هو الشعر مسلح .. ببؤس الإسمنت الأعزل!

خاص- ثقافات

 

عبد الرحيم أبطي*

هوامش على متن نثيرات الشاعر أبي بكر متاقي الفايسبوكية.

هذه قبورنا تملأ الرحب ..  ( المعري )

على سبيل البدء

بين الكلمة الشعرية المبدعة و شروط قولها الفني و التعبيري ثمة اشتباكات و تجاذبات فكرية و نقدية شتى دونها خرق القتاد .. لذلك تستدعي الذاكرة ، في هذا المقام ، أفلاطون ؛ ذلك الفيلسوف غير الرحيم ، و قد أخرج دونما رفق يذكر الشعر و الشاعر من مدينته الفاضلة حينما استكمل ، في إطار جمهوريته المعروفة ، رسم خطوط طبوغرافيتها وهياكل صروحها النظرية و الفكرية بموجب ، ما رآه  مبررا لذلك ،  افتقاد الشاعر العقلانية التي اقتضتها معاييره الأخلاقية و الإبستيمولوجية ، فآلهة الإغريق تأنف ، على حد زعمه الفلسفي ، من صور الشاعر المشوشة و المضطربة ، ولا ترضاها بصيرتها وحكمة تدابيرها العلوية المقدسة.

الشاعر .. طريد المدينة والمشهد الشعري

وإذإ كان أفلاطون قد أقام الفروق و الاختلافات الممكنة بين ساكنة هذه المدينة الفاضلة ( الجنود ، الحرفيون و الصناع ، الفلاسفة و الحكماء .. ) ، و حدد مهام و مسؤوليات كل فئة منها ، بما في ذلك أهواءها وشهواتها .. فإن حركة التاريخ الدؤوبة ، وهي أمكر الماكرين ، و ما يشهد به الواقع الذي تحفظ سجلاته أن الرمال كانت دائما تحت الأرجل رجراجة متحركة ، بحيث لا تكف ديناميتها عن العبث بكل الفروق و الحدود المصطنعة أو المزعومة .. فكم شاعرا متأدبا طلق الشعر والأدب (بالثلاث) اضطرارا ليصرف وكده و جهده  لورشته و تدبير شؤون معيشه  .. ؟! .. و كم  جنديا أو صانعا حرفيا أدركته لعنة حرفة الأدب والشعر فانتهى به المطاف أسيرا لغواية القوافي و متعهدا لدلالها و غنجها .. ؟! .. ونذكر على سبيل المثال لا الحصر :  أبو الحسين الجزار ( ت 672 هـ ) ، سراج الدين الوراق ( ت 659 هـ ) ، نصير الدين الحمامي ( ت 712 هـ ) ، ابن المؤقت ( ت 1369 هـ ) .. و غيرهم كثير .. أما أبو بكر متاقي ، الشاعر البناء أو البناء الشاعر ، فقد اختار عن قناعة  ( أو اضطرار ) الإقامة في ” المابين ” لما تراه  بين المنزلتين يقدم  رجلا أو يؤخر أخرى .. شجاع هو قراره الانكفاء في ” هامشه ” الشعري ( والمعيشي .. كذلك ) عن سابق إصرار إرادة  و ترصد فكري و شعري  لعلل شتى تنخر الجسد المتهالك للمشهد الثقافي العربي و الوطني لا يكشف عنها إلا لأصفيائه  و مصطفيه من الضالين .. إذ لم يتبق له من سند أو اختيار، كالعديد من من مجايليه من الشعراء و المتأدبين التسعينيين ، غير الإطلالة من حين لآخر  للتواصل مع جمهور قرائه من خلال تدويناته الشعرية عبر الفضاء الأزرق ( الفايس بوك.. تحديدا )  معرضا عن زرقة  ” بحر الظلمات ” موليا الظهر لغدر أمواجه الهادرة وجفاء زبدها ..

11

نثيرات .. بين المشهدية والتقشيراللغوي

ففي إحدى نثيراته المتحررة من أي عنوان أو تصدير نصي ( و كذا ديدنه في غيرها من النثيرات الأخرى )  .. يقول أبو بكر متاقي :

أستظل تحت أشجار ميموزا و خلفي بحر الظلمات

رنين معاول يتلاشى

من جهة البحر يأتي ضباب يملأ المنخفض فتختفي المنازل.

بهذه الأحاسيس المشوشة تجاه المكان و الزمان و الناس أشعر الآن.

هذا ” التقشير اللغوي ” للكلمة  العارية في النثيرة هو عماد بلاغة الإيجاز  الملحوظ في التعبير الشعري  لما تتولى الذات الساردة / الواصفة  استعراض وقائعها و موصوفاتها الروتينية  في غيرما انتباه أو مشاركة وجدانية أثيرة .. فلا شظف العيش  يأسر الانتباه عدا بؤسه الرهيب  الذي هو ظله ، أو بالأحرى صداه الذي يملأ السمع ” رنين معاول يتلاشى ” .. و لا جماليات للمكان أو الزمان  تستأثر بالوجدان ” خلفي بحر الظلمات ” .. ولا غيرها من اهتمامات المعيش اليومي و تفاهة تفاصيله الصغيرة المكررة بقادرة على انتشال الذات مما يساورها من ظنون و هواجس ، أو يستبد بها من اضطرابات و قلق الوجود : الزمان ، المكان ، الناس .. قد تعود الذاكرة ، بخصوص هذا المشهد الذي يؤثثه  ” البحر ” على نحو موارب و مقصود ، بقارئ الشعر الحديث إلى البدايات  الأولى لوجدانيات الشاعر العربي خليل مطران في قصيدته  الشهيرة  ” المساء ” ، وما قد يصاحبها من تأثر وانفعال  ذاتيين .. و ليستحضر من خلال هذه ” المشهدية ” كل الفروق و الاختلافات الممكنة بين الشاعرين ..  وفي سياق شعري آخر لنثيرة ثانية تلفت انتباهنا  السنون و حكمتها  اللاذعة  ، في عبارة شديدة الإيجاز ، وهي تعصف بكل هشاشة عاطفية  مدعاة  للآباء و الأجداد  الرومانسيين  حريصة  ، في ذلك ، على كنس كل أثر للإيحاءات اللغوية  و الرمزية الوجدانية  الموروثة.. يقول أبو بكر متاقي :

منذ سنوات

آمنت أن العطر شتيمة

منذ سنوات

كفرت بوعود الشرفة

أقصد العطر الذي يجعل من امرأة محط شم و لا شيء غيره .

و أقصد الشرفة التي هي ركن أساس  في فكر لصوص المنازل.

نوسطالجيا واغتراب وبوح يائس..

و تتراقص  أمام  ناظري الذات الشاعرة العاشقة وعود المرأة المعشوقة ، أو بالأحرى ما تبقى من رسومها وأطيافها التي عفى عنها زمن هارب ( ضائع ) ، لتنخرط في  حمى نوسطالجيا آسرة  تعود بالذاكرة إلى ” وادي بغيض”، و ما جرى عند مائه من خصام وود بين جميل و صاحبته  .. نوسطالجيا  لاتحتفل بالحياة او تنتصر لجموح الصبا و مرحه  بالقدر الذي تجنح فيه إلى البوح اليائس على وقع  تكرارات النهاية    Epiphoresالمتلاحقة في قلق و رتابة  ملحوظين  .. يقول أبو بكر متاقي :

وعدها ملفوف في كتان على الرف .

السيدة سين عين طراز قديم .

في حقيبتها صمتي القديم .

من جرابي نظراتها القديمة .

أحببتها قبل ثلاث و عشرين عاما بدافع عداء إيديولوجي .

ثمة مفارقات ساخرة و جلد صريح معلن للذات المغتربة ضحية اليومي و متطلباته القاهرة .. وتعليقات سريعة كضربات فرشاة عجلى يتدفق بموجبها  سيل من الصور المتسلسلة المنثالة على نحو مدهش و مباغت مما يجعل قارئ النثيرة اسير حركة بندولية  le va et vient   تأرجحه عبر مهود تاريخ و جغرافية هذا الوطن العاق.. يقول أبو بكر متاقي :

أدفع كغيري ، ضرائب سائلة في الدكاكين ، و أخرى جافة  في الأوراش . أقدس

كسرة الخبز أقبلها و أستغفرها ، كسرة الخبز  التي ما أن تصير في كف

جائع حتى تنبسط أساريره و تضيء .

” هدم و بناء ” على مستوى الدلالة الشعرية .. أو ذلك  ” المحو و الكتابة ” الملحوظان حينما تغدو تعاسة الذات و بؤس” دكاكين “ها ، في موقعها من السياق  النصي ، بديلا ل” حوانيت ” لذة طرفة  بن العبد  في معلقته بالقدر الذي تغدو من خلاله  ، في السياق نفسه  ، “كسرة الخبز ” المقدسة و المضيئة بديلة  لمعشوقة امرئ القيس منارة ممسى راهب متبتل ” حينما تضيء الظلام سراجا لقاصدها الليلي ..

وفي ضوء هذه المفارقات الساخرة ينتصب كل من الماضي و الحاضر حافزا (و فضاء .. طبعا) لسرد متوثب و سريع  يؤلف بين تقنيات شتى : الفلاش باك ، الخلاصة ، التعليق .. ترشح جميعها بغصة في حلق الذات الساردة، وهي تستعرض خيباتها وهزائمها المتلاحقة  التي حصدتها على مدار كل الجبهات و الحروب الصغيرة التي خاضت نزالاتها .. يقول أبو بكر متاقي :

.. في تلك الأيام كنت أهيء نفسي لأكون ناقدا و مترجما ( أقهقه الآن

بملء شدقي بعد أن انتهيت إلى قائد ميداني صغير لفيلق من

الحدادين ثم بعدها إلى مجرد مياوم منزوع الصلاحيات).

في الحقيقة لدي فوبيا أرفف فطرية باعتبارها تحيل مباشرة على

فكرة التنظيم ، و لذلك أتفهم الفوضى حيث تكون.

عدم تضيق به الأرض والسماوات.

جفت الأقلام و رفعت الصحف .. هو حلم  مجهض كغيره من الأحلام الصغيرة الأخرى  للذات الشاعرة التي يتشاركها جيل تسعيني يحرص على ” حياة ” يصادرها بؤس  المعيش اليومي ما استطاع إليها سبيلا .. بعدما أعيته  يد الحيلة ، و تفرقت به سبل القهر و الضياع، و أوصدت التنظيمات المدنية والمجتمعية أبوابها في وجه تطلعاته وانتظاراته الذاتية المشروعة.. يقول أبو بكر متاقي :

الخروج

من هذا المطب  ،

بعشرين كلمة معافاة معجزة .

لن يحدث ذلك أبدا

على يميني فأس

على يساري رفش

في سمائي غربان (كأني بصدد قبر)

و يقال إني أقف فوق أرض تختزن نحاسا في طور التشكل ..

هل تسعف العبارة  صاحبها أم تخذله ..؟! .. كما تساءل الراحل أحمد المجاطي ذات لحظة شعرية نازفة ، ف” الخروج من هذا المطب ” بات أمرا دونه مشاق جسام تفوق قدرات الذات و سقف اختياراتها  المحدود .. أم أن حق النفوس وشرطها ، في عرف الشعراء ، إذا كانت كبارا أن تتعب في مرادها الأجسام ..؟!.. ليس لهذه الذات الموغلة قدما في عذاباتها من  ” اختيار ” وقد  ضاقت أرضها و سماؤها  ( على السواء ..! ) بما رحبتا به من عدم غير قبور وغربان .. غير بصق ” شتيمتها ” ( الشعرية ) على الملإ في انتظار قبر جديد  .. يقول أبو بكر متاقي :

أفكر في شتيمة جامعة مانعة

لا يأتيها باطل و لا حق

و لانسيان ولا تذكر

أفكر فيها حقا و أنا أنهي حفر منبتها في هذا الصفر المسيج بالجرنيج و الكندول .

————-

* كاتب من المغرب.

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *