شهلا العجيلي: الحكايات أيقونة المجتمعات

حاورها: محمدو لحبيب

حين يمتزج الكاتب بالناقد تصبح للكتابة أبعاد عميقة ومؤسسة على شيء مهني وتقنيات واضحة بفعل تلك العلاقة، لكن تلك العلاقة بشكل آخر قد تجعل أحدهما – الكاتب أو الناقد – يغتال الآخر، فلا يستطيع الكاتب الروائي عندئذٍ مثلاً أن يتخلص من أسر تخصصه النقدي.
الناقدة والروائية الدكتورة شهلا العجيلي نموذج متميز على تلك العلاقة المشتبكة والجدلية، لكنها استطاعت بسلاسة أن تكتب نصوصاً روائية متميزة، وأن تجعل دراستها للنقد تشذّب نصها كما قالت لنا، وقد استطاعت الدكتورة شهلا في ظل تلك الخبرة الفنية، وبفعل لغة شعرية سردية أن تكتب رواية مكانها الأول مدينة «الرقة»، لتحكي بنوع من الإحياء التاريخي حكاية لحظة مدينتها الحالية.

«الخليج» التقت الدكتورة شهلا العجيلي وتحدثت معها في مواضيع من اهتماماتها كناقدة وكروائية:

إلى أي مدى يمكن للرواية التاريخية أن تعبر الحاضر لتؤسس للمستقبل خصوصاً في زماننا العربي الحالي المواجه بتحديات التطرف والإرهاب؟

تستطيع الرواية أن تفعل ذلك إذا كانت مكتوبة بروح عابرة للآني، وعابرة للمحلي، ومعتمدة على رؤية إنسانية لا تتغير، فالذي يتغير هو الأدوات، ولكن القيم والمشاعر مثل الحب والكره والخيانة، كلها لا تتغير عبر كل العصور، خاصة أن للتاريخ حركات تكرارية أحياناً، وتاريخنا العربي خاصة كرر ذاته في مراحل كثيرة، وأنا في روايتي «سجاد عجمي» حاولت أن أقدم المفارقة بين تاريخ الرقة الثري، والذي يعود إلى 10 آلاف سنة قبل الميلاد، وبين تاريخها اليوم، إذاً ثمة مفارقة هائلة، وهناك تهميش في العصر الحديث لهذه المنطقة ولناس هذه المنطقة، وحاولت أن أضيء عليها من خلال الرواية.
أعتقد أن من مهمة المبدع أن يحكي عن مكانه، المكان الأول، وأنا أعتبر رواية «سجاد عجمي» هي رواية مكاني الأول، ورغم أنني كتبت عن الرقة في «عين الهرة»، وكتبت عنها في «سماء قريبة من بيتنا»، ولكن «سجاد عجمي» هي التي نذرتها لتكون رواية الرقة.

أنت ناقدة وروائية معاً، كيف استطعت ضبط العلاقة المشتبكة غالباً بين الناقد والروائي وأنت تكتبين ما سميتها رواية مكانك الأول؟

في «سجاد عجمي» استفدت كثيراً من دراستي للأدب القديم، واستفدت كثيراً من دراستي لتاريخ هذه المرحلة ولأدبها الذي هو أدب العصر العباسي، أي في القرن الثالث الهجري، استفدت من المورفولوجيا، ونمط المعمار، والطعام، واللباس، والعطور، وطريقة الكلام، والخطاب، يعني أن دراستي للأدب وللنقد أفادتني كثيراً، فقد استفدت من «البيان والتبيين»، ومن «نهج البلاغة»، باختصار حاولت توظيف كل معارفي النقدية في رواية «سجاد عجمي» لكنها، لم تظهر بشكل فج في الرواية، لأنها معالجة فنية وبأدوات السرد، ولا أعتقد أنه ظهر في الرواية عناء في اللغة، ولا أعتقد أنني كنت أحفر في صخر كما يقال.

في رواية «السماء قريبة من بيتنا»، يلاحظ أنك استخدمت فيها لغة بسيطة تميل إلى المحافظة على الهيكل التقليدي للحكاية، ودراما الحكاية، هل هذا يعني أنك كناقدة تتخذين موقفاً رافضاً للأشكال التجريبية في السرد؟

في «السماء قريبة من بيتنا» قررت أن أتحرر إلى أقصى حد في العلاقة مع اللغة، وظهرت اللغة فيها متحررة من كل المحاذير، هي لغة فصحى طبعاً، لكن قررت أن أكتب مثل ما يتكلم الأطفال، أو مثل ما يحكون، وأعتقد أنني نجحت في ذلك، وحافظت على بنية الحكاية، وأنا أصلاً أحب الحكاية، وأحب أن أقرأ الرواية المكتوبة حكائياً، وأعتقد أن الذي أبعد المتلقين عن قراءة الرواية في فترة من فترات تاريخنا الأدبي، هو فقدان الحكاية، أو الحكاية المتشظية، أو الحبكة المهشمة لِنقل، والتي هي أحياناً مؤشر على عدم الدراية وعدم القدرة على تقديم حبكة مسبوكة تختفي تحت شعار التجريب.
فالحكاية هي التي تختصر التاريخ، فأنا استعرضت عبر 350 صفحة تاريخ العالم في مئتي سنة عبر الحكاية، لأن الحكايات هي أيقونات المجتمعات، وهي تقنية اختزالية.
أعتز بلغة «السماء قريبة من بيتنا» كما أعتز ببساطتها وعمقها، وأعتقد أنني تحديت نفسي فيها، كي أجعل القارئ لا يعاني أثناء قراءتها لغوياً.

قلت إن الحكاية تشظت مع التجريب، هل يعني ذلك في نظرك كناقدة عجزاً لغالبية من يقبلون – خصوصاً من الكتاب الشباب – على التجريب في عالمنا العربي عن كتابة حكاية محكمة؟

قد يكون ذلك، لكن التجريب هو موقف، فعندما ظهر التجريب في أواخر الستينات من القرن الماضي في الثقافة العربية كان موقفاً سياسياً لنقل، من كل مضى، من كل الأوهام السابقة، ومن الهزائم، لذلك بات هو تكسير كل شيء في اللغة حتى البنية والقالب.
غير أن من سيتقن هذا التكسير ينبغي أن يتقن أولاً الشكل الكلاسيكي حتى يستطيع الخروج منه بشكل صحيح ويتجاوزه، وهناك كتاب كبار فعلوا ذلك، كتبوا روايات حكائية تقليدية، ثم كتبوا في قالب تجريبي بعد ذلك.
لكن الغريب حقاً هو أن يبدأ الكاتب بالتجريب مباشرة، أعتقد أن ذلك ثقيل.
بشكل عام أعتقد أن كل رواية هي حالة من حالات التجريب، لأن التجريب أساساً غير محصور في قالب محدد، فكل محاولة جديدة في الرواية لم يسبقك أحد إليها هي نوع من أنواع التجريب.

ما هو رأيك في الشكل التجريبي الذي يحاول أن ينتشر الآن، خصوصاً عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والمعروف ب «القصة القصيرة جداً»؟

القصة القصيرة جداً قُنن لها، أي صدرت كتب تنظيرية في محاولة لوضع أسس لها، لكن أعتقد أنها شكل من أشكال التعبير، وهي مختلفة عن القصة القصيرة، مختلفة عن الرواية، لكن فيها روح شعرية، الآن هي لها علاقة بلمعة، لها علاقة بالتحدي، بمجاراة سرعة الحركة في الزمن الحالي، لا بأس، أنا مع أن يكتب الجميع وأن يجرب الجميع، ويجوّدوا لغتهم، ودائماً ما أقول إنها حركة إيجابية أن نقرأ ونكتب ونعبر عن ذواتنا، فأن يكتب الناس ويقرؤوا أفضل كثيراً من ألا يفعلوا ذلك.

على ذكر الروح الشعرية، ما هي مصادر الشعرية في سردك الروائي؟

مصادر الشعرية عندي، ليست لغوية بالضرورة، أي أنها لا تنبني على علاقة اللغة باللغة وافتعال الشعر، والتصوير المجازي، لا، عندي يمكن أن تأتي الشعرية من الموقف، من التاريخ، يمكن أيضاً أن تأتي من الحنين إلى أماكن معينة، فالأماكن والجغرافيا التي أختارها هي أصلاً جغرافيا لها عمق ولها بعد شعري، فالشعرية عندي إذاً لها مصادر متعددة وهي التي تؤثر في المتلقي، لذلك حين ترجمت نصوصي لم تفقد قيمتها الشعرية، لأنها كما أسلفت لا تنطلق من اللغة.

أنت من الذين يدعون الناقد إلى أن يكتب بلغة جزلة بسيطة، كي يصل إلى الكاتب ويؤسس علاقة تفاعل وتفاهم معه، أين تضعين هذا القول على مستوى مناهج النقد؟

هناك نوع من النقد يعتمد على حكاية الظاهرة نفسها، فأنت حين تكتب عن ظاهرة في التاريخ، أو في حياة النساء، عن ظاهرة محددة، تأتي بحكايات عن تلك الظاهرة وتطورها، مثل ما تفعل فاطمة المرنيسي مثلاً، ومثل آمنة اليوسف أيضاً، وهذا يدخل في إطار ما يعرف بالنقد الثقافي.

هل تعتبرين أن الجوائز تصنع الكاتب، أم أن الكاتب أحياناً هو من يضفي زخمه على الجائزة لتستفيد منه هي ومن وجوده كمرشح لها؟

الحالتان قائمتان في الحقيقة، هناك كتّاب صنعتهم الجوائز، بالنسبة لي أنا كتبت قبل الجوائز، وكتبي رائجة ومطبوعة عدة طبعات، أما تأثير وجود إحدى رواياتي في القائمة القصيرة لجائزة البوكر، فهي أنها سرّعت الوصول إلى المتلقين، ووسعت شريحة التلقي، وصارت الطبعات تتوالى بكثرة.
أعتقد كذلك أن الكاتب أحياناً يعطي مصداقية لبعض الجوائز، فبعض الجوائز تحتاج إلى كتّاب لهم مصداقيتهم عند الجمهور، كتاب رصينين، ونصوصهم أصيلة فعلاً كي تكون للجائزة قيمتها، لا يمكن أن تذهب كل الجوائز للنصوص الرائجة فقط.

كيف تحكم الناقدة شهلا العجيلي على الروائية شهلا العجيلي؟

من الصعوبة بمكان أن ينقد الكاتب نصه، ولكن أرى أن تخصصي في النقد شذب نصي، وقتل عندي أنانية الكاتب، فالكاتب أناني بطبعه ولا يريد أن يرى نصوص الآخرين، ودائماً في إطار المنافسة يجد نفسه الأفضل، النقد هنا يردع مثل هذا الشعور إذا امتزج بالكاتب في شخصية ما.
أنا أطلع على نصوص الآخرين، وأشتغل عليها جمالياً، وأقدم رؤيتي النقدية لها، وأقرظها إن كانت تستحق وأضيء على الجماليات.
لذلك حينما أكتب أكون شجاعة لأنني أعرف هذا النص، وكيف يمكن أن ينافس، وكيف يمكن أن يتفوق، وإلى الآن أنا راضية عما كتبت، راضية إلى حد ما، ربما لا أكون مكثرة، بسبب كوني ناقدة، فأنا آخذ وقتي لا شيء يدفعني إلى الكتابة سوى الكتابة، وأصنع نصي بشغف.
_______

*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *