“أمة اقرأ” لا تعرف ماذا وكيف تقرأ

د. موسى برهومة*

لا تعتبر الغزارة في عدد الكتب التي تكتظ بها معارض الكتب العربية، دلالة عافية في مطلق الأحوال، بل هي في أحد وجوهها أمارة على مأزق شديد يحيق بالكتابة ومستقبلها وجودتها.

فحينما تداهم المرء عشرات، بل قل مئات الآلاف من العناوين الجديدة، وبخاصة في مجال الأدب، يروعه الأمر بلا ريب. فلو أنّ العالم العربي ينطوي على هذا العدد الهائل من المبدعين لكانت أحواله أفضل مما هي عليه في الواقع، ولأمسى هذا الأدب “الرفيع” منصة حقيقية للتغيير، ومحاربة التزمّت والإرهاب، وتثوير المياه الساكنة والرمال الراكدة، وزوبعة العواصف المؤجلة.

لا بد من أجل حماية مستهلك الكتب أن تخضع هذه البضاعة لتحكيم وافٍ من قبل مختصين يتمتعون بالأهلية وتدفع لهم مخصصات مالية دعونا نأخذ معرض الشارقة الدولي للكتاب مثالاً، باعتباره أضخم تظاهرة عربية للكتاب، وأحد أهم المعارض في العالم؛ فالأرقام الكمية لا تعكس بالضرورة تحولات نوعية. بمعنى أنّ المعرض في دورته الأخيرة 2016 حظي بـ 2.31 مليون زائر. وفاقت مبيعات الكتب فيه 176 مليون درهم إماراتي (نحو 48 مليون دولار). أما عدد دور النشر المشاركة في المعرض، فبلغ 1681 داراً. من بينها 890 دار نشر عربية. فماذا تعني هذه الأرقام؟

لقد اختبر كاتب هذه المقالة بنفسه تجربة تقييم الكتب، وبعضها من إنتاج العام الماضي، حينما كلّف طلبته في الجامعة، كما يفعل دائماً، باقتناء كتاب وتلخيصه، تاركاً للطلبة حرية اختيار الكتب. كانت النتيجة صادمة إلى حد بعيد، إذ اختار الطلبة، الذين لا يمتلكون أية خبرة، كتباً برّاقة الشكل جذّابة العناوين، ليجدوا في متونها لغة ركيكة ومليئة بالأخطاء. ووجدوا في الروايات التي قرأوها شحّاً في الخيال، تكراراً في الأفكار، وفقراً في تثوير الروح، وإيقاظ الحواس، وبعث العقل من رقاده.

وما يعزّز هذه النتيجة أنّ أغلب دور النشر العربية أضحت تتعامل مع الكتاب والمؤلفين بعقلية تجارية بحتة، من دون إيلاء أدنى اهتمام بالجودة. وما يجعل الطامة أشدّ أنّ أكثر أصحاب دور النشر تلك والعاملين فيها لا يتوفرون على الكفاءة والقدْر الكافي من الثقافة، كي يقيّموا الأعمال ويصدروا أحكامهم بشأنها. وهم، لأنهم تجّار يرومون الربح السريع، لا يكلّفون أنفسهم عناء عرض الكتب على مختصين لتقدير أهميتها، أو القيمة الإضافية التي يمكن أن ترفد بها حركة المعرفة الإنسانية. لا شيء من هذا كله يحدث، لأنّ الهدف هو الربح، وأن تبقى هذه الدكاكين المسماة “دور نشر” تقذف إلى المطابع بكل ما أتى إليها من “كاتبات” وكتّاب” لا يتقنون القواعد الأولى من التعبير، ولم يسمعوا من قبلُ بالنحو والإعراب وضوابط اللغة.

ولو أنّ المرء أراد أن يعمّم على سائر الكتب، وبخاصة الدينية، لهاله حجم الرداءة والانحطاط في المستوى. فنظرة واحدة على عناوين بعض الكتب الدينية تُصيب الإنسان السويّ بالرغبة في التقيؤ. فالانشغال بالشهوات وتجريمها وتأثيمها، والاهتمام بسفاسف أمور الدين والدنيا هو الشغل الشاغل لدى هؤلاء الأدعياء الذين ينتجون الخرافة، ويترفّقون بالشعوذة، ويعيدون إحياء أساطير الأولين!

لا يتعين أن يصيبنا الغرور من الأرقام الفلكية لعدد زوار معارض الكتب، أو عدد الذين يُنفقون أموالهم لاقتناء الكتب، فليس كلُّ كتاب مطبوع كتاباً وإذا كانت المنتجات الغذائية تخضع للرقابة، ويتعين أن تستوفي شروط دوائر ومؤسسات المواصفات والمقاييس في الدول، كيلا يصاب المستهلكون بالأذى، وكي تضمن تلك المؤسسات سلامة هذا المواد وجودتها وامتثالها للتشريعات الصحية والبيئية، فمن الأوْلى أن يتوجّه هذا الجهد إلى “غذاء العقول والقلوب” لا أن يرمى فيها كل مخلّفات الفكر الآسن، والخيال الفقير.

ومما يلاحظ بقوة أنّ الرغبة في امتلاك صفة “كاتب” تستهوي الكثيرين، وغالبيتهم من ذوي المواهب غير المكتملة أو أصحاب التجارب الضحلة الذين لا همّ لديهم سوى أن توضع أسماؤهم على كتب بعضهم لم يكتبها، وكل ذلك من أجل التفاخر الزائف الذي لا يضبطه ضابط ولا تردعه قيم، ولا يؤسس لمعرفة حقيقية.

الأخطر في الأمر أنّ المليون ونصف مليون زائر الذين قدموا إلى معرض الشارقة الأخير لا يملكون جميعهم القدرة على تقييم الكتب، وبيان جودتها من عدمها، لأنّ هذا الأمر، فضلاً عن أهمية الخبرة فيه، يحتاج إلى قراءة المنتج من أجل الحكم عليه، وهو ما يجعل كثيرين يقعون في فخاخ الوهم بأنهم يقرأون كتاباً يظنون أنه جيد، مع أنه في الحقيقة محض هراء.

ولا يجب لوم أولئك المستهلكين، فهم واقعون تحت سحر الكتاب المطبوع، والغلاف الملوّن، والطباعة الفاخرة، أحياناً. وكل هذه العناصر في نظرهم، قد تمنح الكتاب أهليّة، وتجعل صاحبه جديراً بالقراءة.

حقاً إنها معضلة. فكيف يحكم الناس العاديون على الكتب. كيف يقيّمونها؟ تماماً كأن نسأل كيف يمكن للشخص العادي أن يقول عن أي سلعة إنها جيدة، من دون أن تكون لديه مواصفات الجودة، التي لدى الخبراء والمختصين.

لا وسيط بين الكاتب والقارئ؛ الأول يعرض بضاعته، بعَجَرها وبجَرها، والقارئ يُقبل عليها. وكم حدثني طلبة عن كتب بوصفها جيدة، ولما طالعت صفحات فيها ألفيتها تنضح بالبؤس والتكرار والهشاشة في اللغة والتعبير والمخيال.

لا بد، من أجل حماية مستهلك الكتب، أن تخضع هذه البضاعة لتحكيم وافٍ من قبل مختصين يتمتّعون بالأهلية، وتُدفع لهم مخصصات مالية ربما تحتسب من ثمن الكتاب، مع أنّ الناشرين التجّار سيعارضون ذلك لانّه يجعل بضاعتهم تبور. لكنّ ذلك يجب أن يؤخذ في الحسبان، كيلا تتلوث العقول فوق تلوثها وانفصامها.

وللأسف، فقد كان المرء يتوقع أن تمارس هذا الدورَ الرقابيّ الذي يهتم بالجودة “فقط” دوائر ومؤسسات وهيئات النشر والمطبوعات في العالم العربي، لكنّ هذا الهيئات، المرتبطة غالباً بوزارات الإعلام، لا تهتم بالجودة الفنية، بقدر اهتمامها بخلوّ هذه الكتب من “المحرمات” السياسية، أو التابوهات الدينية والجنسية. ولو أنّ كتاباً خلا من هذه “المحرّمات” وامتلأ بسائر الأخطاء والموبقات الأخرى لجرت إجازته والتساهل بشأنه. المهم أن يبقى الحاكم باسم الله بعيداً عن النقد، سالماً من خدش صورته البهية، وطلعته الشذيّة، ولتذهب المعرفة، بعد ذلك، إلى الجحيم.

ولا نرغب في تكرار المعزوفة ذاتها عن معدل قراءة الفرد العربي للكتب، قياساً بنظيره الغربي، فقد أوجعتنا هذه المقارنات وجعلتنا أشدَّ خلق الله بؤساً. ولكننا نودّ أن نجعل الصفحات القليلو جداً التي يقرأها سنوياً الفردُ العربيّ، غنيّة بالمعرفة. فليس من المعقول أن تكون هذه الحصة “المؤلمة” فوّاحة بالأخطاء، فذلك إنما يعني الانتحار في أنصع، أو أبشع صوره!

لا يتعين أن يصيبنا الغرور من الأرقام الفلكية لعدد زوار معارض الكتب العربية، أو عدد الذين يُنفقون أموالهم لاقتناء الكتب، فليس كلُّ كتاب مطبوع كتاباً، فثمة من تستهويه الكتب التي تتحدث عن الطبخ والمأكولات والولائم، والتجميل، والأغاني، والألغاز، والنِكات ورنّات الهاتف المحمول وإكسسوراته، أو أخرى “تنهمك” في البحث عن ابتلاء الأخيار بالنساء الأشرار، أو كيف تتعامل مع مديرك الغبيّ؟

لو أنّ هذا الأموال تنفق على كتب ذات عمق معرفي، ولو أنّ الكتب التي تقتنى تقرأ، لكانت أحوالنا في العالم العربي أشدَّ صلاحاً مما هي عليه وليست هذه العناوين جديدة، فقد روي أنّ المؤرخ أبو بكر السيوطي (المتوفى عام 911 هجري)، قد ترك حين وفاته “كنزاً ثميناً من الكتب والمؤلفات” في مختلف المعارف، وجاءت بعض عناوينها باعثة على الطرافة والسخرية: (طرح العمامة في التفرقة بين المقامة والقمامة) و(بلوغ المآرب في أخبار العقارب)، و(الطرثوث في فوائد البرغوث)، و(منهل اللطائف في الكنافة والقطائف)، وكذلك (طي اللسان عن ذم الطيلسان)، و(أزهار العروش في أخبار الحبوش)، و(بلوغ المآرب في قص الشارب)، إضافةً إلى (الشماريخ في علم التاريخ)، وسواها من كتب وعناوين!

كان السيوطي موسوعياً وعلّامة، ولا نظن أنه أنفق حياته فيما لا طائل منه. بيْد أن الذي نظنه كلّ الظن، حتى لو كان أكثرُ ظننا إثماً، أنّ ما ينبعث من فم المطابع العربية كلَّ حين من كتب، لا يعني أنّ الثقافة العربية في حال حسن، فما كل هذه الكتب تنشد معرفة عميقة، وما كل ما يُقرأ نافع أو يُستفاد منه. والدليل هي الأرقام. فإذا كان معرض واحد كالشارقة تنفَق فيه 48 مليون دولار، فهذا يعني، بحسبة بسيطة، أنّ نحو 16 معرضاً في العواصم والمدن العربية الأخرى، وبعضها ضخم كالقاهرة والرياض وبيروت ينفق فيه الرقم ذاته، كمعدل عام، فإننا بإزاء 768 مليون دولار تنفق فقط في معارض الكتب وحدها، وهذا رقم ليس قليلاً.

ولو أنّ هذه الأموال تنفق على كتب ذات عمق معرفي، ولو أنّ الكتب التي تقتنى تقرأ، لكانت أحوالنا في العالم العربي أشدَّ صلاحاً مما هي عليه، إلا إذا كان هذا الإنفاق جزءاً من علامات التبذير المظهري التي تعصف بروح العالم العربي وتشظيها، ولعل هذا الاستنتاج هو الأقرب إلى الواقع.

سئل المفكر الفرنسي فولتير، عمن سيقود الجنس البشري مستقبلاً، فأجاب: الذين يعرفون كيف يقرأون.

فهل نحن العرب، المنتسبين إلى “أمة اقرأ” من بين هؤلاء؟!
_______________

المصدر: ذوات

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *