آرك 2016… الدخول غير الآمن لبوابة الزمن الافتراضي

خاص- ثقافات

*أحمد ثامر جهاد

رغم أن فيلم (ARQ-2016) للمخرج “توني ايليوت” الذي يتواصل عرضه في صالات السينما العالمية، يُصنف كفيلم خيال علمي، إلا أنه قد خلا تقريبا من كل ما اعتدنا مشاهدته في هذا النوع من الأفلام. ليس ثمة مختبرات علمية لإنتاج كائنات خارقة، لا مركبات متطورة تجوب الفضاء الخارجي، لا نداء استغاثة من غرباء بعيدين، ولا هبوط مزعوم على سطح كوكب مجهول.

إننا أسوة بأبطال الفيلم أسرى مكان محدود ستجري فيه الأحداث الغريبة كلها على مدى ساعة ونصف تقريبا. غرف صغيرة معتمة، جدران كالحة وممرات ضيقة هي كل ما نشاهده في مسار الأحداث بتأثيثها الصوري المتقشف، ولم يكن ذلك المكان الافتراضي بسماته الواقعية العيانية عائقا أمام شحذ خيال المتفرجين بدراما سينمائية بدت أقرب إلى بنية الحلم أو الفرضية غير المنطقية. بل إن محدودية المكان (كل مشاهد الفيلم اعتمدت التصوير الداخلي باستثناء مشهد واحد في الدقائق الأخيرة منه) أسهمت في جعل الحدث اللامعقول محتملا بوصفه-على اقل تقدير- تجربة ذاتية اجترحها العقل الباطن الذي تتنازعه هواجس القلق والإيذاء وكذا التوق إلى خلاص نهائي في عالم مستقبلي منذور للفناء.

مشهد من الفيلم 2

رغم ذلك لا يقدم فيلم (آرك) ثيمة جديدة مقارنة مع أفلام سابقة، لكنه يحاول أن يمنح حكايته شكل أحجية سينمائية تتلاعب بإدراكاتنا للزمن، البوابة المثيرة التي ستتطلب صبرا من المتفرج حتى ينجلي غموضها.

المشهد الأحجية

يقول رينتون” إذا تصرفت بطريقة مماثلة في كل مرة، فلا تأمل بالحصول على نتائج مختلفة”

في بنية سردية تعتمد تكرار الحدث ومزج الواقعي بالافتراضي، يفيق رينتون (روبي آميل) من نومه مذعورا -لا نعرف ممن في المرة الأولى- يلتفت إلى يساره ليطمئن على سلامة رفيقته هانا (رتشيل تايلور) التي تشاركه الفراش. للحظات تراءى لـ(رينتون) أن ثلاثة مسلحين ملثمين سيقتحمون الغرفة من بابها الموصد قبالته ويقتادونه مع رفيقته إلى غرفة كئيبة واسعة للتحقيق معهما حول سر التحكم بآلة مبتكرة تتحكم بالزمن تدعى (آرك) حينما تعمل تمحى الذكريات ومن يمتلكها ينتصر في الحرب. بعد أن يصل المشهد إلى ذروته يصحو رينتون مجددا ويحدق في باب الغرفة الذي سيكون من المرجح أن المسلحين سيقتحمونه مرة أخرى، ليطابق مجرى الأحداث -في الغالب- رؤى رينتون وهواجسه.

1474225401_5

كلما يصحو رينتون يُدرك ان أمرا سيئا سيحصل قبل أن يسمح له الوقت بتداركه. وما هو متوقع يحصل بالفعل: دخول المسلحين كما في كل مرة، شد وثاق رينتون وهانا والتحقيق معهما ثم محاولة فك وثاقهما والهرب غير المجدي في متاهة المكان ذاته. ستحتاج الشخصية الرئيسة هنا إلى القدرة على استرجاع الحدث (الافتراضي-إذا صح القول) والبحث عن ثغرات فيه للتدخل واقعيا وحرف مسار الأحداث لزيادة فرص النجاة. تتنبأ الشخصيتان الرئيسيتان بمصيرهما وتريان ذلك جليا، وفي صحوهما سنرى ما شهدناه في المنام دون أن يضعنا الفيلم أمام عناصر بينة بين الواقعين أو الصورتين.

وحيث تفيق هانا في آخر مشاهد الفيلم فيما يغط رفيقها رينتون في نومه، سيبدو لنا إنها لعبة شد متواصل وتبادل مواقع تتطلب من المتلقي الانتباه جيدا، وتضغط في الوقت ذاته على حواسه التي تنشد تسلسلا منطقيا للأحداث. ربما أن المسار المعقول والمتوقع بحد ذاته يعد مفسدة للحكاية كلها في هذا النمط من القصص السينمائية، فالمهم هنا هو ولوج الأحجية الغامضة من بوابتها المثيرة وانتظار ما ستسفر عنه حركة السرد الصاعدة من مفاجآت لها شحنتها العاطفية والفنية.

إخفاقات عدة ستواجه رينتون، ليس أقلها صعوبة وصدمة اكتشافه تواطؤ صديقته هانا مع المسلحين وميولها العاطفية تجاه أحدهم جراء هجرانه لها في فترات سابقة.

دراما كابوسية مركبة من هذا النوع بقدر ما تحاول خلق مستوى من التشويق والفضول لدى المشاهد لمتابعة ما يحصل، فانها تعيد التذكير بأفلام سابقة متفاوتة المستوى راهنت على التلاعب في البناء الزمني للأحداث والخروج عن إطار السرد التقليدي، من قبيل:(2009–Triangle) ((The Jacket-2005 وبدرجة اقل فيلم الحركة والخيال ((Looper -2012.

من جهته راهن الإخراج بشكل ملحوظ على انهماك المتلقي بتشابك أحداث الفيلم وغموضها، إلا انه في الغضون ترك بعض الثغرات الدرامية حول رسم الشخصيات والإقناع بمجريات الأحداث: غياب رينتون لسنوات عن رفيقته، تجسسها عليه وعلاقتها غير الواضحة مع احد أفراد العصابة ثم استعادة رنتون ثقتها بشكل غير مقنع، فضلا عن عدم الالتفات إلى ما لحق بالعالم الخارجي من نزاعات جعلته مكانا موبوءا وخطيرا، وكيف ان من يمتلك (ارك) يستطيع الانتصار في الحرب التي تشغل ذاك العالم. في المقابل يسرف المخرج وهو كاتب سيناريو الفيلم أيضا، في التمسك بتكرار المشهد مع جرعة من الحركة والإثارة تدفع الصراع إلى منتهاه.

حتى أن المفاجأة التي يمكن أن تنقذ دراما من هذا النوع تتلاشى تدريجيا لإن إيقاع الحدث سيخرج من غرابته الجاذبة إلى نطاق النمطي والمتوقع الذي غالبا ما يسفر دراميا عن نجاة البطل من أزمته بحكم ذكائه وقيمه الأخلاقية وحسن نواياه تجاه العالم.

أليست تلك أشد قواعد الفيلم الهوليودي تنميطا ورسوخا؟

612762361670.original

عالم من اللايقين

في هذا النوع من الأفلام التي تتشبه أحيانا بعوالم الأدب القصصي الخيالي لناحية قربها من بنائه، أو استعارتها لسياقاته الحكائية حينا، سيكون بين الفيلم والمتفرج خيارا أوحدا، إما رفض الفكرة من أساسها أو الاستجابة لغرابتها من دون أن يعني ذلك قبول جلّ النتائج المرتبة على ذلك حتميا، بما يشبه عقد صفقة ضمنية. بمعنى آخر أنك لو قبلت عتبة الحكاية (الصحو من كابوس سيتكرر مرات عدة لدرجة انعدام الفرق بين الواقعي والافتراضي) يلزمك تقبل ما يتأسس عليها، مع ملاحظة أن الافتراضي ذاته قد تشرب خواص الواقعي لدرجة أنه بات واقعا افتراضيا. ولن يكون ذلك حكما قطعيا على جدارة الأفكار بحد ذاتها، فالجيد منها يساء أحيانا توظيفه أو رسم المسارات الملائمة لها. وبأفضل الأحوال سيصبح للغرائبي منطقه الخاص الذي يجعلنا نتعاطى بجدية مع لامعقولية تحوّل (غريغور سامسا) إلى حشرة في مسخ كافكا. هاهنا يصبح الخيال أمرا مألوفا ويتم تقبل الفكرة كفرضية رمزية أو نظام فنتازي له منطقه الخاص.

ربما يتطلب تلقي الفيلم انتباها بدرجة ما وتسويغا لأحداثه، خاصة إذا ما كنا أمام سرد غير خطي، فالمشهد السينمائي مرتبط بمقومات عدة، منها أن أحداثه تقع في زمان ومكان محددين يمهدان للحكاية ويرتبطان بما يلي من مشاهد لاحقة. في فيلم (آرك) نجد أن لحظة الصحو وما يعقبها من أحداث،رغم انها تجري صباحا بين الساعة السادسة و16 دقيقة والتاسعة و25 دقيقة، إلا ان ليس ثمة ما يوحي أو يعزز إدراكنا للزمن بنسقه المعهود (الصحو صباح كل يوم) فالإضاءة الشحيحة على سبيل المثال، تجعل الغرفة شبه المعتمة التي تنطلق منها الأحداث، مشوشة لحواسنا كمتلقين، لكنها في المقابل محفزة ودالة على الزمن الخاص للشخصيات التي تعاني تكرار الحدث لنحو تسع مرات في سياقات متقاربة.

وإذا ما كانت أبرز مشكلات أفلام الخيال العلمي تكمن في سوء كتابة سيناريوهاتها التي تكون طويلة ورتيبة في الغالب، بوسعنا القول إن فيلم(ارك) رغم ثغراته الدرامية خلق أجواء إثارة  منعشة خارج ما هو متوقع في هذا النوع من الأفلام التي غالبا ما تقع في النمطية. بل إن نقطة الجذب التي غطت على بعض إخفاقاته هي طريقة بنائه المشوقة والتي جعلته سردا صوريا محفزا للتفكير ومشجعا على التوقعات وخاليا إلى حد ما من الحشو الزائد والأحداث الثانوية.

 

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *