الدروس الجيدة للأفلام السيئة!

*إبراهيم نصر الله 

نتعلم من تجاربنا الناجحة، ونتعلم من تجاربنا الفاشلة أيضاً، وإن كنا كبشر، ربما نتعلم منهما أقلّ مما ينبغي! ولعل الأمر فيما نُشاهد ونقرأ، لا يختلف كثيراً، فنحن نتعلم من الأعمال الأدبية والسينمائية والفنية الناجحة، كما يمكننا أن نتعلم من الأعمال الأقل مستوى، بقليل أو بكثير.
وأذكر أنني في حوار صحافي منذ زمن طويل، قد أشرت إلى ضرورة أن يتابع الكاتب التجارب السينمائية الأكثر جماهيرية، رغم أن معظمها هو الأقل دسماً، لا لشيء، إلا لأن هذه الأعمال الرائجة للأسف، لم تزل هي التي تشكل الإنسان الحديث، وتصوغه، بما فيها من تسطيح وتفكك قيمي وجمالي وروحي… ويمكنني القول إنني أفدت كثيراً من هذا النوع من الأفلام، في غير عمل كتبته، وها أنا أحاول الإفادة، في هذا المقال، من جديد، من فيلم سينمائي أمريكي متواضع، حديث، عنوانه (يوم الباستيل)، من بطولة إدريس إلبا، وإخراج جيمس واتكينز.
ما يهمني في هذا الفيلم، هو اختياره للموضوع، وحريته في ذلك، دون أن نسمع أي احتجاجات أو مظاهرات ضده وسحب سفراء، وما إلى ذلك في دولنا العربية والعالم ثالثية (كاملة الديمقراطية!) كما حدث وأن تناول (يوم الباستيل)، بلدَ الحرية والإخاء والمساواة!
تدور أحداث الفيلم في يوم العيد الوطني الفرنسي، الذي جاء تكريما لذلك اليوم الذي تمكّن فيه الشعب الفرنسي الثائر من إنهاء الحكم الملكي المُطلق، واقتحام واحد من أسوأ السجون سمعة: الباستيل.
لكن الفيلم لا يتغنى بذلك اليوم المشهود، كما قد نتوقع، بل يتغنى بالقوة الاستخبارية الأمريكية، التي تتحرّك خفية وعلانية في باريس، لإنقاذها، في لحظات حرجة، تتمثل في تورط رئيس الاستخبارات الفرنسية نفسه، مع عدد من رجاله، في مؤامرة كبيرة لسرقة الاحتياطي الوطني للبنك المركزي الفرنسي، وذلك عبر افتعاله لسلسلة من أحداث، تنفذها الشرطة نفسها: تفجير، إرهاب، اعتداء الشرطة على واحد من الأقليات، وترويج فيلم الاعتداء لإثارة الشارع، دسّ مواد لصنع القنابل في أحد المساجد لاتهام المسلمين بالتفجير، وكل ذلك هدفه دفع الناس للثورة، أو للفوضى، ليتسنى لرئيس الاستخبارات هذا تنفيذ خطته في ذلك اليوم العظيم!
إلى هنا سأوقف الحديث عن الفيلم، كي لا أفسده أكثر لمن أراد أن يراه، مع أن إفساد فيلم سيئ، بكشْفِ قصته، ليس أمرًا سيئاً في الحقيقة! وسأبدأ حديثاً من نوع آخر عن المعضلات الكبرى التي تواجه الكاتب العربي، والسينمائي العربي، والمسرحي العربي، إلخ..، مستغلاً موضوع هذا الفيلم.
ماذا لو قام واحد من حضراتنا نحن الكتاب! وتناول موضوعاً مثل هذا، يمسّ استخبارات دولة عربية شقيقة، وتورّطها في القتل اليومي، والإفساد، والتضليل، والسرقات؟! أو تناول جنرالاً من جيش بعينه، وحوّله إلى شخصية روائية؟ أو تناول وزيرا أو حاكما أيا كانت صفته؟ وقد سبق للسينما الأمريكية أن تناولت شخصية الرئيس في كثير من أفلامها، وعرّته تماماً من كل ما يمتّ للشرف والأخلاق، وليس هذا مديحًا مُطلقاً لهذه السينما، بقدر ما هو اعتراف بوجود مساحة من التعبير تتيح للمخرجين وكتاب السيناريو ذلك، دون أن يُعدموا رمياً بالرصاص في الشوارع العامة.
نحن نعرف أن موضوع الاستيلاء على الاحتياطي الوطني العربي من قبل الرؤوس الكبيرة، لا يحتاج إلى ذكاء ومخطط متقن، لتحقيق ذلك، لأن نهب الاحتياطات الوطنية يتمّ تحت أسطع الشموس، ويمكن أن نستعير اسم رواية الكبير ماركيز لنقول: إنها (قصة نهب مُعلن)، لكن تناول ذلك أدبياً أو سينمائياً من الكبائر!
أتخيل المعضلات التي يواجهها كتاب سيناريوهات محترمون، رغم وجود أكثر من ألف ومائتي فضائية عربية على «النيل سات» وحده. إن عليهم أن يراعوا أن مشهداً ما، يمكن أن تبثه فضائية بعينها، لكن هناك عشر فضائيات ستمتنع عن شراء المسلسل إذا ما تم تصوير ذلك المشهد، وهكذا.
سأترك الحديث عن هذا الموضوع الكبير، الذي يمكن أن يسبب حروباً، وأمضي إلى موضوعات أصغر، لا تتحسس منها السلطات المسؤولة، فحسب، بل عامة الناس أيضا، وهذه مشكلة المشكلات.
طبعاً، لم يزل الحديث عن شخصية رجل أمن فاسد أو ضابط فاسد، أو حتى جندي مكلّف بالخدمة الإجبارية، فاسد، أمراً شديد التعقيد في كثير من دولنا، إذا ما استثنينا ما عبرت عنه السينما المصرية. فإذا ما تمّ ذلك، فإن السلطات ستتعامل مع الأمر باعتباره مساساً بالمؤسسة العسكرية، الأمنية، القضائية، التنفيذية، وما إلى ذلك، فهو بالضرورة آمن، ونقي ولا شائبة تشوب عقله أو ضميره أو جيبه أو سمعته أو أخلاقه، ما دام ابناً لهذه المؤسسات!
هنا يمكننا القول، إن هناك سلطة، وتريد أن تدافع وتحمي كل من يمكن أن يُدافع عنها ويحميها.
ولكن لنمض إلى أمر أقل تعقيداً من هذا، ولا يمسّ كرامة وهيبة أنظمتنا الطاهرة العفيفة، إنه أمر يتعلق بالنظرة العامة للناس، تجاه مهنة بعينها، مهما كانت هذه المهنة متواضعة. لا أستطيع أن أنسى، أنني حين كتبت عن شخصية سائق تاكسي، في رواية «شرفة العار»، أن الأسئلة لم تتوقف منذ سبع سنوات في كل مكان تُناقش فيه، وكل تلك الأسئلة هي سؤال واحد في الحقيقة: هل تقصد أن كل سائقي التاكسي خالعون، فاسدون؟!
ثمة مشكلة في الذهن العام، أن كل شخص يبدو رمزاً للمهنة التي ينتمي إليها، وأيضاً، وهذا أسوأ، للعائلة التي ينتمي إليها، والعشيرة، وهكذا عليك أن تنتبه وأنت تُطلق اسماً ما على شخصية فاسدة، كي لا يشير اسمها إلى قبيلة ما، ذات نفوذ، ومعروفة، فكل أفراد القبيلة كما يعرف القاصي والداني محترمون، ليس فيهم اللص أو المهرب أو المغتصب، أو القواد!
إنها حالة شائكة، في عالمنا العربي الذي يُبكي، ولكن عليك أن تمرَّ صباحاً على أقرب مركز أمنيّ لبيتك، ليرسموا لك ابتسامة مدة صلاحيتها يوم واحد، كما كان على بطل (حارس المدينة الضائعة) أن يتلقى صفعة صباحية، من ذلك المركز الأمني الغامض، كل يوم، قبل الذهاب إلى عمله، لكي يُبت عمق ولائه وقمة رضاه!
______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *