عبده وازن يطلق أحلامه نصوصاً غرائبية

*رجاء نعمة

لا شيء يشبه الحلم مثل الغيمة؛ كلاهما، يقتحمك بلا استئذان في فضاء كثيف يصعب لمسه وبهشاشة مذهلة القوّة والأثر. كلاهما خاطف في عبوره الدائم التجدد في شكله وتقلباته، سريع في تبدّده، إنّما شديد البلاغة لجهة علاقته بالحياة. لا غرابة إذاً في أن يتراءى للشاعر عبده وازن عنوان كتابه في المنام فيستسلم له اعترافاً منه بأهمية الدّلالة التي يحمل، هو المتمرس بالتواصل مع أعماق ذاته تمرساً جعله يربط «الغيمة» بخيط رفيع سحري يصل الحلم بالإبداع. سحري كما ألاعيب الخفة ما أن تمسك به حتى تنسل من شرنقة لاوعيك آلاف الخيوط مشكلةً نسيج الحلم. هكذا هي حكايات عبده وازن غيمة نُسجت أثناء النوم. يا لحظّه أن يكون هذا المدى لصيقاً بأحلامه! هبة كهذه لا تتيسر لكثيرين وإن كان إثراؤها يستدعي هبة أخرى: القدرة على استشفاف أعماق الذات والدأب على القيام بذلك، لا في النوم وحسب بل وفي اليقظة أيضاً وفي الكتابة. فما ذات النوم وذات الوعي سوى كينونات متصلة لا سبيل إلى فك اشتباكها.

لا مبالغة إن قلت إن كتاب عبده وازن هو المرادف الشعري والسردي لمؤلَّف فرويد «تفسير الأحلام» ولمقولات يونغ في «سعي الإنسان إلى اكتشاف نفسه» وكتابه «حياتي». في بدء قراءتي تساءلت عما إن كان الشاعر قد تبحر بمؤلفات هذا وذاك. تساؤلات ظهرت أجوبتها في الفصل الأخير من الكتاب الذي يبيّن أن عمق اطلاعه على آراء يونع يوازي انجذابه إلى هذا العالم الفيلسوف المرهف. لا عجب أن ينهل كلاهما، يونغ ووازن من ينبوع التصوف، الميتافيزيقيا والفلسفة، بينما انشغل فرويد بتشييد النظرية العملاقة التي كاد يعتبرها إيديولوجية لا تقبل الجدل. ولكن، على رغم التباين في الرؤية يتفق العالمان على صلة الحلم باللاشعور وأعماق الذات وعلى رمزيته وعلاقته بواقع الحياة. وإن كان يونغ في تحليله الحلم يبدع في تجاوز الذات الفردية إلى الجمعية وتجاوز آنية الحالم بالزمن السالف وأهله؛ فثمة تباينات كثيرة عبّدت درب الاختلاف الذي تفجر بينهما، فرويد ويونغ، على سطح باخرة كانت تقلهما إلى أميركا. كانت مناسبة الاختلاف تفسير حلم! في معرض تبادلهما أحلامهما حكى التلميذ يونغ للمعلم فرويد ما رآه ليلة البارحة وهذا قدم تفسيره القطعي بصلف جرح نرجسية الصديق المرهف. على أن القراءة العميقة المتأنية للأحلام من ناحية ولنظرية فرويد ومقولات يونغ من ناحية أخرى تؤكد أن رؤيتي هذين العملاقين تكمل الواحدة منهما الأخرى على رغم التباين والاختلاف؛ ولولا تشبث فرويد بتحويل نظريته إلى إيديولوجية ولولا رهافة الحس لدى يونغ، لأثرى كل منهما نظريته ونظرية الآخر بالمفاهيم التي بلورها.

على سعة اطلاعه لا يحتاج شاعر مثل عبده وازن إلى نظرية كي يتوغل في مسكن أحلامه. بل إن عكس ذلك هو الصحيح. العالِم يحتاج إلى الشعراء والفنانين والروائيين ليُفهم وتبقى أحلام هؤلاء من الشواهد التي تؤكد مفاهيم فرويد ويونغ إذ لا قيمة لأي مقولة خارج الشواهد. ولطالما لجأ فرويد ويونغ إلى أعمال هؤلاء لبلورة المفاهيم و المقولات التي تبدو غامضة، لهما في المقام الأول، ومن ثَمّ لقرائهما ودارسيهما.

في «غيمة أربطها بخيط» ومنذ الحلم الأول يدرك القارئ شفافية الفضاء الدي يخلد إليه الشاعر وتلمّسه بواطن نفسه ومعايشته عالمه اللاواعي. إنه الفضاء الذي يكمن فيه الحلم وتتشكل فيه صوره وآلياته ومساره وعناصره وعلاقة هذه بعضها ببعض، كما الصفات التي تتسم بها وفي طليعتها الخارق والعبث واللامنطق واللامعقول وسيادة الرمز وانكسار الأزمنة والأمكنة أو دمج متناقضاتها بطريقة سريالية عصيّة على العقل الواعي ومرفوضة من أحكام المنطق. كلها معطيات نعثر عليها في الفن السريالي مثل أعمال بيكاسو كما في أحلام عبده وازن. في هذا الصدد لا ندري أي الطرفين أوفر حظاً: عالِم مثل فرويد يرسي نظرية محكمة ويمضي حياته في الدفاع عن مسوغاتها أم شاعر يجره قلمه بلا تخطيط أو غاية، تماماً كما يجرنا الحلم إلى حيث نرغب أو نمقت الانجرار إليه. منذ «التوأم» – وهو الحلم الأول في كتاب عبده وازن – تُكشف الغلالة عن عجابة اللاوعي الذي ينجح الصحو في كمّ أصواته والتعتيم على حقائقه. والعنوان ذاته شديد البلاغة إذ لا يخلو حلم من توأم، من قرين أو نقيض. وجوه وتوائم تتكرر في منامات عبده وازن. توأمك في المنام هو في الأغلب أنت نفسك استحضره لاوعيك رمزاً مموَّها ليريك وجهك الآخر في مرآة عجيبة يتكرر ظهورها في أحلام وازن. مرآة وتوأم يجسدان لك حقيقتك المغايرة المناقضة لتلك التي اعتدت على تقمّصها وسط النهار. الحقيقة المغفلة المنسية أو المقهورة تحت وطأة الواجبات والضرورات والمبرّرات وأحكام المجتمع والعقلانية. في كتاب عبده وازن وجوه كثيرة تتقابل مع توائمها في المرايا أو وجهاً لوجه. وذوات عدة منشطرة تسعى إلى أن تتعرف على نصفها الآخر. أو تتعرف على سالف وجودها وعبور أمثالها في الدنيا وفق رؤية يونغ. لا مراء في أن الذات المحددة تتجاوز مكنوناتها إلى ذات جمعية أشد ثراء وتجذراً في الحياة وهذا تماماً ما يحدث في حلم «التوأم» الذي في وداعه توأمه ومسيرته إلى المقبرة ينجلي الرمز الجزئي لتوأم ميّت – حي في مكان محدد وتاريخ معين عن رمز كلّي وجوديّ الدلالة يجسد مسيرة الإنسان في الدنيا وعبثية النهاية المقدرة له. وداعاً يقول التوأم لتوأمه: «صلِّ عن نفسي» أوَليست هذه العبارة ذاتها التي تتكرر على الأفواه المعذبة منذ فجر التاريخ؟

وداع التوأم هو ذاته وداع الحلم وتحقيق الانفصال بين الذات النائمة وتوأمها المطالب بالصحو. لدى الشاعر الحالم مسؤوليات مغايرة في «الحياة» تستدعي اليقظة والتنبه وشحذ العقلانية. آلاف الصفحات الثقافية تمر كل عام من بين أنامله يلزمها الصحو وعدد من فناجين القهوة لتنأى به عن معابثة الأحلام. على أن الشوق لذاته الأخرى لن يلبث أن يأخذه يومياً إلى المسكن السرّي وهذه المرة إلى جنة «الغابة» (ص117 ). يدخلها دخول طيف حرّ طليق يطارد طيف حورية بالغة الجمال. يتتبعها وهذه تهرب وهو يمعن في مطاردتها وهي في الهرب. لكنها ستتوقف هنيهة وراء شجرة! «تتلصص عليه وملء نظراتها الدهشة والحنان والشهوة». إنها الغواية المترسخة، لا في وجدان الشاعر وحسب، بل وفي الوجدان الجمعي لكل من تشرّب ثقافة التوحيد وحكاية بدء الخليقة. على أن الحالم هنا لن ينال المراد المعروف؛ فالشاعرية، لا البدائية، هي ما يميّز غيمة الأحلام التي أتاحت له ولوج «الغابة».

أحلام عبده وازن لوحات تشكيلية سريالية يرسمها بالكلمات. قصص أو قصائد أو نصوص، لا يهم. ولا غرابة فالأحلام بطبيعتها فن تتشكل صوره في اللاوعي على نحو سريالي. بل ومفرط في السريالية إفراطاً جعل الناس يلجأون طويلاً إلى المشعوذين والسحرة لفك أسرارها. البصرية والمشهدية والأماكن هي أكثر ما يميّز الأحلام فلا نقول سمعت حلماً بل رأيت. الحلم فيلم سينمائي كأنه خضع لمونتاج شرّير في عبثه، بليغ في رموزه، عجيب في تقطيعه وتوصيله. لا لشيء إلا تمييزاً منه لحلم الليل عن صحو النهار. ومهما توغلنا في تفسيرات الأحلام لدى العالميْن الآنفي الذكر، وعلى رغم صواب تلك أو مبالغاتها أو تصلّبها، يبقى تفسير المونتاج السريالي سرُّ الحلم ذاته وضرورة لسرياليته. هذه وحدها قادرة على تجسيد نقائض النفس ونوازعها، تشتتها ومخاوفها في مشهد عابر. ماهية الأحلام أن تكون ألغازاً تنطق بلسان مقطوع ونفس مدجّنة وتجري أحداثها في أماكن عتيقة أو مبتكرة. أماكن غريبة مألوفة في آن واحد هي البيوت القديمة أو مغاور السالفين. سريالية تنطق بالحقائق الممنوعة الجارحة المنافية للواقع والوجه اللصيق به. ظلّ لا مرئي إبان النهار ساطع الحضور في الظلمة. وحده المنام يسمح بأن يكون الكل جزءاً والنصف نصفه النص والواحد قرينه («أنت الذي هو أنا» ص 53 ومنام «النص» ص163).

هذه أفلام شاعر ضاق بعالم الواقع فأطلق العنان لجياد أحلامه وغزلانها تسرح في جنة اللاوعي وجحيم دانتي. شاعر عبر «أبواب النوم» ليتوغل في العالم الخارق الأخرق الذي لا مثيل لصدقه وأمانته وقدرته على الاصطدام بالواقع واستشفاف المستقبل. ها هو «برج بابل» (ص 171) إنما لا في حجمه الواقعي بل هو برج هائل يطال الغيوم ويكتظ «بحماعات من البشر من مختلف الأجناس والألوان» يتدافعون ويتصايحون مثلما في ساعة الحشر. الكل يتكلم ولا أحد يسمع وإن سمع فلا يصغي ولا يفهم. حتى الحالم نفسه لا يفقه العبارات التي يتفوه بها. صورة بليغة لعصر أُتخم بوسائل الإعلام والاتصال تخمة أفقدتنا نعمة التواصل. نِـعَم كثيرة نفقدها في هذا العصر الصاخب الذي قدّر علينا أن نحيا ترهاته. ويا لهذا الحلم الفيلم «إعدام الكتب»،(ص 78). ساحة الإعدام ممتلئة بآلات هائلة الحجم تطحن والصناديق تتدفق وسر ذلك أن «اليوم هذا قد خصص للتخلص من الكتب مجاناً». هذه ليست نهاية مكتبة وحسب بل زوال ثقافة تشربها الإنسان حقبات مديدة من التاريخ البشري منذ ابتكار الكتابة. ها هي الكتب في المطاحن «تئن فللكتب أرواح مثلنا نحن بني البش. مثلنا تتألم وتخاف حين تودع أصحابها …» تماماً كما نودع نحن مؤلفات عشقناها وتاريخاً لا نأمل بعودته. أوَليس الحلم علماً واستشراف رؤية تنتظر شاعراً يحولها إلى مشاهد يصعب عليك إن رأيتها نسيانها؟
_____
*الحياة

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *