قصر الحَمْرَاء بغرناطة يَسترْجعُ رَوْنقَه وَسِحْرَه وَبهَاءَه

خاص- ثقافات

 

 

د. محمّد محمّد الخطّابي* (مدريد)

أفادت مديرية مجلس إدارة قصر الحمراء وجنّة العريف ، ومختلف وسائل الإعلام والصحافة الإسبانية، مؤخّراً، أنّ الخبراء والمُرمِّمين الإسبان العاملين في قصر الحمراء الشّهير بمدينةغرناطة عثروا من باب الصدفة أثناء عملهم اليومي الاعتيادي على رسوماتٍ وصور في بهو الأسود بقصر الحمراء التي تُعتبر من أجمل المعالم المعمارية التاريخية الفريدة بالأندلس.

سرّ مكنون

وتفيد هذه المصادر كذلك بأنّ الجهة الشرقية من معلمة بهو السّباع بالحمراء ظلّت تحتفظ لعدة قرون بسرٍّ مكنون لم يفصح عنه الزمان إلاّ في الأيام الأخيرة، والذي يقدّم نموذجاً آخر جديداً عن الفنون التي تخفيها أروقة وغرف وباحات هذا القصر الإسلامي والمعلمة الفريدة التي أبدع في إتقانها السلطان الأندلسي المجدّد محمد الخامس الغنيّ بالله، إذ اكتشف الخبراء المرمِّمون المكلفون بصيانة هذه المآثر العمرانية المبهرة استعمال المهندسين المعماريين المسلمين لطرائق ووسائل وتقنيات متقدّمة، تختلف عن تلك التي كانت تُعرف عندهم حتى اليوم.

كما تم العثور من طرف هؤلاء المرمّمين، خلف الأخشاب المنحوتة التي تغطي أسقف الغرف والباحات بهذا البهو البديع، على رسومات تعكس الصّور الظلية للحيوانات، والتي لم تكن معروفة ولا مألوفة في تلك الفترة.

العنصر الجديد الآخر الذي إكتشفه الخبراء المرمّمون هو أنّ تركيب المواد الخشبية في الأسقف استعملت فيه قطع خشبية لها شكل نجمة، وكل قطعة تنتهي بإحدى عشرة نقطة أو نهاية مسنونة، في حين أنّ هذه القطع كانت من المعتاد تنتهي بسنّين اثنين فقط. وكانت هذه القطع الخشبية المتماسكة والمتلاحمة فيما بينها تستخدم لتناسب الشكل النصف الدائري من القبة، وهي الخاصّية الجديدة التي تجعلها فريدة من نوعها، والتي يرجع تاريخها إلى عام 1380 (القرن الرابع عشر). ولم يكن معروفاً حتى اليوم وجود أشكال هندسية من هذا القبيل في الأسقف الخشبية من بين مجموع هذه البناءات العمرانية.

وتشير “ماريا خوسّيه دوميني”، الخبيرة المسؤولة عن فريق العمل الذي يقوم بمهام الترميم، إلى أنّ هذه القبّة تمّيز بأنها تقوم على إستعمال “الأسفاط”، (يقول عنها معجم العُباب الزاخر: “الطَّنَفُ والطُّنُفُ – أيضاً- إفْرِيز الحائط، وكذلك السَّقِيْفة”). وقد تكون هذه الكلمة قد انتقلت إلى اللغة الإسبانية وإستقرّت فيها واستعملتها الخبيرة باسم (zafates) وهي تعني بها قطعاً مستطيلة من الخشب غير إعتيادية بالمرّة.

وعلى حدّ تعبير المرمّمة الخبيرة الإسبانية فإنّ “لهذه القطع أشكالاً غريبة جدّاً ونادرة، وليس من السهولة بما كان وضع اسم خاص بها”، كما توضّح أنه من المستجدّات الهامّة التي تميّز هذه الخشبات أنّ جميعها منحوتة وناعمة بنسبة تسعين في المائة. وتضيف ماريا خوسّيه دوميني أنّ “أهميّة هذا الاكتشاف تكمن في معرفة الطريقة والتقنية اللتين كان مهندسو وصنّاع بني نصر التقليديون يعملون بهما، ونوعية الزّخرفة التي كانوا يستعملونها، والتي لم يكن لنا علم بها من قبل”. وتضيف الخبيرة: “هذا علماً أننا لم نفكّك بعد حتى الآن سوى العُشُر من السّقف، إلاّ أننا يمكننا أن نرى بوضوح التركيب الهندسي على أكمل وجه، كما يمكن أن نرى العلامات التي تعمل على تحديد كل قطعة، وهناك من يعتقد أننا عند معالجتنا للجزء الثاني من هذه المعلمة التاريخية سنجد تراكيبَ هندسيةً شبيهة بالسابقة”.

رسومات نباتيّة وحيوانيّة

وتؤكد الخبيرة الإسبانية ذاتها أنّ هذا ليس هو السرّ الوحيد الذي تمّ اكتشافه، ذلك أنه في معظم القطع التي تمّ تفكيكها في السقف عثر المرمّمون في ظهرها على رسومات تعود لعهد بني نصر. وعندما تمّ تسليط الأضواء على هذه الموجودات لم تظهر فقط الرّسومات النباتية، والأشكال الهندسية، والزخرفة، والتنميق، بل ظهرت كذلك رموز غير معتادة في ذلك الوقت، فضلاّ عن رؤوس بعض الحيوانات أو البشر. “لقد كان من المعتاد استعمال الزخارف النباتية، إلاّ أننا في هذه الحالة، وجدنا أيضا، على سبيل المثال وليس الحصر، شكلاً مصغّراً يمثل رأس كلب”، تقول الخبيرة التي أكدت أنه “مع تقدّم العمل في هذا المجال يُنتظر بكلّ تأكيد أن نجد مزيداً من الرسومات”، التي قالت عنها إنها “بحكم تواجدها في الجانب الخلفي من الأسقف الخشبية، ونظراً لعدم وجود الورنيش (البرنيز) أو الأوساخ، أو الأتربة بها فقد ظلت محفوظة بشكل مدهش”؛ كما قالت إن “جميع الرّسومات التي تمّ العثور عليها ستصوّر، وسيتمّ حفظها ووضعها ضمن أرشيف خاص لتكون رهن إشارة الدارسين والمتخصّصين”.

وقالت الخبيرة الإسبانية إنه “لا يُعرف إلى حدّ الآن لماذا تمّ رسم هذه الرسومات التي لم تكن اعتيادية في ذلك الإبّان”، وأضافت قائلةً -على سبيل الدّعابة والمزاح- “ربما كان الملل هو حافزهم لوضع هذه الرسومات”، وفسّرت ذلك بقولها: “مثلما نفعل نحن اليوم عندما ننتظر مكالمة مّا فنقوم بخربشات على ورقة بيضاء، إلاّ أنه من المؤكد أنهم لم يتخيلوا أننا سنعثر يوماً على أعمالهم، أو نكتشف رسوماتهم”؛ وأضافت أنّ “هذه الرسومات التي تمّ العثور عليها بين وثنايا وخبايا المعلمة الأكثر جذباً للسياح في إسبانيا تخرج اليوم إلى النور على الرّغم من أنه ليست المرّة الأولى التي تتمّ فيها معالجة وترميم هذه الجدران، إذ سبق أن رمّمت عامي 1923 و1936” .

وعلى إثر هذا الاكتشاف قال مدير مجلس إدارة قصر الحمراء وجنّة العريف، رينالدو فرنانديث مانثانو: “إنّ قصر الحمراء ما فتئ يفاجئنا في كلّ مرّة، وعليه فإنّ عملية الترميم ستستمرّ على امتداد السنة القادمة”، وأضاف: “لابدّ أنّ هناك أسراراً أخرى قد يتمّ اكتشافها في الأيام المقبلة”. ويشير مسؤول آخر عن عمليات الترميم وهو “رامون روبيو” إلى أنّ “عملية الترميم في الجانب الشرقي من معلمة بهو السّباع بقصر الحمراء ليست هي العملية الوحيدة التي يقوم بها الخبراء الإسبان حالياً، بل إنهم منكبّون كذلك على ترميم قاعة الملوك. وتتمّ هذه الأعمال لأوّل مرّة، طبقاً للمعايير والطرق العلمية الدّولية الدقيقة المستعملة في معظم المآثر والمعالم العالمية في الوقت الراهن”.

-محمد-الخطابي-بقصر-الحمراء

الحمراء أولى المعالم جذباً للزوّار

منذ ثلاث سنوات عادت أسود قصر الحمراء لتزأر من جديد في البهو الكبير الذي يتوسّط هذه المعلمة المعمارية والحضارية الإسلامية الفريدة، التي ما فتئت تبهر عيون الملايين من الزوّار، وتذهل عقولهم وألبابهم من كل الأعراق والأجناس، والذين يتقاطرون عليها كل يوم بدون انقطاع من كلّ صوب وحدب؛ حتى أصبحت هذه المعلمة تحتلّ المرتبة الأولى بين مختلف المعالم والمآثر التاريخية والعمرانية “الإسبانية” من حيث جذبها للزوّار، بل إنها أجملها وأروعها على الإطلاق. وحسب إدارة قصر الحمراء وجنّة العريف، فإنّ كلا من “قصر الحمراء” وملحقته “جنّة العريف” قد حققتا رقما قياسيا تاريخيا في السنوات الأخيرة، إذ زارهما ملايين السياح؛ وفاقتا بذلك بكثير جميع المعالم التاريخية الإسبانية الأخرى.

عادت هذه الأسود، وآبت إليها المياه البلّورية العذبة تتدفّق من أفواهها بخريرها المتناغم، منسابة رقراقة على إيقاع أصوات موسيقية غنائية سحرية أسطورية زريابية، لا تسمعها سوى آذان جدران الحمراء !

رحلة ممتعة إلى الماضي البهيج

كانت أعمال الترميم قد بدأت منذ عدّة سنوات، وخضعت لها هذه الأسود لتعيد لها رونقها القديم، وإشعاعها وبهاءها اللذين ليس لهما نظير. لقد أصبح المرمر الأبيض الناصع يغطّي أرضية هذا البهو البهيج، والمياه تنساب في لطف بين “السّواقي” التي تملأ المكان كما كانت عليه في عهدها السابق في القرنين الرابع عشر والخامس عشر (مازالت كلمة “السّاقية” تستعمل في اللغة الإسبانية إلى اليوم بمعناها العربي القديم نفسه “acequia”، مثلما ما زالت تُستعمل كلمة “الجُبّ” باسم Aljibe في اللغة الإسبانية، كما أنها تستعمل في اللغة الأمازيغية (الريفيّة) بالمعنى نفسه إلى اليوم..وهي تعني: البئر غيرُ البَعيدةِ، أو البِئْرٌ المُجَبَّبةُ الجَوْفِ إِذا كان وَسَطُها أَوْسَعَ شيء منها مُقَبَّبةً).

خضعت هذه الأسود الاثنا عشر الأصليّة لعمليات ترميم دقيقة بعد أن نزع عنها الخبراء كل ما علق بها من مواد غريبة بفعل التآكل والرطوبة والزمن. واكتشف المرمّمون خلال عملهم أنّ كل أسد من هذه الأسود يختلف عن الآخر، وهذه الفوارق يمكن الآن مشاهدتها بشكل أكثر وضوحا من ذي قبل في فروها، وفكاكها، وخطامها، وأذنابها، بل وحتى في تعابير وجوهها.

وقد بلغت تكاليف الترميم ما يناهز 2.24 مليون أورو، بمشاركة أزيد من مائة خبير ومتخصّص في المكان الذي توجد فيه الأسود .

وبالإضافة إلى عمليات ترميم الأسود تمّ إصلاح وتحديث النظام الهيدروليكي أو المائي وتصفيته، بعد أن كان قد إعتراه البلىَ وعلقت به بعض المواد المعدنية كالكلس، وعوالق أخرى، كما تمّ استخراج المياه الآسنة، وتنقية المجاري الجوفية، وتركيب نظام هندسي متطوّر خاص لمراقبة حرارة المياه، لتفادي إلحاق أيّ أضرار محتملة سواء بالقنوات والمجاري المائية أو بمجسّمات السّباع مع مرور الزمن.

ويشير الخبراء الإسبان الذين أشرفوا على هذه العمليات إلى أنهم قد أعادوا استعمال الممرّات المائية الدفينة (غير المرئية) واستغلال المياه نفسها القادمة من النبع القديم الذي صمّمه واستعمله الخبراء المسلمون في القرن الرابع عشر، بأمر من السلطان الأندلسي محمد الخامس، من قمّة المنحدر المعروف باسم: “السّبيكة”.

الأعمال الترميمية البالغة الدقّة التي أنجزت في هذا الشأن، والتي تنقل الزائر الجديد للحمراء في رحلة سحرية إلى الماضي البعيد، تمّت استنادا إلى مراجع ووثائق تاريخية قديمة تعود للعصر الذي شيّد فيه قصر الحمراء، وبناء على شهادات وأوصاف العديد من المؤرخين المسلمين والأجانب.

وحسب المؤرخ الألماني “هيرومينوس مونسير” (1434- 1508) فإنّ أرضية البهو في زمانه: “كانت كلها مكسوّة بالمرمر الحرّ الأبيض، وكانت القنوات المائية التي تمخر المكان، والتي تنطلق من النبع، ترمز إلى الأنهار الأربعة التي تقود إلى الفردوس”. ويشير المهندس الإسباني “بيدرو سالمرون”، الذي أشرف على عملية وضع المرمر الجديد إلى أنّ “كل الشهادات والروايات في ذلك الوقت تؤكّد أنّ الأرضية الجديدة هي الآن تماما كما كانت عليه عندما رآها لأوّل مرّة الملكان الكاثوليكيان فرناندو وإزابيل بعد دخولهما لغرناطة، وأنه قد تمّ وضع 250 قطعة من المرمر على مساحة 400 متر مربّع، ذات مقاييس وأوزان متباينة، تتراوح بين 50 و400 كيلوغرام”. وابتداء من الآن- بعد هذه الترميمات الدقيقة- فإنّ بهو الأسود وجميع أركان قصر الحمراء وملحقاته ستخضع لمراقبة صارمة، وحراسة مشدّدة، وصيانة دورية منتظمة.

ساحة السّباع أو بهو الأسود هي من إنجازات السلطان الأندلسي محمد الخامس الغنيّ بالله، وهي تضمّ الباحة التي تتوسّط قصر الحمراء بأسودها الاثني عشر، والبناءات المحيطة بها، مثل قاعة الأختين، وقاعة بني سراج، بالإضافة إلى قاعة الملوك، (أو قاعة العدل)، وقاعة المقربصات، بالإضافة إلى النافورة التي تتّخذ شكل قصعة مستديرة بديعة الشكل، كحوض من المرمر، يحملها اثنا عشر ضرغاماً تمجّ المياه من أفواهها وتتطاير لتسقط في رفقٍ ولطف وانسياب على جنبات النافورة المحيطة بها .

قصرالحمراء..ألبوم شعري على مرمر مَصيص

للمستشرق الإسباني الكبير الراحل إميليو غارسيا غوميس كتاب قيّم تحت عنوان: “قصائد عربية على جدران وينابيع الحمراء”، هذا الكتاب هو عصارة عمل يمتدّ لسنوات طويلة، بدأه المؤلف منذ أن كان حديث العهد بالوصول إلى غرناطة عام 1930 ليشغل أستاذ كرسي في جامعتها، إذ طفق في العمل على جمع مواد هذا الكتاب ثم انقطع عن ذلك، وفي عام 1943، ضمن الخطاب الذي ألقاه غارسيا غوميس عند قبوله عضوا في المجمع التاريخي الإسباني تحدّث عن ابن زمرك، شاعر الحمراء، ففاجأ الحاضرين بالمعلومات التي قدّمها، سواء عن هذا الشاعر أو عن الحمراء، التي تعتبر في نظره ظاهرة فريدة من نوعها في العالم.

إنّ قصر بني نصر الكبير يعتبر بمثابة “مصنع” إعجاب، وهو خلاصة حساسية مفرطة وذكاء وقّاد، أكثر ممّا هو مصدر ثراء ورفاهية وترف. يحتوي هذا القصر على “ديكور” يكاد يشبه أرقى ديكورات المسارح العالمية، بل يفوقها جمالا وجلالا، لأنّه ديكور حيّ دائم خالد وموح بالحبّ الذي ينبعث من كل جوانبه.

تضمّ الحمراء بين جوانبها خاصيّة مميّزة ومحيّرة بكونها تعتبر “ألبوما” شعريا لثلاث وثلاثين قصيدة لشعراء معروفين أو مجهولين، كتبت أو بالأحرى نقشت على المرمر المصيص الخالص، أو الخشب الصلب، في جدرانها ونافوراتها، وهي تكوّن بذلك في دقّة وانسجام رائعين صنفاً من الأصناف الأدبية يمكن أن نطلق عليه الشعر المنقوش.

إنّ نهي القرآن عن تقديم أشكال مشخّصة للأحياء أدّى إلى ازدهار الفنّ الكتابي أو فنّ الخطاطة، الذي بلغ في الإسلام مستويات فنيّة راقية لا مثيل لها في أيّ ثقافة أخرى. قال قائلهم في هذا الصدد :

تعلّم قوامَ الخطّ يا ذا التأدّبِ / ولازم له التعليمَ في كلّ مكتبِ

فإن كنتَ ذا مالٍ فخطّك زينة / وإن كنتَ محتاجاً فأجملُ مكسبِ

إن تكاثف هذه الظاهرة وتدرّجها يمكن أن تلمس بشكل ملحوظ في القرن الرابع عشر. هناك ثلاثة أسماء تمثل القصيدة المنقوشة وهي: إبن الجيّاب، ابن الخطيب، وابن زمرك، وهو أهمّهم. وقد شغل الثلاثة جميعهم منصب الوزير الأعظم، وكانوا كتّابا كبارا للبلاط الملكي.. إننا إذن أمام فنّ غنائي بلاطي بمعناه الواسع، إذ كانوا يشرفون بأنفسهم على تزويق وتنميق المباني، كما كانوا يشرفون على وضع القصائد والزيادة فيها أو النقص منها حتى تتلاءم والحيّز المكاني المخصّص لها في مكانها من القصر.. كان عملهم ضرباً من ضروب الفنّ والثقافة والشّدو والغناء واللّهو والتّسرية والتسلّي؛ وبهذه الرّوح كان الملك يوافق على مقترحاتهم .

إنّ تعاطي الشعراء الثلاثة للسّياسة يفسّر الأخبار الكثيرة المتداولة عنهم، والتي لها صلة بهم، فاثنان اغتيلا نتيجة الصراعات التي كانت تنتشر وتحتدم في القصر، وهما ابن الخطيب وابن زمرك، أمّا ابن الجيّاب فأمكنه أن يموت في سريره، ضارباً بذلك “رقما أوليمبيا قياسيا” في غرناطة بني نصر..أعماله غير معروفة جيّدا، وهي مبثوثة في كتب مختلفة وضعت في حقب متفاوتة من التاريخ .

وتحتل كل قصيدة من القصائد الثلاث والثلاثين لهؤلاء الشعراء مساحة تتراوح بين أربعة وعشرين بيتاً من حيث التركيب، في عدّ تنازلي حتى تصل إلى بيت واحد. وأوسط هذه القصائد تتراوح بين أربعة وثمانية أبيات .

يتحدّث الشاعر بشكل مباشر إلى شخص الملك الباني، أو الملك المتفرّج، أو يستفهم الآثار والمعالم، أو يشخّص المكان الذي توجد فيه الخطوط المكتوبة شعراً، ويجعل التركيب برمّته مجموعاً في فم المكان ذاته .

القصائد التي تنمّق الجدران والنافورات والحيطان توجد في المشور و(ساحة الأسود)، والأبراج، وفي جنّة العريف. هذا التنظيم الطوبوغرافي هو الموجود في الكتاب. وبطبيعة الحال فإنّ التركيبات ليست تصوّرية في شكل واقعي؛ ذلك أنّ الحمراء لو اختفت فرضاً، فإنه سيكون من غير الممكن الاقتداء بهذه القصائد لإعادة تشييدها من جديد .

تكريم غارسيا لوركا لشعراء الحمراء

من القصائد التي تسترعي انتباه الزّائر/ القارئ /المشاهد على هذه الجدران تلك التي توجد في قاعة “الأختين” في(بهو الأسود). إنّ ابن زمرك هو الغسق اللمّاع الآيل للغروب للقصيدة العربية الأندلسية، التي كانت ما تزال تحتفظ بجمالها ورونقها في عهده، إلّا أنّ مجموع هذه القصائد تشكّل جمالية مركّبة لا يمكن فصلها عن الإطار الذي توجد فيه.

يشير الباحث الإسباني “مغيل غارسيا بوسادا” إلى أنّ هذا العمل الأدبي يعدّ ذا قرابة بالشعر الإسباني الحديث، إذ إن الشاعر الغرناطي الكبير فدريكو غارسيا لوركا كان قد قال له في خريف 1932 إنّ في نيّته وضع كتاب عن ابن زمرك، الذي نشرت بعض قصائده في أحد أكبر الدواوين جمالاً في العالم، والذي صدر في مستهلّ الحرب الأهلية الإسبانية، وأجاب المستشرق غارسيا غوميس في حينه بأنه بدوره كان قد أعدّ ديواناً تكريميّاً لهؤلاء الشعراء الغرناطيين القدامى. ويشير الكاتب إلى أنّ هذا الديوان لم يكن مكتملاً كمجموع عضوي، وأنّ أجمل محتوياته وأكثرها إثارة هي قصائد الشعراء العرب والأمازيغ الأندلسيين الذين كان المستشرق غارسيا غوميس قد نشر بعضها في “مجلة الغرب” عام 1928، وأعجب بها لوركا أيّما إعجاب.

ويشير الكاتب إلى أنّ السّبب الذي جعله يعمل على إصدار ذلك الديوان الكبير كان هو الحوار الذي دار بين المستشرق غارسيا غوميس والشاعر غارسيا لوركا. فعندما كان غارسيا لوركا يقدّم قصائد ديوانه عام 1935 في مدينة برشلونة سجّلت الصحافة الصادرة في ذلك الوقت بهذه المدينة ما يفهم منه اعترافه بتفوّق سكّان الأندلس في الإبداع الشعري وإعجابه بهم، إذ قال قبيل قراءة ديوانه أمام الملأ: “إنّ الأشعار التي يضمّها هذا الديوان هي مهداة إلى الشعراء المسلمين الذين كتبوا قصائدهم على جدران الحمراء بغرناطة” .

تبلغ مساحة قُطر سقف بهو الأسُود حوالي ثلاثة أمتار ونصف المتر، ويعلوه 669 من القطع الخشبية المنحوتة بشكل هندسيٍّ بديع على هيئة أنجم، وتتمركز الزّخرفة في الشكل المثمن في الأعلى، الذي نُحتت قطعُه كذلك بدقّة متناهية متعدّدة الألوان.

ويعتبر بهو الأسود من أشهر أجنحة قصر الحمراء، وهو بهو مستطيل الشكل، تحيط به من الجهات الأربع أروقة يحملها مائة وأربعون عموداً من الرّخام الأبيض الناصع، وعليها أربع قباب مضلّعة.

ويؤكد المؤرّخون أنّ نافورة الأسود على حوضها المرمريّ المستدير اثنا عشر أسداً من الرّخام الخالص، كانت المياه تخرج من أفواهها بحسب ساعات النهار والليل؛ وقيل إنّ مخارج هذه المياه تعطّلت حين حاول الإسبان التعرّف على سرّ وكيفية انتظام تدفّق المياه بالشكل الزمني المتواتر الدقيق الذي كانت عليه.

وكانت فوّارات ونافورات وحدائق وبساتين قصر الحمراء وجنّة العريف نموذجاً متطوّراً ومحيّراً لما أدركته هندسة الريّ والسقي والبستنة، وبلغتْه الفنون المعمارية الأندلسية في هذا القبيل من أوجٍ ورقيٍّ في ذلك الإبّان الذي بهر الناس قديماُ وما فتئ يبهرهم فى وقتنا الحاضر،ويثير فيهم الإعجاب، والإنبهار، والدهشة إلى اليوم  .

*********

 *كاتب وباحث، ومترجم، وقاصّ من المغرب،عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوطا-  كولومبيا-.

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *