شعرية الانبثاق … مسار التحوّل في رواية “الأطلسي التّائه”

خاص- ثقافات

*عبد الحفيظ بن جلولي

 

تجعلنا رواية “الأطلسي التّائه” لمصطفى لغتيري أمام إشكاليتين أساسيتين، تتعلّق إحداهما بموضوعة شعرية السّرد، وهل تتكشّف هذه الشّعرية من خلال التلقي، أو من خلال المستويات التركيبية والدّلالية في النص؟ وثانيهما تتعلق بتوهّجات السّلوك الصّوفي في مسار التخلي والتحلي والتجلي، وضمن موضوعة السّلوك تنبثق العلاقات الفرعية بين السّياسي والرّوحي وبين الشّعرية والتحوّلات في مسار الحدث.

يرى محمد برادة بأنّ الإبداع لا يتحقّق إلا أذا توفّرت “استقلالية” تمنح للمبدع هامشا معتبرا لصياغة الرّؤى “وفق تفاعل وتجارب تكون الذّات المبدعة فيها هي عصب الموضوع وحامله”، ورواية “الأطلسي التائه” تضع المعيار الموضوعي لحركة الرّوائي المجتمعية المبرمجة إبداعيا داخل إطار الاعتمال الثّقافي والسّياسي والرّوحي الذي يحرّك دواليب الوجود الاجتماعي ويساهم في خلق دينامياته الرّؤيوية، فالتصوّف والسّياسة واللغة والسلطة، جميعها وقود الحركة الاجتماعية التي تساهم في تشكيل المخيال الاجتماعي، حيث يتأسّس هذا الأخير ويشهد انوجاده من خلال هجرة النّسق الواقعي إلى المخيال الذي يحرّك نسق الشّعرية فتتفجّر حركة السّرد من خلال حركة الحدث وتحوّلاته الانبثاقية، فمسار السّرد في الرّواية يتأسّس على موضوعة الانبثاق، والمكان والشّخصية والزّمن كلّها تتحرّك ضمن مخطّط الحركة المتجدّدة المعرّفة داخل مجال الانبثاق.

فحوى العنوان / جدل التحوّل:

يكشف عنوان الرّواية على جدل البحث عن الذّات من خلال سلطة المكان، و”الأطلسي التائه”، عنوان يحدّد مجالا جغرافيا يعرّف ذاتا “تائهة”، فالهوية الجغرافية تلتصق بالذّات لتصنع بصمة الحركة الارتجاعية إلى المكان، فيتحدّد هذا الأخير كمرجع لا تنقطع الإشارة إليه، ويصبح دالا على الذّات ومفسّرا لعدد من جوانبها الغامضة، ولعلّ التّيه لا يتعلق فقط بحركة الشّخصية الرّئيسة “أبو يعزى الهسكوري” الهجروية وحسب، بقدر ما يعبّر بعمق عن أزمة البحث عن الهوية المركزية في ذات أبا يعزى، فهو أمازيغي يتشكل ضمن ثقافة ولسان عربيين، فعند لقائه بأبي بكر بن العربي تأسّف لأنّ الشّيخ “لم يكن يتقن اللسان الأمازيغي”، عبد أسود يتحرّك ضمن فضاء الفقهاء والعارفين والمثقّفين والأشراف، ولا يتحدّد بمكان نظرا لحالة الهجرة الملازمة له، فالتّيه في الرّواية ليس علامة ثابثة بقدر ما هو حالة انبثاقية تشمل تفاعل الشّخصية الرّئيسة مع معطيات الحدث المنبثقة أصلا من التحوّل واللاثبات، سواء في الزّمن أو المكان أو السّلطة أو الشّخصية، وهو ما منح الرّواية شعرية من خلال الانبثاق التّصاعدي للشّخصية ضمن المجريات التحوّلية في الحدث.

انبثاق الشّخصية / شعرية التجلي:

تشكل شخصية أبو يعزى النّموذج البسيط، الأمّي غير الحاصل على مستوى من العلم، لكنّه تأسّس بداية من انشغاله بمحاولة المعرفة، إذ كان مهتما بمساعدة أمّه في الأشغال المنزلية، كما أخذ عن جدّته معرفة الفوائد التطبيبة للأعشاب، ثم بعد ذلك في مرحلة تالية وقف على عالم الرّعي، ولكن لقاءه بإبراهيم المثقف / الفقيه / السّياسي قلب حياته رأسا على عقب إذ فتحه على عوالم الرّوح والسّلوك في ذات الوقت الذي جعله في مواجهة مع الموقف من التّغيير، بحكم موقف إبراهيم المعارض لسلطة المرابطين. يموت إبراهيم، ولا يعني موته سوى تفجير حالة الحيرة والتّيه في مسار أبي يعزا، وكتعبير عن حدّة الحيرة ترسم الرّواية هامشا شبحيا  لاستمرار نسق شخصية إبراهيم، يرجع إليه خيالا في أموره المؤرّقة، وتحرّر هذه الحيرة تيه الشّخصية الرّئيسة، فتُبدّل المكان، وتبديل المكان يمارس لعبته في كتابة الشّخصية على منوال متغيّر من الألقاب، تكرّس منحى الانبثاق الشّعري في مسار السّرد، فمن أبي يعزا إلى بوجرتيل، بو نلكوط، المملوكة وأخيرا يلنور، وذاك عندما وصفه شيخه بأنّه “نور من أنوار الله”، وكانت هذه الألقاب تُلصق به في كل وضع يغيّر معه المكان وتظهر كرامة من الكرامات التي كان المخيال العامّي يتفنّن في تخليقها، لأنّه سأل يوما شيخه عن “ما حكاية الناس مع الكرامات؟”، وتبيّن حركة السّرد هذا التّساوق في توهّج ذات سائرة دون قصد منها في طريق السّلوك، لأنّها شربت من معين المحبّة الذي فجّره إبراهيم حين حديثه لأبي يعزا عن الحلاج، غياب قصد السّلوك يحرّكه السّرد بتغييب علامات الخلوة الصّوفية التي تتحوّل من الذّات إلى المجتمع، وذاك حين ينخرط أبي يعزا مستثمرا ما استفاده من أسرار الأعشاب في تقديمها دواء وغذاء “للجوعى والمرضى والمعطوبين”، وهو ما جعل العامّة تفتتن به، وينخرط في المنحى الاجتماعي الذي يؤجّج معالمه التوهّج الوجداني، وبذلك تستعيد الرّواية التوغل الصّوفي في المنحى الاجتماعي انطلاقا من “مأساة الحلاج” كما يسمّيها صلاح عبد الصّبور، فالتخلص منه كان لافتتان العامّة كمصلح اجتماعي وليس لهرطقته الدّينية، فالتصوّف تعرية للذّات أمام توهّج الباطن الجمالي الذي تخفيه شهوات الدّنيا كالسّلطة والجاه والمال وغيرها، وهو ما حذّر إبراهيم منه أبا يعزى، لأنّ التصوّف كسلطة يتمثل في اندراج المتصوّف في حركة المجتمع، حينها يكون مجرّدا من سلطة الشّهوة التي تجعله قويا في مواجهة سلطة المجتمع وهرمياته المهيمنة، ولقد كشفت الرّواية هذا الجانب الجمالي في إعادة التأنيث لزوجة الشّيخ من خلال الاستثمار في الجانب الأنثوي في الذكورة، إذ نذر نفسه لمساعدتها في أمور البيت متخفيا في زيّ امرأة، ورمزية المعطى تتجلى في اكتشاف الصوفي للجمال الكامن في الباطن وبه يكتشف جماليات الظّاهر في الأشياء، وهو ما يضعنا أمام الفهم الإبداعي لابن عربي حين لا يعوّل على كل مكان لا يؤنّث.

مسار السّرد / مسار الانبثاق:

تمثل العلامة في رواية “الأطلسي التّائه” عنصرا ذا وظيفة تأمّلية، فالشّخصية الرّئيسة “أبا يعزى” تشكل بؤرة تتفرّع منها أنظمة دلالية وإشارات ورموز تشكل مجمل الحدث وتطوّره الدرامي، فرحلة أبا يعزى تفجّر سؤال التصوّف الجوهري المتمركز حول المحبّة، فالصّوفي يسعى “من خلال التّجربة إلى محاولة التواصل مع مصدر المعرفة”، ولا يمكن الوصول إلى هذا المقام إلا عن طريق الحب مهما استعصت حالات التّجربة، ولعلّ منابع الحب وهي تتفجّر في قلب أبي يعزا (الأسود) اتّجاه “لالة فاطمة الزّهراء” الشّريفة، يحمل دلالة عنف التّجربة واستحالة تحقّقها، لكن المعاناة في ممارسة التّجربة هو ما يبني جدل الوجود القائم على الحركة كدحا نحو الغايات النّبيلة، والرّواية تكشف في مسارها الحدثي عن هذا الهامش الثوري في وجودية الصّوفي، فالمحبة معاناة، و”مصدر المحبّة” هو الغيب بعينه الذي لا يمكن الوصول إليه، لكن استحالة بلوغ الغاية هو ما يمنحها شفافية الرّؤية وحقّانية القصد، اللذان يشعلان في السّالك لهيب المحبّة والوجد والوله، لهذا تكون الخلوة هي ملاذ العشّاق العابرين إلى الله، ولم يكن ليَتِمّ حب أبا يعزا للالة فاطمة، رغم أن خيوط الوصال تحقّقت في شفاء المحبوبة من خلال دواء “العبد الأسود”. افتراق المسارات هو ما كرّس ديمومة المحبّة في قلب أبي يعزا، وموت المحبوبة لم يكن سوى إماتة للشّهوات البرّانية الدّخيلة على خيوط المحبّة الجوّانية، فتحلى قلبه بالمحبة في ارتحالها الفنائي (موت لالة فاطمة) المتخلّص من ترابية الجسد، والمحرّر لشحنة الرّوح، وكان ذلك تجليا لانبثاق مسار الانعتاق، انطلاقا من رمزية التحوّل في مسار السّلطة من المرابطين إلى الموحّدين، والتحوّل في مسار الشّخوص التي أثّرت في مسيرة أبي يعزا الوجودية / الصّوفية، والتي رغم توهّجها الرّوحي إلا أنّها كانت تلتمع بشيء من التجلي في مكامن السّياسة، بالولاء إمّا للمرابطين أو الموحّدين، فالمعلّم إبراهيم فقيه سياسي، نهل من سيرته وعلمه أبو يعزا التائه في دنيا الرّوح، لكن وصيّة المعلم كانت الابتعاد عن درب السّياسة، فالرّواية لم تحدّد الطريقة بشكل السّلوك وإنّما باندراج المعنى في السّلوك، أي توهّج الوله الصّوفي داخل المسار المجتمعي، وهو ما توفّر من خلال عناصر الرّعي والتّطبيب بالأعشاب ومراعاة أحوال النّاس. يبدو أنّ المَعْلم البارز في شعرية الانبثاق هو التحوّل في مسار المكان في وجودية أبا يعزا، فمن هسكورة إلى مرّاكش إلى فاس وخلال ذلك أمكنة متعدّدة فرعية: رباط أكلو، حاضرة تتزنيت…، تشكل هذه الأمكنة في مسار تطوّر الحدث، فضاءات مغلقة مقارنة مع ما ستنتهي إليه الرّواية في ما يتعلق بطبيعة المكان الذّي سيشكل المستقر النّهائي لأبي يعزا: “وأخيرا، استقرّ بي المقام في منطقة تاغيّة، وسط جبال صعبة الاختراق، فاتّخذت لنفسي مقاما، ظننته أبديا منذ الوهلة الأولى”، هذا المكان انطلاقا من الوصف، “باعتباره يدخل بامتياز في النّمذجة الإستيتيقية”، كما يرى عبد اللطيف محفوظ،  ولا تتجلى هذه الاستيتيقا سوى في انفتاحه على المطلق بدلالتي الجبل واتّخاذه مقاما، على أساس أنّ المقام في حياة الصّوفي الوجدانية يمثّل التّسامي والصّعود نحو المطلق، فمرحلة التجلي تقف عند هذا المكان الذي سوف يشكل نقطة التحوّل في السّلوك نحو المطلق، لأنّ ارتباط أبا يعزا بـ”ميمونة” يُعتبر العقد المقدّس بين ما يخبو من جمال في دواخل الإنسان وما يرومه من أسباب الوصول إلى الغايات اللامنتهية التي تكشفها لذّة اللقاء بالمرأة، وهو ما يمنح التجلي شكله الحسّي، باعتبار جوهر العبادة غير معزول عن مدار الوجود الشّامل.

تشكل التحوّلية في مسار الحدث الرّوائي مخطط التّنقية الصّوفية المتحرّك من التخلي مرورا بالتحلي وصولا إلى التجلي، الذي تمنحه الرّواية مداه الشّعري حين تغلق الحدث بتساؤل أبي يعزا حول سبب شفاء المحتاجين الذين اكتظّ بهم الجبل، المكان المفتوح على المطلق، هل يعود ذلك إلى طبيعة المكان، أو إلى مفعول الأعشاب، أو هي مفاعيل الولاية، فسؤال المكان يحمل دلالة الاستقرار، وسؤال العلاج يحمل دلالة الصّراع الأبدي بين العلة والمعافاة، بين السّلبي والإيجابي، أمّا سؤال الولاية فيحمل دلالة الرّوح التي تلف المكان وتقود الصّراع بين عناصر الظاهر لصالح الباطن، لو أنصت الإنسان إلى خطاب اللانهايات، وهو ما يكون قصد الرّواية في البلوغ بالأمكنة مداها المتعلق بالمفتوح والاستقرار به، كتعبير عن قوّة مقام التجلّي.

تتوطد الشّعرية في الرّواية من خلال ما يتلقاه القارئ من إشارات سردية دالة على تحوّلية أصيلة في مسار الحدث وتطوّره، فلحظة القراءة هي لحظة لبروز مستويات النص التركيبية والدّلالية، التي تكشف عن تمازج صوفي مع انبثاق نمذجة سياسية لا تهيمن على مفاصل النص بل تندرج ضمن تفجير بؤرة التفاعل بين معطيات الحدث، وبذلك تتأسّس كمحمول جمالي يمنح حركة ما لتيمة النص الأساس المتمثلة في التصوّف.

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *