عينا لميعة عباس عمارة والشعر

خاص- ثقافات

*صقر أبو فخر

التقيت لميعة عباس عمارة مرتين في بيروت: الأولى حين صدر ديوانها الجميل “لو أنبأني العراف” في سنة 1980، والثانية في منزل الشاعر الكبير أدونيس في سنة 2001، وكانت لا تزال نضرة، وبقايا الجمال المعمداني بادية في قسماتها المثيرة، ورحت أتخيل كيف كانت الأنوثة تفور منها قبل أربعين سنة عندما رسمها جواد سليم. ورحت أحدق مراراً في ملامحها كي أكتشف ما فعلت عيناها ببدر شاكر السياب عندما كتب قصيدة “أنشودة المطر”. وكانت للميعة عينان ساحرتان حقاً، ومراوغتان أيضاً، فيخيل إلى من ينظر إليهما أنها تنظر إليه وحده.

أما المطلع المهيب لقصيدة “أنشودة المطر” فهو التالي:

عيناكِ غابتا نخيل ساعة السَحَرْ

أو شرفتان راح ينأى عنهما القمرْ

عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ

وترقص الأضواء كالأقمارِ في نَهَرْ.

يشير هذا المطلع إلى أن لون عيني حبيبته (المفترض أنها لميعة عباس عمارة) هو الأخضر (غابتا نخيل). لكن لون عيني لميعة هو الأسود البارق، الأمر الذي يجعلنا نفتش عن امرأة أخرى أهدى إليها بدر شاكر السياب تلك القصيدة التي شكلت علامة فارقة في الشعر العربي الحديث قبل نحو سبعين سنة. والمعروف أن السياب قرأ هذه القصيدة على كثيرات غير لميعة، وكل واحدة منهن ربما اعتقدت أن هذه الأبيات كُتبت لها وحدها من دون الأخريات. وكان من عادات بدر شاكر السياب أن يقرأ قصائده على بعض الطالبات في دار المعلمين العالية في بغداد التي كانت لميعة عباس عمارة إحدى الطالبات فيه، أمثال سعاد البياتي ولبيبة القيسي التي سمّاها “لبلاب”، وطالبة يهودية اسمها “بدر” (كان اسمها يطابق اسمه ما جعله يسخر من نفسه قائلاً: إن اسمها واسمه واحد، لكنها وحدها تستحق ذلك الاسم).

 *

 كانت هناك طالبة أومض اسمها قليلاً ثم انطفأ هي لمعان البكري التي سبقت لميعة عباس عمارة في هيام السياب بها، وكانت تدرس الحقوق لا الأدب. وحين فرطت علاقتهما كتب قصيدة عنوانها “لعنات” صبَّ فيها هجاءه عليها، واتهمها باختيار الزواج من رجل ميسور وتخليها عنه، ومنها:

وتلك كان في غمازتيها يفتح السحر

عيون الفل واللبلاب،

عافتني إلى قصر وسيارة.

تماماً مثلما فعل حين وصلت قصة الحب مع لميعة عباس عمارة إلى خاتمتها جراء اختلاف الديانتين، فكتب:

كفرتُ بأمة الصحراء

ووحي الأنبياء على ثراها

في مغاور مكة أو عند واديها.

لا أعلم، علم اليقين، هل كان الأخضر هو لون عيني لمعان البكري أم الأسود أم خلافهما. بعض الذين عرفوها في لندن حاروا، وآخرين قالوا إن عينيها كانتا خضراوين حقاً، الأمر الذي يسوقنا إلى الاستنتاج أن مطلع “أنشودة المطر” يحيل إلى عيني لمعان لا إلى عيني لميعة.

مهما يكن الأمر، فإن للميعة عباس عمارة وقائع جمة تشير كلها إلى ذكائها وسرعة بديهتها واعتدادها بنفسها وتقدميتها (موافقتها على أن تكون موديلاً للرسام جواد سليم صاحب نصب الحرية في بغداد). ففي إحدى المرات كانت تجلس إلى جانب ياسر عرفات، وكان محمود درويش يجلس أمامها، فراحت تتطلع إلى قسماته بروية. وعندما لاحظ محمود درويش ذلك فاجأها بسؤال محرج قائلاً: لماذا تحدقين في وجهي؟ فرد عرفات على الفور: وهل تريدها أن تحدق في وجهي أنا؟ وكتمت لميعة ما حصل إلى أن جمعها إلى محمود درويش وبعض أصدقائه لقاء سريع في صالة أحد الفنادق. فما كان منها إلا أن دفعت إلى محمود أمام الجميع ورقة فيها شعر رقيق ورائق هذا نصّه:

أَزحْ يا حبيبي نظارتيكَ قليلاً

لأمعن فيك النظرْ

فما لون عينيك؟

هل للغروب تميلان

أم لاخضرار الشجرْ؟

أحبهما،

فوالله من أجل عينيك محمود

أصبحت أعشق قصر البصرْ.

قرأ محمود درويش الورقة، ثم انثنى عليها ليقول لها باستفزازيته المعهودة: لماذا تناديني “يا حبيبي” وأنت لا تقصدين ذلك؟ فردت عليه فوراً: هكذا أنادي جميع أولادي. وتضاحك الجميع، وردت لميعة على “لؤم” محمود بلؤم مساوٍ. وفي هذا الميدان اشتهرت قصيدتها التي قالتها في ياسر عرفات شهرة فائقة في بيروت، وكان أبو عمار آخر مَن وصلته أصداء تلك القصيدة فطلب من يحيى يخلف أن يأتيه بنصها، وحين قرأها يحيى يخلف عليه طرب لها أشد الطرب، وكانت  النشوة تفور من عينيه مع كل جملة. وهذا بعضها:

صنوُ الملوكِ ويطلبون رضاهُ

يختال من زهدٍ على دنياهُ

لا بيت، سرجٌ داره، ومروره

حلم، وبغتةُ ضيغم مسراهُ

كل الشعوبِ توحدت في شعبه

وحدوده أنى تشير يداهُ

يدعونه الختيار، ذلك لحكمة

وأنا كما الطفل النقي أراهُ

لولا جلالة قدره ولكونه

رمز الفداء لخلتني أهواهُ.

 *

تعيش لميعة عباس عمارة اليوم في مدينة سان دييغو الأميركية (كاليفورنيا)، وتستعد لقرع أبواب التسعين؛ فهي من مواليد 1929. وقد ترحلت بين مدن كثيرة إلى أن استقرت لدى أولادها في كاليفورنيا. وعندما غادرت العراق، أقفلت باب منزلها، وتركت وراءها كل شيء، فسُرقت كتبها وصورها وتذكاراتها وصور العائلة، وأكلت القوارض أوراقها ورسائلها، وتطايرت محتويات البيت جراء الهجران، مثلما تطايرت كتب جبرا ابراهيم جبرا ولوحاته ورسائله في تفجير همجي معاد للتحضر والثقافة. وهكذا صارت لميعة عباس عمارة امرأة بلا ماضٍ، أي بلا هوية وذاكرة، بعدما ألهمت شعراء كثيرين، وألهبت مشاعر فنانين شتى. وحبذا لو كان العراف أنبأها بما سيحلّ بالعراق، فربما حملت معها تاريخها الشخصي قبل أن يتناثر بين حوافر الضباع التي فتكت بالعراق، وولغت بدماء شعرائه وأدبائه.

 لم ينبئها العراف، لكنها، مثل نبية في العراء، اختارت الحب خاتمة لمصيرها الشعري عندما كتبت في تقديم ديوانها “لو أنبأني العراف” ما يلي:

كل شعري قبل لقياكَ سدى

وهباءٌ كل ما كنت كتبتْ

أُطوِ أشعاري

ودعها جانباً

وادنُ مني

فأنا اليوم بدأتْ

هذه هي الصابئية ابنة التاريخ البهي ووارثة ديانات الأسرار المقدسة وعقائد الخصب الجميلة؛ فلتفتخر بذاك السمو.
_______
*ضفة ثالثة

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *