كمبيوتر الحبر والدم!

*خيري منصور 

التقليد الذي دأبت عليه الصحافة في خاتمة كل عام انتهى إلى اختزال ما أُنجز معرفيا وزمنيا خلال عام بعدد الكتب والأفلام السينمائية، إضافة إلى نعي من رحلوا. والكمبيوتر الذي يعهد إليه بهذه المهمة غالبا ما يسقط منه سهوا الكثير، لأن الإحاطة البانورامية بثقافة عام كامل أمر متعذر، خصوصا أن ما كتب ولم ينشر خلال عام لا يندرج في خانة المنجز.
ورغم أن الأعوام بل العقود الأخيرة من حياتنا لم تكن يوتوبيات محررة من الشرور والأحزان ، إلا أنه، على الأقل، كان الحبر فيها أغزر من الدم والدمع، بعكس ما يحدث الأن، حيث يتفوق عدد التوابيت على عدد المهود والدم على الحبر، وحين تختل معادلة الحياة والموت ينحاز الحاسوب إلى الدم، ذلك لأن ما قاله برتولد بريخت في هذا السياق يستحق الاستذكار، وهو سؤال الجيل القادم الوريث لكل هذه الحمولة من الشقاء. ما الذي كتبه الشعراء عندما سالت الدماء في الشوارع، وهل أبقى بياض الأكفان ورايات الهزائم مساحة لبياض الياسمين؟ إن ما حدث رغما عن التاريخ وليس بفضله قلب قائمة الأولويات رأسا على عقب، وتسمر سهم البوصلة عند جهة خامسة، ليست من الجغرافيا بقدر ما هي من التاريخ، هي جهة التراجيديا التي تضاعف فيها عدد الشهداء وشحّ الشهود، بحيث تصدق نبوءة الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور حين تحدث عن زمن يأتي لا يعرف فيه المقتول من قتله.
والمسألة ليست في المفاضلة بين أولويتين، هما أولوية الحبر وأولوية الدم، لأن الكتابة حين تكون جديرة بالعبور من زمنها الصغير إلى الأبدية فيها متسع كالغابة للفراشة والأسد، كما قالت الشاعرة إيديث سيتويل، ولا تقاس أهميتها بموضوعاتها بل بما تقول وكيفية هذا القول، وهذا هو مصدر الالتباس مهنيا وأخلاقيا، حيث يتصور الهواة الذين يلعبون الكرة أمام المرايا بلا شبكة أو حكم بأن الكتابة تستمد أهميتها من الموضوعات، رغم أن الأدب الرديء يسيء إلى القضية التي يحتج لها مهما بلغت من العدالة، ويقترض منها ويفقرها بدلا من أن يسلفها ويمنحها من فائض جودته وعدالته ورؤاه.
وحين تساءل سارتر ذات يوم عن قيمة روايته «الغثيان» إزاء موت طفل لم يكن يقارن بين الحياة والموت، بقدر ما كان يعترف بقصور الكتابة أمام الفعل، وهذا ما نجده متكررا لدى معظم المبدعين، سواء تعلق الأمر بالفلسفة أو الأدب، لأن المبدع الأصيل يدرك الحقيقة ولا يسقط في فخ الوهم ولديه شكوك في جدوى كل ما يقوم به، بعكس الكاتب المخدوع الذي لا يعي لا مبالاة الطبيعة بكل ما يفعله، ومثال ذلك ما ورد في «رباعية الإسكندرية» للورنس داريل، فالراوي الذي كان يصغي لما تعبث به الطفلة بأوراق مخطوط روايته لم يقل لها شيئا، لأنها تشارك الطبيعة لامبالاتها بكل ما يصدر عن البشر حتى لو كان إبداعا.
فالزلزال لا يفرق بين طلل أو متحف، وبين كثيب في صحراء أو مقبرة، وهناك كاتب بريطاني قال، إن شكسبير الذي تحقق له الخلود لم ترد في كل أعماله فكرة واحدة يزعم فيها أنه سوف يظفر بالبقاء على قيد التاريخ بعد الموت.
وحين نتساءل عن عدد الكتب أو الأفلام التي أنجزت خلال عام ودعناه تفاجئنا من الجهة الأخرى أرقام عدد القتلى والمشردين والعالقين بالتاريخ والجغرافيا معا، لكن هؤلاء جميعا بلا أسماء لأن الرقم الأصم ينوب عن الاسم في واقع دونه الجحيم.
وحين يحصي كمبيوتر الحبر أسماء من رحلوا من المشاهير يتوقف حاسوب الدم رغم ذكائه المزعوم عن إحصاء الضحايا، سواء نسب القتل إلى فاعل أو نائب فاعل، وتلك بحدّ ذاتها إحدى مفارقات التاريخ، حيث يقدم الواقع تكذيبا صريحا لمزاعم أخلاقية، فالضحية البليغة ليست كالضحية الخرساء، والجريمة الناقصة بفضل الشهود ليست كالجريمة الكاملة التي يعز فيها الشهود.
ويبدو أن أكثر ما يحتاجه المثقف العربي الذي ينعم بامتياز الأعور بين العميان هو قليل من التواضع، بحيث يعي شرط النقصان الذي يدفعه إلى المعرفة ليحصن ذاته من وهم الاكتمال، فمــــن لم يبصــــــر في حياته من الماء سوى بركة آسنة يتعذّر عليه أن يتخيل محيطا.
وهناك عبارة تحضرني دائما لإنطوان مقدسي يقول فيها إن العربي الجاهلي كانت قامته كعربي تعادل قامته كإنسان، بعكس حفيده المعاصر الذي أصبح يستعير سيقانا صناعية كي يحذف المسافة بين كونه عربيا وإنسانا، ذلك لأنه مسكون بنموذج يحاكيه ولا يبلغه على الإطلاق، وقد يكون الإفراط في استخدام صفة العالمي كتعبير عن قيمة مضافة دليلا متكررا على ذلك، وكأن للكتابة والإبداع تسعيرة أيضا، تقاس فيها العملة المحلية المتدنية بالدولار أو اليورو.
___
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *