أبعد مما نتصور

د. حسن مدن

كان سلامة موسى شغوفاً، ضمن أشياء أخرى متنوعة، بالمستقبل وبالفلسفة.
شغفه بالمستقبل آتٍ من إيمانه بالرسالة التي نذر حياته وكتبه ونشاطه من أجلها، شأنه شأن رواد النهضة والتنوير العرب، الذين حلموا بمستقبل أفضل لأمتهم، تكون فيه الغلبة للعقل والعلم ليحلا محل الخرافة والجهل، وعملوا في سبيل بلوغ هذا المستقبل بما أوتوا من جهد ومعرفة.
أما شغفه بالفلسفة فأتى من إدراكه لما ل «أم العلوم» كما تسمى من دورٍ في وضع المعرفة في نسق متكامل، منسجم، يقدم رؤية لا للكون وحده، وإنما للحياة، وسبل تغييرها نحو ما يعود بالخير والسعادة على البشر.
وفي هذا كان سلامة موسى منسجماً مع رؤيته، فبلوغ المستقبل الأفضل لن يصبح متيسراً بدون ذلك المنهاج الذي توفره الفلسفة للساعين لذلك، وهي الرؤية التي نجدها مبثوثة فيما خلّفه لنا من مؤلفات تعد بالعشرات.
ومن ضمن هذه المؤلفات كتابه «أحلام الفلاسفة»، الذي أفرد فيه مقالاً يشرح فيه رؤية إدوارد بلامي، وهو على ما يصفه موسى «كان أديباً أمريكياً اعتنق الاشتراكية»، وفي مطالع القرن العشرين حاول أن يرسم، في قصة له، صورة لما يتخيل كيف سيكون عليه العالم في نهاية ذلك القرن، أي في عام 2000.
تبدأ القصة بأن أحداً نومهُ تنويماً مغناطيسياً فلم يستيقظ إلا في تلك السنة، فوجد عالماً آخر غير ذاك الذي عهده قبل تنويمه، فعلى سبيل المثال وجد طائفة كبيرة جداً من المتقاعدين الذين يعيشون عيشة الترف، ويجوبون آفاق العالم، بفضل المعاش الكبير الذي ينالونه، أو يمارسون إحدى الرياضات التي يهوونها.
ويلاحظ سلامة موسى أن المؤلف أولى عناية كبيرة بالرياضة، إذ يقول: «إذا كان الخبز أولى حاجات الحياة فإن الرياضة هي الحاجة الثانية».
مأخذ سلامة موسى على هذه اليوتوبيا، رغم ما تنطوي عليه من رغبات نبيلة، هو أن صاحبها حققها في خياله فقط، لذلك فإن ما وصفه، على ما فيه من عظمة، لم يكن سوى مدينة كبيرة من ورق، بحيث أن خيال أفلاطون على ما به من سذاجة أمتن دعائم وأوثق نظاماً.
والمغزى هنا أن بلوغ عالم أفضل لن يتحقق من تلقاء ذاته، فدون تحقيق العدالة والإنصاف وتحقيق الرفاه للبشر جميعاً برازخ من التضحيات والكفاح لا بد من اجتيازها، وتقدم الصناعة والتقانة وحده لن يحقق ذلك، وإنما يستولد صوراً جديدة من التمييز والاستغلال، تختلف في الشكل، لكنها تبقي على الجوهر ذاته.
نحن محظوظون لأننا بلغنا عام 2000 واجتزناه، لكن تلك الرؤية الحالمة لصاحبنا ما زالت بعيدة، أبعد مما نتصور.
___
*الخليج

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *