استهداف الفلسفة وانحباس التفكير في عوالم التكفير

 

 *عبد القادر لعميمي

 

       “دافعوا عن عقولكم كما لو كنتم تدافعون عن أسوار مدينتكم..” (هيراقليطس).

                  ———————

استهلال

إن المتأمل في الفكر العقلي المنطقي، والمتتبع لسيرورته وظروف انبثاقه الزمكانية، يدرك لا محالة حجم الخناق والتضييق اللذان مورسا على هذا الفكر عبر التاريخ، بدءا من الزمن الإغريقي القديم، حيث أزمة الحرية الفردية وانتكاسة العقل الفلسفي مع المعتقدات الإغريقية الوثنية ومفارقات الديمقراطية الأثينية، مرورا بلحظة سيطرة المتعالي اللاهوتي المسيحي، وصولا إلى المحنة الفكرية العربية مع التفكير النقلي الإسلامي المتزمت… تاريخ حافل بالقتل والعنف والنفي والهجوم على العلماء والفلاسفة و الفكر العقلي النقدي.  تاريخ بلغت سموم لدغاته جسد حاضرنا وراهننا العربي أيضا.. فاستهداف الحرية الفردية والفكر الفلسفي النقدي والعلوم، متواصل بطرق ووسائل شتى، وعبر قنوات متعددة من بينها : الحس المشترك (أو العوام)، والدين والفتاوى الدينية، والبرامج التربوية، والمخططات التعليمية ذات النفس الإيديولوجي الوهابي، المشحونة بروح التطرف والتدجين الديني.. مسار طويل من المحن والاكتواء، ظل فيه الفلاسفة وأهل العقل يتجرعون كؤوس الألم قطرةً قطرةً، ولا مِنْ رحيم يحس بأوجاعهم أو يفهم مكنونات صدورهم وأفكارهم.. ألآم قاوموها بصبر وأناة، وكل ذلك من اجل بلوغ الأمل : أمل تحقيق الشرط الإنساني، وإعلان الإنسان كائنًا عاقلا، حرا، ومبدعا، يعلو بذاته على كل البهائم والعجماوات.

غير أن المفارقة المؤلمة التي يندى لها الجبين هي أنه وبعدما تمكن الإنسان الغربي من التحرر من سلطة اللاهوت المسيحي، وانعتق من لعنة الأساطير والخرافات، وبنى لنفسه أنوارا عقلية مكنته من التحليق عاليا في سماء التقدم العلمي والتكنولوجي، قام الإنسان العربي بإطفاء أنواره العقلية عبر مهاجمة كل العلماء والفلاسفة والتخلص من علومهم وآثارهم المنطقية، مع الاحتفاظ بمجلدات الأصوليين الحاوية لفتاوى التكفير والقتل ومنطق الحلال والحرام، ومخطوطات السحر والجان، ثم مؤلفات طرق وفوائد الجنس أو النكاح من قبيل : الروض العاطر في ترويض الخاطر- الوشاح في فوائد النكاح- رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه- تحفة العروس ومتعة النفوس …الخ.. إنه الارتماء في بحر التخلف والحكم على تاريخ امة برمتها بالعدم والفناء.. لقد استبدل الغربيون العمى الأصولي وظلام العصور الوسطى بالنهضة والأنوار، أما العرب فألقوا بأنوارهم وحضارتهم الغنية _التي كانت لديهم في العصر الذهبي القديم_ في سلة المهملات، وأبقوا على عتمات ثقافة الخرافة وأفكار الظلام والتخلف والجهل، دون وعي أو تردد… فما مظاهر استهداف العقل والعلم والفكر النقدي عبر التاريخ البشري؟، وما تجليات هذا الاستهداف في راهننا العربي والمغربي خاصة ؟ ثم ما انعكاسات ذلك على الأجيال الصاعدة واللاحقة ؟؟

2-   استهداف الفلسفة والعلوم في التاريخ :

2-1 – محنة التفكير العقلي وضريبته زمن اليونان القديمة

إن الهجوم على الفلسفة والفكر العلمي ليس حديث النشأة، بل هو هجوم تاريخي شُنَّ على العقل والحرية منذ القدم. ففي الزمن اليوناني القديم، وبعد ظهور الفلسفة أول مرة، لم يسلم الفلاسفة حينها من محاولات الإقصاء والاستهداف، فبالنظر إلى الأفكار والمعتقدات اليونانية التي كانت سائدة لدى عموم اليونانيين آنذاك، كان القبول بتفكير جديد يعد أمرا ممنوعا ومن باب المستحيل، فالفيلسوف المعلق على نظام الجماعة والمنتقد لأعرافها وطقوسها الدينية والمشكك في صحة معتقداتها، يعتبر في نظر الأسطوريين والخرافيين وأرباب الوثنية فاسدا ومجنونا، وعدوا يغرد خارج السرب ويهدد أمن البلاد وأخلاقها الموروثة.. ولذلك كان ‘بروتاغورس’ باعتباره واحدا من فلاسفة ما قبل سقراط، من الذين أدينوا في ذلك العصر، لعدم اعترافه بالعقائد الوثنية القديمة واعتراضه الشديد على كل التفسيرات الأسطورية للقضايا الوجودية، مؤكدا مقابل ذلك، على أن “الإنسان هو مقياس الأشياء كلها” وأن لا حقيقة خارج إطار العقل الإنساني (اللوغوس).  لقد كان هذا الفيلسوف من المشككين في صحة وجود الآلهة. والسبب حسب اعتقاده هو أن الإيمان الغامض الذي لا يتأسس على الفهم والتفكير، ولا يقوم على الوعي الصحيح بحقيقة ما نؤمن به، هو مجرد إيمان أعمى،  ولا تربطه بالإيمان الحقيقي (المنطقي) أية علاقة.  وبسبب هذا الموقف ثار عليه عدد كبير من عامة الشعب في اليونان فكفروه وأحرقوا كتبه.

aflaton

إلى جانب بروتاغورس اعتُبر الأثينيون الفيلسوف سقراط صاحب العبارة الشهيرة : أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك”، شرّا ينبغي إزاحته..  فأثينا في زمن سقراط كانت في حالة اضطراب مع إسبارطة ومجتمعها كان غارقا في المشاعر الدينية، لدرجة أن أيّ مصيبة تحلّ يمكن أن تُفسّر على أنها علامة تحذير من الآلهة. وكانت خسارة الحرب تعني بالنسبة للأثينيين أن الآلهة غاضبة، ولم يكن سقراط سوى القربان أو كبش الفداء المناسب. ترى مَن غيره يمكن أن يكون مسئولا عن الهزيمة وهو الذي كان يدرّس الشباب ويحرّضهم على أن يتمردّوا على آبائهم ويشكّكوا في القيم القديمة؟
إن الدين في أثينا كان شأنا عامّا ومرتبطا ارتباطا وثيقا بقيم المدينة. وكانت المعصية أو انعدام التقوى تُعرّف وفقا لمعايير المجتمع، تماما مثلما نعرّف نحن في أيامنا هذه مفردات مثل الفحش أو الفسق أو الفجور.

وأثناء البحث عن الأسباب والعوامل التي أطاحت بالفيلسوف الأهمّ والأشهر في العالم : سقراط،  حاول “روبن  ووترفيلد” (مترجم وباحث وأستاذ للفلسفة اليونانية القديمة) في كتابه “لماذا مات سقراط: تبديد الأساطير رسم صورة لمجتمع أثينا خلال السنوات الثلاثين التي سبقت محاكمته (محاكمة سقراط) والتي انتهت بإعدامه في العام 399 قبل الميلاد. فبعد دراسته للعديد من المصادر اليونانية الفعلية من تلك الفترة، توصل ووتر فيلد إلى أن موت سقراط كان سببه التهم الخطيرة التي وجهت إليه من قبل الأثينيين وهي :  معصية الآلهة وإفساد شباب أثينا والاعتراض على النظام الديمقراطي بتحريض الشباب ضده، بالقول على أن الحاكم لا يجب أن يكون من الدين يتم انتخابهم، بل من الدين يعرفون كيف يتصرفون أثناء الحكم (الخبرة).. إن هذه التهم حسب “ووترفيلد”  كانت بالفعل كافية لإصدار الحكم بالموت على سقراط. وموت هذا الأخير هو في الحقيقة استهداف للعقل والفلسفة ومُصَادرة ملموسة لحرية التفكير والإرادة في ذلك الزمان..

أضف إلى ذلك فاجعة اغتيال الفيلسوفة هيباتيا «أول فيلسوفة في التاريخ»، التي كان موتها تراجيديا، حيث إنها قتلت بطريقة لا  إنسانية على يد متطرفين في مصر القديمة ..

2-2- نكبة العلم والفكر النقدي واعلان الفلسفة خادمة للدين في القرون الوسطى المسيحية

أما في العصور الوسطى المسيحية، فلقد شاءت الظروف أن تظهر في أوربا، نزعة جديدة على غرار النزعة الإنسانية التي جسّدها فلاسفة اليونان (جورجياس، بروتاغورس، سقراط …)، نزعة سحبت البساط  من تحت الإنسان، وانقادت خلف المتعالي المفارق لعالم الهنا (عالم الإنسان) والمتوطن في سماء الهناك، إنه الخضوع لإرادة اللاهوت المسيحي والإقطاعي.

يُعدُّ هذا الحدث فاجعة كبيرة، لأنه تعبير عن ضياع الإنسان وضياع لحقيقته الباطنية التي تميزه. فبعدما كان الإنسان حيوانا عاقلا ناطقا وكائنا سياسيا فاعلا في حياة الجماعة، أصبح عبارة عن لا شيء، انتقل من وضعية الكل إلى وضعية الجزء، لكنه مجرد جزء منفعل لا فاعل، لأن إرادة السماء ترمز إلى كل شيء وتحدد أي شيء بعيدا عن تدخل الإنسان. ويظهر ذلك جليّا من خلال الشعارات التي رُفعت آنذاك، ومنها : “لا تفكر وإنما اتبع فقط” ، “لا تبحث عن الحقيقة، بل توجه إلى رجال الدين، الويل لكل من يقول أنا ” … ، إنه الضّياع في المقدس، حيث إن إرادة الله (الكنيسة) تعلو على الأفراد، وما على هؤلاء إلا أن يخضعوا كرها لها.  لذلك فكل محاولة عقلية للتمرد عليها يعرض الإنسان للنفي أو الإحراق والموت، ودليل هذا ما حصل مع العلماء. فعالم الفلك ‘نيكولاس كوبرنيكوس’ لما أنصت إلى نداء عقله وإرادته المعرفية الحرة، توصل إلى حقيقة واضحة برهن عليها من خلال العلم والمعرفة العقلية، لكن إرادة اللاهوت المتعالية أبت إلا أن تحرقه. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن “العقيدة اللاهوتية المسيحية مارست هيمنة شديدة على العقول والحريات الفردية.” 

أما في العصور المسيحية المتأخرة فأشهر المقتولين “سيجر البرابوني” وهو فيلسوف فرنسي، قتل على يد المتشددين لأنه من أتباع الفيلسوف العربي ابن رشد.

2-3- القتل والتعذيب والنفي.. لغة تواصل فئة من المتدينين مع الفلاسفة والعلماء في العصور الوسطى الإسلامية

إن تاريخ حروب رجال الدين للعلم والعلماء طويل ومرير، وقصص الصراع العصيب بين العلم والفهم الخاطئ للدين كثيرة ومتعددة، وهى ليست مقصورة على دين واحد أو زمان واحد.. والعالم الإسلامي لا يخلو من أحداث تعذيب العلماء والمفكرين وإعدامهم سواء في الماضي أو في الحاضر.. ولمن ينكر أو يشكك في صدق ذلك،  فعليه أن يضطلع على التاريخ ويقرأه بتمعّن.. من منكم لا يعرف الرازي والخوارزمي والكندي والفارابي والبيروني وابن سينا وابن الهيثم ؟.

ومن منكم لم يسمع  بابن رشد وابن باجة وبن طفيل وبن عربي وابن المقفع والطبري ؟؟. من منكم لا يعرف عمر الخيام والحلاج وبن الراوندي والجاحظ والمعري  وابن بطوطة  وابن خلدون ؟؟؟ لا شك في أنكم تعرفون هذه النخبة من علماء الإسلام التي أنارت فضاءات الحضارة العربية وطغت بشموسها على الحضارة الغربية آنذاك، حيث كانوا أساتذة العالم فكرا وفلسفة وحضارة, ولا ريب أنكم تتفاخرون بهم وبانجازاتهم في الطب والفلسفة والفيزياء والكيمياء والرياضيات والآداب وعلم الفلك والهندسة وعلم الاجتماع.  غير أنه وبالرغم من كل إنجازاتهم التي حققوها وأفكارهم الراقية التي أبدعوها، لم يسلموا من كيد الكائدين أعداء العقل والتفكير العلمي الذين أصدروا ضدهم  (ضد الفلاسفة والعلماء) أبشع الأحكام التكفيرية بنصوص متطابقة مع قرارات الكنيسة التي كفّرت كوبرنيك وبرونو وغاليلي, وبولستون ولينوس في أوروبا في القرون المظلمة, وحرّمت قراءة كتبهم, وبالغت في مطاردتهم وتعذيبهم والتنكيل بهم.

 

فالطبري قُتل , والمعري حُبس, والجعد بن درهم مات مذبوحا, وسُفك دم أبن حيان, ونُفي ابن المنمر, وحرّقت كتب ابن رشد والأصفهاني واتهموا في إيمانهم  وكُفّر الفارابي والرازي وابن سيناء والكندي .
أما ابن المقفع ” الذي كان يجمع بين لغة العرب وصنعة الفرس وحكمة اليونانيين، فأغضب الخليفة المنصور في صدر العصر العباسي الأول، فأتهم بالكفر, وقطعت أطرافه وفُصِلَ رأسه عن جسده, وألقي بباقي أجزاء جسده في النار، والخلفية الحقيقية الكامنة وراء هذا الحكم الشنيع هي كتابه كليلة ودمنة وكتب سياسية أخرى كثيرة، وضح فيها ابن المقفع ما ينبغي أن يكون عليه الحاكم إزاء الرعية, وما يجب أن تكون عليه الرعية إزاء الحاكم”.  ثم خنقوا لسان الدين بن الخطيب وحرقوا جثته, وكفروا ابن الفارض وطاردوه في كل مكان.. والإمام ابن حنبل, قام الخليفة المعتصم بسجنه وتعذيبه. أما الكندي, فيلسوف العرب, فَجُرِّد من ملابسه وهو في الستين, وجلد 60 جلدة في ساحة عامة، وسط تهليل العام  و زغاريد النساء.


فقد لا يعلم عامة الناس ما قالوه عن ابن سينا الطبيب والعالم والفقيه والفيلسوف, وما قاله عنه ابن القيم في كتابه إغاثة اللهفان حيث قال: “إنه إمام الملحدين الكافرين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر”, وقال عنه الكشميري في “فيض الباري”: “ابن سيناء الملحد الزنديق القرمطي”, وقد لا يعلم الناس أيضا بما قالوه عن أبي بكر الرازي, الطبيب والعالم والفيلسوف. قال عنه ابن القيم في “إغاثة اللهفان” : “إن الرازي من المجوس”, و”إنه ضال مضلل” . وقالوا عن ابن الهيثم: “إنه كان من الملاحدة الخارجين عن دين الإسلام, وكان سفيها زنديقا كأمثاله من الفلاسفة”, وقالوا عن أبي العلاء أحمد بن عبد الله المعري: “إنه كان من مشاهير الزنادقة, وفي شعره ما يدل على زندقته وانحلاله من الدين”, وقالوا عن محمد بن عبد الله بن بطوطة: “إنه كان مشركا كذابا”, وشتموا الكندي, وقالوا عنه: “إنه كان زنديقا ضالا!!.
لسنا هنا للدفاع عن هؤلاء العلماء الذين رحلوا منذ أكثر من ألف عام, ولكن نحن ضد تسطيح عقول الناس وضد محاربة العلم والعلماء ظاهراً “وباطناً”.

 وإذا كان الإسلام قد حث المسلمين على شد الرحال لطلب العلم ولو كان في الصين، فإن محاولات تكفير هؤلاء العلماء الأعلام, وتشويه صورتهم بهذه الأساليب البدائية تمهد الطريق لتراجع مساهمات العرب في إنتاج وتطوير العلوم والآداب. والاستنتاج الممكن الذي نخرج به في هذا السياق، هو إن الدعوات التي استهدفت تكفير العلماء في الماضي والحاضر تهدف في حقيقتها إلى تكريس الجهل والتخلف, وتأخر ميلاد الإبداع في المجتمعات الإسلامية فتصبح الشعوب بأيدي رجال الدين والسلاطين يسومونهم كيفما شاءوا ويوجهونهم نحو الفكر والعلم الذي يستهويهم  فقط  ويحافظ على مكانتهم . إن الزندقة كانت وما زالت من أبشع الأسلحة التي تستخدم ضد العلماء والمفكرين , فتزرع بدورها بذور الخوف والشك في المجتمعات الناهضة لتنمو أشجار الجهل والتخلف, وإذا بقينا على هذا الحال فعاجلا أو آجلا سوف نصل إلى ما وصلت إليه أوروبا في العصور المظلمة. فالتقدم له أسبابه. والتخلف أيضاً لا يأتي من فراغ. وقد ضاعت أمم قبلنا كثيرة حين حجبت الرأي, وحاربت العقل. وطغت بظلم وعدوان على العلماء والحريات الفكرية.

لكن هل ليالي القرون الوسطى الحالكة قد غابت عن حاضرنا، و ولت إلى غير رجعة، أم أن سواد لياليها لا يزال مخيما فوق سماء وجودنا؟ وإذا كان الغرب الأوربي قد تحرر من سلطة المتعالي وأعلن عن ميلاد الأنا المفكرة، فأنار بهذا الحدث الجلل عالم أوربا برمتها وحقق الحداثة، فأين نحن من ذلك ؟ هل تنورنا أم لازلنا غارقين في مستنقعات التخلف والجهل والتطرف ؟

 

2-4- امتداد الفكر السياسوي الديني الوهابي المتطرف نحو حاضر المغرب

 

لا ريب في أن الأستاذ المفكر هاشم صالح ومعه الفيلسوف الجزائري محمد أركون وغيرهما، قد استفاضوا في الجواب عن هذا الإشكال (إشكال: لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب؟)، ووقفوا على أزمة التنوير في المجتمعات العربية وأسباب الانحباس الفكري والعلمي والفلسفي فيها، رادين ذلك إلى عوامل سياسية ودينية وتاريخية،  أبقت هذه المجتمعات إلى حدود الآن غارقة في الشعوذة والأساطير والغرائز، ومتأخرة في كل شيء : في التعليم والتربية والعلم والصناعة والفلسفة…

والمغرب مثال حي على ذلك، فالتضييق الذي مارسته الدولة على الفلسفة والعلوم الإنسانية نهاية السبعينات، عبر إعلانها عن قرار إغلاق معهد السوسيولوجيا بالرباط سنة 1971…  و أوامر البصري حينها لوزير التعليم عز الدين العراقي بمنع أي مجاز في الفلسفة من ولوج مدارس تكوين المعلمين لكي لا  يتسرب الفكر “الثوري” إلى الأطفال في الابتدائي.. ومحاصرة شعبة الفلسفة  داخل كليتي الرباط و فاس بوليسيا ، و الحكم عليها بالانزواء بين أسوار الجامعة ومنعها من الخروج إلى الخارج حتى لا ينتشر صوت أفكارها العقلية النقدية في جسد المجتمع.. ثم قيام الدولة مع بداية الثمانينات، بإطلاق مشروع   افتتاح شُعَب الدراسات الإسلامية للترويج لفكر نجح بقوة في تحويل الأنظار من التفكير في الحياة وقضايا الواقع المعقدة والملغومة، نحو التفكير في الآخرة وقضايا القبر والجنة والنار.

أضف إلى ذلك  التصريح الخطير لوزير التعليم العالي ما بين سنتي 2015/2016، في حق خريجي كلية الآداب والعلوم الإنسانية ، والذي وصف فيه هؤلاء بأنهم عالة على الآباء والمجتمع، داعيا إلى العمل ما أمكن على التقليص من وتيرة انتشار شعب الآداب والعلوم الإنسانية غير النافعة على حد تعبيره، والتخفيض ما أمكن من عدد زبنائها في المجتمع، عبر التفكير في بدائل إستراتيجية تعود على البلاد بالنفع والثروة.

هذا دون أن نغفل أيضا، التعليق التهكمي السافر الذي صدر عن رئيس الحكومة المغربية والأمين العام لحزب العدالة والتنمية في حق الشعراء والفلاسفة والقضاة، الذين قال عنهم بأن المغرب ليس في حاجة إليهم، بقدر ما هو محتاج إلى قطاع ذو إنتاجية وأبناء ينتجون الثروة.

تصريحات مباشرة كهذه من رجال الدولة لا تنم إلا عن رغبة هؤلاء في زرع الفتنة وتحقيق مشاريع سياسية وإيديولوجية خبيثة غايتها تضبيع الأجيال الصاعدة، وتمزيق شمل المغاربة بواسطة إقصاء الفكر النقدي والإبداع، والتضييق على المفكرين والأدباء، عبر توهيم عموم المجتمع بإمكانية العيش بسعادة وهناء ولو في غياب الثقافة.

و ما يسترعي الانتباه أكثر هو أنه وبعد التصريحات العنيفة والخطيرة التي وقفنا عليها، والتي استهدفت بقوة الأدب والفلسفة والعلوم الإنسانية.. نجد أن هذا الاستهداف سيمتد ليطال هذه المرة حتى العلوم الطبيعية والحقة، التي لم تسلم هي الأخرى من هذا الجشع الإيديولوجي الوهابي الأصولي الأرثوذوكسي المتطرف. ونقصد هنا بالضبط : ما صدر عن مؤلفي المقررات الجديدة لمادة التربية الإسلامية (منار الجذوع المشتركة والأوليات)، من مضامين واختيارات لا تربوية أبانت وبشكل واضح عن عدائهم الواضح للفلسفة والمنطق والعلوم.

فالناظر في مقررات منار التربية الإسلامية، يكشف بوضوح مباشر عن العداء الشرس الذي يكنه مؤلفو هذه المقررات ومن معهم في التصور، تجاه الفلسفة والعلوم العقلية: الطبيعية والإنسانية.. وهو في الحقيقة عداء ليس بغريب ومتوقع من هاته الجهات في أية لحظة. عداء محصن بقوة المؤسسة والقانون، فالأصوليون السياسويون، لا ينجزون أي عمل إلا وتكون له خلفيات إيديولوجية حقيقية تؤسس لأفق اجتماعي وثقافي مسدود.

ومادامت الفلسفة خطابا عقليا منفلتا من كل اليقينيات ومفككا لجميع الخطابات: سياسية كانت أو دينية أو إيديولوجية أو تاريخية، فإن وجودها النقدي الحر يجعلها حجرة عثراء أمام كل المحاولات التجارية والاستثمارية والاستغلالية للوعي الجماهيري ورادارا فكريا يرصد حركات أعداء العقل والعلم أينما رحلوا وارتحلوا ..  ولكي لا يظل العقل سيد على العالم وسلطانا يدبر أمور الحياة وقضايا التاريخ، فإن أعداءه (أنصار التطرف الديني والفكري) لم يتوانوا عن القيام بكل المحاولات الخسيسة البئيسة من داخل كل الفضاءات (الشارع، المدرسة، المساجد، والمنابر الإعلامية والسياسية) لتأليب الناس والناشئة ضد المنطق والفلسفة والعلوم، عبر تصويرها لهم في شكل خطابات شاذة، مجنونة، ودخيلة يلزم الحذر منها على الدوام، في أفق القطع معها نهائيا في المستقبل، اقتداء بالنموذج التربوي لبعض البلدان العربية التي أبعدت الفلسفة والتفلسف عن ديارها ومدارسها، مبررة هذا القرار السياسي بفتوى دينية تقول بتحريم الفلسفة والمنطق لأنهما على حد اعتقادها السياسوي الوهابي المنغلق، مخالفان لشريعة الله وعقيدته السماوية.. ومن ثمة رفع شعار: “التفلسف والتمنطق هما أس التهرطق والتزندق” .

 

وإذا كانت أوربا قد تقدمت وتحضرت بفعل الإصلاحات الجذرية التي قامت بها على مستوى كافة  القطاعات، خاصة قطاع التعليم وأعادت النظر في الدين والتربية عبر عقلنتهما وجعلهما متلائمان مع قيم الحداثة وروح العصر، فإن مغربنا لا يزال تائها ومحتارا، فلا نحن فصلنا الدين عن السياسة وتحدثنا ولا نحن تشبثنا بالموروث الثقافي الديني وتأصلنا.. نريد الحداثة وفي نفس الوقت نَحِنُّ إلى التقليد والقدامة، نستهلك إنتاجات الحداثة بلهفة دون أن نعي ونستوعب مضامينها ومبادئها، نستخدم الحاسوب والهواتف الذكية ونركب السيارات والقطارات، دون أن نتساءل عن كيف تم بناؤها؟ ننتقد الحداثة ونسبها سبا ونعتبرها فكرا شاذا كافرا يعارض الدين، وفي مقابل ذلك نستهلك منتجاتها، فنبرر هذا الفعل بالقول : إن هذا لمن فضل رب العالمين، دون أن نعترف بفضل العقل العلمي الغربي فيها وعلينا.

هذا الانفصام الفكري الذي نعيشه، سببه التربية الأصولية المتطرفة، والروح الوهابية التي تسكن تعليمنا ومقرراتنا وبرامجنا المدرسية منذ زمن طويل، حيث التركيز على التلقين والحفظ بدل الفهم،  والكم بدل الكيف، وعرض القضايا بطريقة غير بيداغوجية، تقتل الفكر وتشل ملكاته، ثم طرح أسئلة نمطية لا تحفز العقل على التفكير، وتركز على الحفظ  فقط، من قبيل : ما هي..؟ من هو..؟ متى كان.. ؟ وتغييب أسئلة الفهم والتحليل والتفسير التي توسع الأفق العقلي العلمي والفلسفي لدى المتعلم من قبيل: كيف أن.. ؟ ما معنى أن..؟ وبأي معنى يمكن القول على أن.. ؟ برهن على أن.. ؟ ما تفسير أسباب وقوع ذلك.. ؟ …الخ، فمثل هذه الأسئلة هي التي  تنمي لدى التلميذ القدرة على الفهم والتحليل والنقد والتركيب، وحل الوضعيات المشكلة، بكيفية عقلانية ذاتية حرة،  بعيدا عن الخوف وعن حجة السلطة، والوثوقية  وفكر الوصاية والتحكم.

 

فبعدما كنا نعتقد بأن زمن الفكر القروسطي المتشدد قد وَلَّى، وبأن محنة الفلسفة مع النقل قد اختفت وانقضت مع انبلاج زمن الحرية والحداثة، ها نحن الآن نشهد بأم العين انبعاث التزمت الوسطوي من رماده في عصرنا المغربي الراهن، بكيفية صريحة دون تَخَفٍّ أو مواراة، ليس من طرف العامة وحسب، وإنما أيضا من قبل الساهرين على تأليف المقررات المدرسية والأوصياء على قطاع التربية والتعليم، الذين عِوَضَ أن يعملوا على تحديث البرامج التربوية وجعلها متماشية مع روح العصر وقيم العقل المستنير، نجدهم يستهدفون العلوم العقلية والتفكير النقدي الحر، عبر زرع نصوص أصولية متشددة تحمل نفسا وهابيا خطيرا يهدد المدرسة والبلاد من الداخل، مثل بعض النصوص التكفيرية المتشددة لابن تيمية الذي يعد مرجعا مهما للحركات الإرهابية في الوقت الراهن (كَ: داعش) أو الفتاوى الدينية المتطرفة، لابن الصلاح الشهرزودي الذي سفه الفلسفة والمنطق واعتبر المشتغل بهما مهرطقا وزنديقا مسه الشيطان وأبعده عن دروب الإيمان بالله ورسوله، كيف لا وهو صاحب القول المشهور ” من تمنطق تزنطق”.. وما زاد الطين بلة، هو دفاع الجهات الوصية على التربية والتعليم عن هذه المقررات علنا، والدعوة إلى تبنيها دون حرج،  والعمل بها دون الاكتراث لخطورتها على الهوية الوطنية والمجتمع..

على سبيل الختم

يتبين لنا من خلال ما سبق أن مسألة استهداف العقل وعلومه الفكرية، هي مسألة تاريخية جرى وقعها منذ عقود طويلة من الزمن، من قبل  أعداء التفكير النقدي وخصومه أنى كانت توجهاتهم (سياسية أو دينية)، ولا زالت شرارة هذا الاستهداف اللاهبة ممتدة إلى يومنا هذا، من خلال الأحكام الدينية المتزمتة والقرارات السياسية القاتلة والجائرة في حق النخب المفكرة والمثقفة، متى ما كان صوت  لسانها مرفوعا ومنطوق عقلها واضحا، كاشفا عن فساد القيم ومغالطات السياسة، ومآرب الإيديولوجيين وتجار الدين.. وحتى ينقطع دابر الفكر النقدي الحر، ويختفي توهج العقلية التنويرية من أرض الوجود الاجتماعي، فإن أنصار الظلام يستغلون كافة الوسائل الضرورية والقنوات التربوية المهمة لتحقيق غاياتهم، كتأليب العامة ضد المتفلسفين والمناطق، وتبخيس العلم لديهم عبر الإشادة بقوة الخرافة والشعوذة والسحر في تحقيق الأمن الصحي والروحي لديهم، واستغلال المدرسة لتمرير أفكار سطحية وقديمة بعيدة عن روح العصر والحداثة، ثم تلقين المتعلمين مواد دراسية، بصيغة تبدو فيها هذه المواد متعارضة على مستوى القيم ومتناقضة على مستوى المنهج والمعرفة، دون الأخذ بعين الاعتبار مبدأ التكامل والامتداد بينها على مستوى التوجهات التربوية (كهجوم مقرر منار التربية الإسلامية الجديد بمستوياته الثلاث، على الفلسفة والعلم والمنطق، بدولة المغرب)، وكل ذلك بهدف خلق الزوبعة وتنفير المتعلمين من الفلسفة والعلوم المنطقية.. هذا دون أن ننسى الحصار المرير التي تعانيه هذه الأخيرة في دول عربية أخرى ذات التوجه الديني السلفي الوهابي، الرافضة للفكر العقلي، والساعية  ما أمكن، نحو شل حركية العلوم، و ذلك من أجل تسطيح العقول وتضبــيـع الأجيال، و تحويل الأفراد إلى عبيد وأتباع طَّــيٍّـعِــينْ.

—————————————–

تعبِّر “الأصولية” intégrisme عن موقف فكريٍّ متعصب لدى بعض المؤمنين الذين يرفضون، من خلال تمسكهم بـ”أصول” دينهم، كل تطور ويأبون مجاراة الحياة الاجتماعية الحديثة باسم احترام متصلب للعقائد الدينية أو الإيديولوجية.

 

*أستاذ مادة الفلسفة وباحث في تاريخ الفلسفة وقضايا الوجود الإنساني*

                                                                                                                        فاس / المغرب

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *