ناقد ألماني يعلن وصول النقد إلى مرحلة ما بعد الحداثة

*محمد الحمامصي

يسعى الناقد الألماني راؤول إيشلمان في كتابه “نهاية ما بعد الحداثة.. مقالات في الأدائية”، إلى كشف الأطر التي تقوم عليها نظريته العامة الموسومة بـ”الأدائية” وتطبيقاتها في الأدب والسينما والفن بوصفها إحدى نظريات ما بعد الحداثة، لذا فإن الكتاب ليس كتابا نظريا بحتا بل نظريا تطبيقيا، فهو يحلل ويناقش ويقرأ الأعمال الروائية والسينمائية والفنية التشكيلية، ويشرع في ذلك بدءا من مقدمته للكتاب، حيث ينطلق راصدا المراحل التي قطعها وبلور من خلالها هذا المصطلح، ومقاصده عندما فكر بوسمه.

بيلفين وغانس

تعود قصة الكتاب، الصادر، في طبعة جديدة، عن دار “أروقة للنشر والتوزيع”، ومن ترجمة الناقدة الفلسطينية أماني أبورجمة، كما يشير إيشلمان إلى منتصف تسعينات القرن الماضي، عندما كان سلافيا مهتما بقضايا التحقيب في الأدب الروسي والتشيكي، وعلى وجه الخصوص ما يتعلق بالحداثة وما بعد الحداثة. وفي عام 1996، وضع كتابا يحاول شرح كيف بدأت مرحلة ما بعد الحداثة في الاتحاد السوفييتي.

يقول إيشلمان “كنت أعلم أنه إذا ما بدأت الحقب فإنها ستنتهي لا محالة، ومن هنا بدأت أبحث عن علامات النهايات في الأدب الروسي. لاحظت على الفور أن أعمال الكاتب الروسي المعاصر الشهير، فيكتور بيلفين، تحيد عن قواعد ما بعد الحداثة غير المكتوبة. وبيلفين الذي يمكننا أن نقول عنه إنه روسي بوذي، يقوم بأمرين: الأول، هو أنه يكتب قصصا يصل فيها الأبطال إلى مرحلة التجاوز والتعالي على العالم المادي.

وثانيا أنه يكتب قصصا تخدع القارئ بجعله يتخذ مواقف بوذية نحو العالم سواء أراد ذلك أم لم يرد. وبسبب هذه الحيل فإن القارئ يعتقد أن بيلفين يسخر منه على غرار التهكم الساخر أو المفارقة ما بعد الحداثية. تبدو أعمال بيلفين غريبة وغير مكررة، ولهذا فقد تبادر إلى ذهني أن هذا النوع من الكتابة مقتصر على ظروف خاصة في روسيا، ولكن هذا الافتراض تغير جذريا عندما شاهدت فيلم ‘الجمال الأميركي’، الذي عرض عام 1999، هنا وجدت الحيلة ذاتها ولكن هذه المرة في أميركا. لقد مات البطل وتجاوز العالم الذي أصبح يعتبره جميلا، وفي النهاية، وبعد وفاته، قال لنا إننا أيضا سنراه جميلا عندما نموت”.

ويضيف “ترتبط ما بعد الحداثة بشكل وثيق جدا مع ما بعد البنيوية، وهذا يعني ارتباطها بكتابات المفكرين الفرنسيين اللامعين: لاكان، ودريدا، وفوكو، ودولوز، وليونارد وأتباعهم الكثر. وتعد نظريات ما بعد البنيوية معقدة للغاية في واقع الأمر، بل إنها تتناقض مع بعضها البعض في الحجج الفردية في الكثير من الأحيان، ولكنها جميعا تشترك في الافتراض نفسه عن الإشارات والأشياء”.

فكر إيشلمان في وضع نظرية بنفسه، ولكن ذلك لم يتحقق، بل إن الحقيقة هي أن كل محاولاته لابتكار نظرية واحدية لم تحقق الكثير. ويوضح “بدأت أبحث عن بدائل في أعمال نقاد آخرين ولكنني كنت سيء الحظ حتى عام 1998، عندما دعيت إلى مؤتمر عن المفارقة في الأدب الروسي. وفي قائمة المؤتمر كان هناك كتاب بعنوان ‘علامات المفارقة’ لكاتب لم أسمع به من قبل، اسمه إيريك غانس، والذي غير مجرى حياتي المهنية الأكاديمية. واكتشفت بسرعة، أن غانس قد طور مفهوما واحديا عن العلامة منذ ما يقرب من عشرين عاما، وأن هذا المفهوم يعارض ما بعد البنيوية بصورة جذرية”.

يرى إيشلمان أن غانس يفترض أن السلوك الإنساني قبيل اللغة يستند إلى التقليد والمحاكاة، فاللغة، مع ذلك، هي التي تفصل الإنسان عن الحيوان. وبمعنى آخر، فإن توظيف اللغة هو ما يسمح لنا بتجاوز الحالة الحيوانية وأن نصبح بشرا على وجه التحديد. وإذا كان ذلك صحيحا، فإن اختراع اللغة، أو العلامة الأولى، يجب أن يكون حدثا متعاليا متجاوزا أو دينيا بالنسبة لأولئك الذين خبروه. ومن الواضح أنه لا توجد وسيلة لإعادة بناء هذا المشهد البدئي “إذ لا يوجد من يتذكره”.

ولذلك وضع غانس مشهدا افتراضيا، يفترض فيه وجود إنسانين بدئيين غير قادرين على الكلام، ويرنو كلاهما إلى شيء مرغوب “عظمة، وقطعة من طعام وما إلى ذلك”. وعادة، إذا كان أحد هذين الإنسانين يمتلك شيئا وكان الآخر يريد أن يحاكي فعل الامتلاك هذا، فإن النتيجة هي صراع عنيف.

العلامة البدئية

يشير إيشلمان إلى أن العلامة البدئية أو العلامة الأولى التي أطلق عليها غانس “الإشارية ” حققت ثلاثة أشياء دفعة واحدة: فقد هدأت وضعا خطيرا، وأسست لغة، وأسست دينا، لأن هذه العلامة قادمة من مصدر متعال ومتجاوز خارج نطاق الخبرة الإنسانية. وهكذا فإن المشهد البدئي يحمل في طياته بعدا سياسيا ولغويا والأهم بعدا مقدسا تفتقر إليه ما بعد الحداثة. وبذلك فإن أصل اللغة لم يحدد بصراع سلطوي نقي، وإنما من خلال إبراز متبادل للإيمان بين البشر.

ويقول إيشلمان إنه بعد أن وضع مفهوم الإطار المزدوج، شعر أنه امتلك نظرية عملية، وكان عليه أن يعثر على مصطلح شائع بالفعل ومن ثم تكييفه لأغراض نظريته، وهذا المصطلح كان الأدائية، فالأداء موظف في نظريات عديدة أشهرها في اللغة، والنقد النسوي، ودراسات المسرح. وعلى الرغم من أن الأداء متضمن في الأدائية، بمعنى أنه مازال هناك خلط في التوظيفات، فإن المصطلح يحمل خصائصه المميزة. والأداء كما يفهمه إيشلمان يشير إلى فعل التجاوز الذي هو في لب جميع التراكيب السردية بعد ما بعد الحداثة.

ويستطرد إيشلمان “يمكن تحديد الأدائية ببساطة بوصفها الحقبة التي ابتدأ فيها التنافس المباشر، أو الإزاحة، بين المفهوم الموحد للعلامة واستراتيجيات الغلق من ناحية، والمفهوم المتشظي للعلامة واستراتيجيات انتهاك الحدود المميز لـ”ما بعد الحداثة” من ناحية أخرى. كانت النهاية أو الغلق الشكلي لأي عمل فني يُقوَّض باستمرار في ما بعد الحداثة بوساطة الأدوات السردية أو المرئية التي تخلق حالة متأصلة لا مفر منها من اللا-قدرة على الحسم بخصوص “حالة الحقيقة” في بعض أجزاء العمل.

وفي ما يتعلق بفن العمارة فإن بناء ما بعد الحداثة يمكن أن يخلق تأثيره المعماري الفريد عندما يجاور بين الدوامة المعمارية ما بعد الحداثية والزاوية الحادة الحداثية بتهكم ليبين التزامه بكلا الأسلوبين، وفي الوقت ذاته تقويضهما والانقلاب عليهما وهو أسلوب مميز أيضا لـ”ما بعد الحداثة” تماما كما في القصة والرواية ما بعد الحداثية التي تعرض حبكتين متوازيتين جديرتين بالتصديق، ولكنهما تبقيان بلا حسم ضمن حدود الرواية”.

ويقول “يسقط المؤلف والعمل والقارئ جميعا في هوة الإحالة إلى مرجعيات لا تمتلك نقطة محددة ثابتة أو هدفا أو مركزا. ويوجد لهذه الاستراتيجية مقابل نظري في تفكيك دريدا لفكرة كانط، التي تتعلق بمركز أو جوهر العمل المفترض. يرى دريدا أن أي حديث عن قيمة جمالية ذاتية يعتمد على كون تلك القيمة متحررة من السياق الخارجي المحيط بها بوساطة إطار ما. يبدو الإطار لأول وهلة ملحقا زخرفيا للوحة، يكشف عن نفسه بوصفه اشتغالا حاسما غير مقرر، إنه ذلك المكان الداخلي الخارجي حيث يلتقي النص والسياق بطريقة حاسمة لتركيب العمل يستحيل تحديدها مسبقا. ويمكننا أن نراهن على أن الادعاء بأن اللوحة أو النص أو البناء الموحد والمغلق سيسقط في الفخ ذاته”.
_______
*العرب

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *