصص .

___
*أستاذ باحث المغرب

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *