الفلسفة الفرنسية المعاصرة جدل التموقع والتوسع… جناية أخرى على الثقافة العربية

خاص- ثقافات

د. خليد كدري (*)

     أصدرت أربع دور نشر عربية، قبل أقل من سنتين، كتابا تحت عنوان الفلسفة الفرنسية المعاصرة: جدل التموقع والتوسع [1].

     ويلتئم الكتاب من تقديم بقلم سمير بلكفيف (الجزائر) بوصفه مشرفا ومحررا، وخمسة عشر مقالا لخمسة عشر مؤلفا عربيا معظمهم من الجزائر والعراق. لكن، إذا كان المراد من مقالات الكتاب، كما جاء في تقديم المشرف والمحرر، “أن تعطي فكرة عامة عن قضايا الفلسفة الفرنسية المعاصرة وتياراتها وموضوعاتها وأعلامها”، فإن هذه “الفكرة العامة” لا تبرر، بأي حال من الأحوال، إقصاء طائفة من كبار المفكرين الفرنسيين أمثال فكتور كوزان وألبير كامو وجورج بطاي وريمون آرون ولوي ألتوسير وكلود ليفي ستروس وهنري كوربان وإيمانويل ليفناس وجان بودريار وجيل دولوز وجلبير دوران، وغيرهم. وكيف يجوز علميا، وأدبيا كذلك، إفراد مقالين لعالم اللغة “السويسري” فردناند دي سوسير، ومقالين لجاك دريدا، والإعراض التام عن مفكرين من عيار بيير دوهيم وألكسندر كويري وجان كافاييس وفردناند ألكييه وجورج كانغيلام وجاك بوفريس، وغيرهم؟

     ولعل القارئ قد لاحظ أن جهة الإشراف والتحرير أتبعت عنوان الكتاب الرئيس عنوانا فرعيا هو “جدل التموقع والتوسع”. فليت شعري، هل يوجد لفظ “التموقع” في معجم العربية الفصحى؟ هل تغلب معجم الشارع على معجم “أهل العلم”؟ هل يجب على المثقفين العرب العمل على إصلاح أعطابنا الثقافية أم العمل على تزكيتها وإشاعتها وتخليدها؟

     وبصرف النظر عن الإقصاء غير المبرر لطائفة من شيوخ الفكر في فرنسا، أو عن مدى صحة لفظ “تموقع”، فنحن لا نجد للعنوان الفرعي أي أثر يذكر في الكتاب الذي لم يأت بجديد البتة بالمقارنة مع ما تطفح به الموسوعات العامة والمصنفات التعليمية التي تناولت أعلام الفكر الفرنسي المعاصر. وإطلالة سريعة على “مراجع” الكتاب تظهرنا على ذلك؛ يضاف إليها غلو العديد منهم في الإحالة على الروابط الإلكترونية، كما لو أن المراجع الورقية قد انقرضت بلا رجعة! فهل أصبح الحاسوب “بيت حكمة” الكتاب والباحثين العرب؟

     ومن الحكايات التي يشيب لها الولدان زعم السيد بلكفيف في تقديمه للكتاب أن “الفلسفة الفرنسية المعاصرة تقوم في جوهرها على مفهوم التعالي”! فهل يريد “الاستعلاء” بمعانيه الأخلاقية والنفسية والاجتماعية، إلخ، أم يريد “التعالي” الذي يقابل عند جمهور المشتغلين بالفلسفة، كما نعلم، لفظ “ترانسندانس”Transcendance  الأعجمي؟ أجل، قد يقبل استعمال لفظ “التعالي” بمعنى “الاستعلاء”، أي التكبر والتعاظم وما في معناهما، وهو أمر شائع، لكن في غير مقام القول الفلسفي الذي يؤمه الكتاب، وإلا أوقعنا القارئ العربي العادي في ألوان التشويش وسوء الفهم.

     ونقرأ في مقال السيد علي حسين سيد إسماعيل القفاص (الموزمبيق) عن “نظرية دي سوسير اللغوية” أن المقابل العربي لكلمةlangue  عند العالم السويسري هو “اللغة”، وأن المقابل العربي لكلمةLangage  هو “اللسان”[2]. بينما العكس هو الصحيح، كما نعلم. وإلا، فبماذا يا ترى يمكن أن نترجم عبارةlangage des signes؟ هل نترجمها بعبارة “لغة العلامات” أم “لسان العلامات”؟

     وفي مقاله عن “آليات المعرفة الإنسانية عند دي سوسير”، ينقل السيد محمد عوده (العراق) كلاما عن العالم السويسري يقول فيه: “إن الحقائق الدياكرونية ليست موجهة نحو تغيير النظام، فالمتكلمون، أي علماء المنطق [كذا!]، ما كانوا ليرغبوا في الانتقال من نظام معين للعلاقات إلى نظام آخر، إذ إن التغير لا يؤثر في ترتيب العلاقات بل في عناصر النظام”[3]. والحال أن عبارة “علماء المنطق” محض زيادة من عند الكاتب، ولا وجود لها لا عند دي سوسير ولا عند مترجمه العربي الذي نقل عنه[4]. ثم إن دي سوسير يتحدث عن “الوقائع”faits [5] ولا يتحدث عن “الحقائق”vérités ! فهناك فرق…

     ونقرأ في مقال السيد علي البوجديدي (تونس) عن “الضحك في فلسفة برغسون” أن الميتافيزيقاMétaphysique  هي “الماورائيات”[6]! ولا أظن أن السيد البوجديدي يجهل أن لفظ “فيزيس” الإغريقي يدخل في تركيب مصطلح “الميتافيزيقا”، وهذا ما لا نجده في لفظ “الماورائيات” الذي قد يستعمل أحيانا للدلالة على الكهانة والسحر وقصص الجن والأشباح، وغيرها من الأمور الخرافية.

      ونقرأ في مقال السيد ثامر زروقي (الجزائر) عن “الحرية والوجود في فلسفة سارتر” أن والد هذا الأخير مات بسبب “أمراض القولون عندما كان يخدم في أندونيسيا”[7]؛ في حين يعلم جمهور قراء جان بول سارتر أن والده قضى بسبب الحمى الصفراء أو “الآسيوية”[8]، وليس بسبب “أمراض القولون”، وأنه قضى في بلاد الهند الصينية (فيتنام)، وليس في “أندونيسيا”!

     وفي معرض المقارنة العجيبة التي أجراها بين سارتر وبين الفلاسفة التجريبيين “الذين من بينهم جون مارك لوكJohn Mark Locke  [كذا!]”[9]، يحيلنا السيد زروقي على الصفحة 238 من كتاب “الموسوعة الفلسفية المختصرة”[10] (إشراف زكي نجيب محمود)؛ لكننا حين نعود إلى الكتاب والصفحة، نلفي المادة المخصصة لسارتر[11]، ولا نلفي شيئا مما تكلم عنه الكاتب! ثم إنه تصرف في اسم الفيلسوف الإنجليزي جون لوك، وأضاف إليه “مارك”، فصار اسمه “جون مارك لوك” الذي لا وجود له في تاريخ الفلسفة كما نعلم!

     ونقرأ في مقال السيد حيدر عبد السادة جاسم التميمي (العراق) عن “أركيولوجيا المعرفة عند ميشيل فوكو” أن كلمة Archaeology “كلمة يونانية الأصل تتألف من مقطعين أولهما (arche) ومعناها البدء، وثانيهما (Logos) ومعناه كلمة أو حديث. ومن هنا [يضيف الكاتب] يكون المقصود بكلمة (Archelogos) [كذا!] البدء بالكلمة أو الحديث”[12]. وعليه، فالأركيولوجي هو العالم الذي تتمثل صناعته في “البدء بالكلام أو الحديث”! ويلزم عن هذا أن كل من يبدأ بالكلام في جمع من الناس، فهو أركيولوجي أو عالم آثار! والله يقدر الليل والنهار…

(*) كاتب وباحث أكاديمي من المغرب.

هوامش:

[1]- سمير بلكفيف (إشراف وتحرير)، الفلسفة الفرنسية المعاصرة: جدل التموقع والتوسع، بيروت: منشورات ضفاف، الرباط: دار الأمان، تونس:

كلمة للنشر والتوزيع، الجزائر: منشورات اختلاف، ط. الأولى، 2015،

[2]نفسه، ص. 28.

[3]نفسه، ص. 50.

[4]– فردناند دي سوسير، علم اللغة العام، ترجمة يوئيل يوسف عزيز، بغداد: دار آفاق عربية، 1985، ص. 100.

[5]– Ferdinand de Saussure (1916), Cours de linguistique générale, Paris : Payot, 1995, p. 117 & passim.

[6]– سمير بلكفيف، مرجع سابق، ص. 101 وفي مواضع متفرقة.

[7]نفسه، ص. 120.

[8]cf. Louis Chaigne, Vie et Œuvres d’écrivains, 4 vol., Paris : Ed. Lanore, 1966, vol. 4, p. 39.

[9]– سمير بلكفيف، مرجع سابق، ص. 122.

[10]– زكي نجيب محمود (إشراف)، الموسوعة الفلسفية المختصرة، ترجمة فؤاد كامل ومن معه، بيروت-لبنان: دار القلم، د. ت.، ص. 238.

[11]نفسه، ص. 238-42.

[12]– سمير بلكفيف، مرجع سابق، ص. 207.

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *