الفنان إبراهيم بريمو يرصد صوت ارتطام الأشياء في القاع

خلود شرف – سوريا

يقدم الفنان التشكيلي إبراهيم بريمو “مواليد سورية  “1962 مجموعة دراسات بقلم الرصاص والفحم بعنوان “الضوء الأسود ، “

مقدماً لتك المجموعه سرداً لقصة يمامة رمت نفسها من على شرفة بيته. ما حدث نبَّه قلبه إلى سقوط ما هو أكبر من اللحظة؛ إذ

ثمة خلل أصاب ما بناه الإنسان أسماه بـ”سقوط البديهيات”.

تعتبر هذه عتبة أولى للألم الإنساني في المتن التشكيلي عند بريمو، ينقلنا منها إلى مشاهدة مفارقات الموت المهيمنة والهمجية التي تملَّكت البشر أو هم امتلكوها عنوة.

 

صوت جنائزية يخرج من ممكنات قلم الرصاص والضوء، بغية إيصال الواقع وتعرية الألم والعجز أمام معطيات الموت المتربصة بمشهدية عالية الحضور بخطوط بسيطة.

 

يقول بريمو:”مجموعة الضوء الأسود ليست مجموعة صور، إنها صوت ارتطامنا بالقعر “.

ما بين خطوط الرصاص والفحم وضوء الأسود يبدو بريمو قليل الثرثرة، يوصل خطوطه باقتضاب ألم شديد، في تشكيل بصري

يتموضع غالباً في مركز اللوحة.

يصنع من اللون لوحة متكاملة بحرفية التباين وإحساس ماهية اللون وقياسات الفراغ، محولاً المحسوس إلى لون؛ شعور يصل صادماً بأول وهلة مقترناً بتساؤل عن كيفية إخراج اللون من عمق لون آخر خاصة كاللون الأسود، فيظهرعلى أنه المنقذ الوحيد للضوء أو ربما هو كنه الضوء.

هذه السلسلة تعابيرها قوية جداً، والمشاعر فيها واضحة وعميقة تصل بشعور عميق وثقيل، تنقل صراخاً تحمله الشخوص

القابعة في العتمة بصمت لتخرجه من حنجرة المتلقي، فتكبت قهرك المثقل بالوجع وتدير ظهرك لتنتظر أمام لوحة “أم  إيحاء حركة يديها يمرر الوقت كحبات سبحة عندها يقين باللقاء، والكرسي أضاع أضلاعه بالزمن أمام مساحة سوداء ، ثقيل هذا الانتظار، ومظلمة الحياة دون قناديلها الأبناء

 

بورتريهات لوجوه مكلومة تنتظر اللحظة المناسبة لتنظر بعيني المتلقي، تكاد تخرج من وراء الكواليس ماقتة العالم بنظرة خرساء كاوية، وتعود إلى ماوراء الستائر. لحظة انكشاف وعتب تحملها إلى البشرية كعار يبصم تاريخها الهستيري المفجوع والمتعطش للدماء. لِمَ كل هذي الأضاحي؟ تعبير صادق بشفافية عالية تتموضع الشخوص لتؤسس للمجموعة الثانية بعنوان “داخل اللحظة  . ” فعندما تنغمس العين بالظلام تختلف عليها الرؤية ، تقف أمام اللوحة عين لعين، عين نابعة من الظلام وعين أخرى تتحسسه لتنجو بالضوء، سرعان ما تصير انبلاجات لونية متباينة تتمركز بحذر في مركز اللوحات التي هي نفسها مركز الظلام، كخلق لإخراج التكوين من جوف تساؤلاته وقدرته على التماهي مع الحياة والحرب ومعرفة الذات.

التكوين الذي يعمل عليه بريمو هو إعادة إخراج الفراغ من العدم إلى نقطة في الضوء.

 

ويرى أن اللون كمعادل بصري قائلاً عن نفسه: لست رساماً بل أعمل في مجال الفنون البصرية، حيث يعمل في مجال التصميم الغرافيكي. أعمال اللحظة معظمها بالترابيات، يتخللها حقبة الأسود التي انتقل فيها بربمو للعمل بالأكريليك تظهر اللون بكثافة لونية أقرب للزيتي، وباختصار مكثَّف للخط وللضوء وللون، فتظهر شخوصه بالترابيات كأنها انطلقت من التساؤل من بين مكونات الطبيعة باتجاه الوجود الأعم، من الطين إلى الموت والحياة في جوف النجاة من الحرب صنيع البشر.

 

يدخل الأحمر صادماً كوجه أعلن موته، وتتنتظر أمامه جثة حبة أخذت وضعية التأمل باسترخاء أشبه برحلة استسلام للواقع كناجٍ وحيد من اللحظة. ذاكرته تسافر باتجاه الخسارة، عينه تمعن النظر بالمتلقي، أهذا ما تريده؟

 

تأخذ هذي السلسلة من الأعمال التي تراقب بصمت رحلة ما بعد النجاة لتؤسس لمجموعته الثالثة “صور على شواطئ

المتوسط . ” يخنزل بريمو مجموعته هذي بنهاية العيون الشاخصة في المرحلتين السابقتين؛ عيون تركض للنجاة، يختزل تاريخها قائلا: “يموت الغرقى بعيون مفتوحة . ” يخرج قليلاً من تكثيف اللحظة ليدخل مرحلة اللون المتلاطم على مصير قادم، فيكون الأزرق بعتمته ما يناسب غضب روح الفنان، ليسقط الوجوه الساعية للأمان في الأرض إلى تابوت الماء، سرعان ما تلفظ الجثث كحوت كبير مؤقت، يوصل أجساداً منفوخة حفظ رسالتها بالرحيل، وأوصلها حيث تشاء لكن ميتة. اختزال مراحل معاناة الإنسان في الحرب التي استخدمت كل أساليبها لتلاحق السوريين بالموت. أبشع وأقسى مراحل الموت التي عرفتها البشرية ، يختصر وجوهه ببقع تحاول التنفس من خلال الضوء، تخرج بشكل صادم من غيبية

الرحلة باتجاه الخلاص لكنها تظهر كشخوص منتفخة ابتلعت اللون الأزرق حتى بات ماء انتبجت به الوجوه وامتلأت برحلة المساءلة، هل تحتاج الحياة لكل هذا الموت؟ شخوص معبأة بالألم الإنساني، حالة مراقبة واستخلاص أصوات أرواح تصرخ لما بعد موتها، لا يتركها بريمو عالقة في الفضاء بل يستدعيها بالأكريليك لتصرخ من جوف مؤطر سرعان ما يصير ضوءاً. ينتقل بريمو من مجموعاته إلى محاولة مشاركة حزنه مع الطبيعة، من خلال لوحات متفرقة منها سمكة تبتلع

المحيط القابع بالتباين للظلام، سواد شديد الزرقة يتكاثف ما حول التكوين الذي يتمرأى للكائنات العينية القابعة في جوف

الضوء المباغت في اللوحة، يبدو ككابوس أو نظرة من الفراغ إلى واقع شديد الحضور. هذه إحدى لوحات بريمو.

يجد الضوء نفسه هو مصدر اللحظة البصرية، وبداية نظرة الدهشة، بعد مباغتة اللون الوردي بتباينه المحبوك بحساسية عالية

يؤطره الأبيض. لا ترى اللون في اللوحة، تراه كعلاقة هرمية بين عيون اللوحة وعين الرائي تتمركز بعين السمكة التي يرى من

خلالها الفنان إبراهيم أنها  سيرة السلمون، سيرة الحب في أعلى صورة، سيرة استثنائية، أحد أعلى أشكال البقاء .

بريمو يعتبر الجمال والقبح صفات لا علاقة لها بالقدرات والمهارات، وإن أكثر شيء مؤلم وصعب هو العمل على موضوع التشابه دون التورط به. تظهر أعمال بريمو على أنها خضعت للمراقبة فترة طويلة، مراقبة الذات المصغية للفنان لما يجري من تهافت في القيم الإنسانية، فيرى الفنان مضيفاً بصيغة الواثق: ” أعرف ما الذي أريده، يشغلني الإنسان، دليلي بصيرة الأعمى .

_______
*التشكيلي العربي

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *