ظلال السّرد المهمّشة..مُقاربات في الفن الروائي (2)

*لطفية الدليمي

أقرأ غالباً على صفحات الفيسبوك المشحونة بالصخب مجادلات ونزاعات ووجهات نظر متباينة ومتطرفة حول الفن الروائي ، وقد علقت في ذهني بعض الملاحظات التي تراكمت لدي  منذ زمن حتى بلغ التراكم حداً رأيت معه أن أعلّق على بعض التفاصيل الخاصة بالفن الروائي من وجهة نظر شخصية خالصة توصلت إليها كمؤشرات  ، وأود التأكيد بدءاً أنني لست بصدد الحديث عن الثيمات الكبيرة الخاصة بوظيفة الفن الروائي وطبيعته وأجناسه – تلك الثيمات التي كتبت عنها بشيء من التفصيل في تقديمي لكتابي المترجم ( تطوّر الرواية الحديثة ) الصادر عن دار المدى عام 2016 ، بل سأؤكّد  هنا على بعض التفاصيل المُغْفلة التي غالباً ماتُهّمشُ ولايُعنى بها بعضُ قرّاء الرواية وكتّابها . سأناقش هذه  التفاصيل بهيئة مقاطع مستقلة لتأكيد الفكرة المقصودة :

– الموسيقى الجوّانية  للنص الروائي أداة لتمرير الأفكار : يمتاز كل روائي بميله الطبيعي للتركيز على ( موسيقية ) النص والتعامل مع موسيقى الكلمات باعتبارها أداة فاعلة في التعبير عمّا لايمكن التعبير عنه بالكلمات المجردة ؛ فاستخدام  البناء الموسيقي وتوظيفه في النص الروائي يمنح النص بهاء وقدرة على تمرير الأفكار عندما  تعجز اللغة  المتداولة عن ذلك وعلى نحو شبيه بما تفعله السمفونيات الكلاسيكية  .  تشكل ( موسيقية ) العبارة الروائية كما أراها  بصمة خاصة بكل روائي  يصعب تقليدها ونسخها لأنها بناء جوّاني متماسك بخيوط لامرئية  له سرّه الإيقاعي ونسيجه النغمي ، ويمكن تفسير هذا الأمر  على نحو  ماعبّر عنه أحد الفيزيائيين  بقوله : إن نظرية ( كلّ شيء Theory of Everything ) التي يسعى لها الفيزيائيون سوف تستخدم نوعاً من الرياضيات المتقدمة غير المعروفة والشبيهة بموسيقى ( بتهوفن ) التي تبدو عناصرها الأولية مألوفة لنا غير أنها تمتلك بصمة خاصة لايستطيع  سوى ( بتهوفن ) الإتيان بها .

تختلف موسيقى العبارة التي أعنيها هنا اختلافاً جوهرياً عن الانثيالات العاطفية السيّالة التي تسعى لتحويل الكلمات إلى لعبة لغوية مسطحة لإثارة العواطف المراهقة والمشاعر الشعبوية لأجل بلوغ أهداف تسويقية معلومة ؛ بينما تحقق موسيقية العبارة تفرداً لأسلوب الكاتب وتصبح علامته الفارقة التي تميزه عن سواه من الكُتّاب .

15942108_1510739948954833_692632326_n

– الرواية والاستقصاء المعرفي الدقيق : تمتاز الرواية الرصينة بأنها لعبة ذهنية في المقام الأول بصرف النظر عن تجنيسها النوعي وتقنياتها السردية ، ولابدّ لهذه اللعبة الذهنية المحبّبة أن توظّف كماً هائلاً من الأفكار التي يلجأ إليها الكاتب من مخزون خبراته الشخصية و/ أو من معين قراءاته أو مشاهداته البصرية أو أية وسيلة أخرى تصلح وسيطاً لضخ المواد الأولية المشكّلة للأفكار التي يبتغي الكاتب الكشف عنها في سياق لعبته الروائية الذهنية ، ويسري هذا “القانون” الروائي على كل الروايات المعروفة حتى تلك التي توصف بالروايات ” الميتافيزيقية ” أو  ” الفلسفية ” ؛ لذا أصبح من الطبيعي أن تكون كتابة رواية رصينة عملاً متطلباً يستلزم جهوداً فائقة تتطلّب شهوراً – بل ربما سنوات –  من البحث والتقصّي والتدقيق في نتف وجزئيات صغيرة ستستخدَمُ لاحقاً في البناء الروائي ، وأحسب أن تلك مهمة شاقة لايقوى عليها إلا من امتلك الشغف القادر على مغالبة أيّ شعور بالضجر وقلة الحيلة وانسداد الآفاق .

تطلّب إعداد المواد الأولية لروايتي الأخيرة ( عُشّاق وفونوغراف وأزمنة ) نحواً من سنتين قرأت فيها يومياً وعلى نحو منتظم ومنضبط كتباً وتقارير وبحوثاً تختص بتأريخ العراق وتفاصيل مجتمعيّة وسياسية واقتصادية وأنثروبولوجية عن المجتمع العراقي وكذلك عن بعض المجتمعات المشكّلة للخارطة السياسية – الاجتماعية – الاقتصادية للشرق الأوسط  ، وقد امتدّ البحث – وكما يحصل في العادة – ليتناول تفاصيل صغيرة لم تكن لتخطر على بالي  في يوم من الأيام ، وأودّ الإشارة هنا إلى واحدة من تلك التفاصيل الجميلة التي مرّت بي أثناء مرحلة إعدادي للرواية : تطلّبت إحدى الشخصيات الرئيسية  الشغوفة بالفيزياء  في روايتي بحثاً علمياً في تفاصيل محدّدة ، وحصل أن قادني ذلك البحث إلى حقل علمي  يدعى ( نظرية الألعاب Theory of Games   ) ، وقد استهواني الدفق الدرامي الذي تنطوي عليه مفردة ( الألعاب ) ووجدتُني أدقق في تأريخ نشوء ذلك الحقل العلمي وتفاصيله وبلغت بي النشوة العقلية حدّاً جعلني أمضي ثلاثة أيام من القراءة المتواصلة في مصادر متعددة عن نظرية الألعاب والأب المؤسّس لها : العالم العبقري الهنغاري المولد جون فون نيومان John von Neumann الذي يعدُّ أحد أيقونات القرن العشرين في العبقرية والنبوغ البشري ؛ إذ يصعب أن يذكر حقل علمي رئيسي إلا وكانت للرجل مساهمات أصيلة فيه : الرياضيات وفيزياء الكم والحاسبات الإلكترونية والتنبؤ بالطقس والتطبيقات العسكرية ،،،، الخ  .  إبتدع ( فون نيومان )  نظرية الألعاب خلال الحرب العالمية الثانية ووضع  أفكاره بصددها  في كتابه الذائع الصيت ( نظرية الألعاب والسلوك الاقتصادي ) الذي نشرته جامعة برينستون الأمريكية عام 1944 ( بالاشتراك مع العالم الاقتصادي أوسكار مورغنشتيرن).

15969962_1510740185621476_1456987964_n

إن كتابة أية رواية رصينة مكتنزة بقيمة معرفية يستشعرها القارئ تقترن عادةً بنمط من الاستقصاء المعرفي الدقيق في جزئيات وتفاصيل صغيرة ربما ماكانت لتطرق ذهن الكاتب لولا شغفه بذلك العمل الروائي .

– الرواية وإعادة تكييف الطبيعة الروبوتية للإنسان : تشكّلت حياة الكائن البشري عبر عصور طويلة من الارتقاء البيولوجي على أساس استخدام ذلك الكائن لحزمة من الخبرات الجاهزة التي ولجت منظومته الإدراكية – المعرفية في سنوات النشأة الأولى ، ومن الواضح أن تلك الخبرات ضرورية لإدامة ضرورات الحياة اليومية من خلال الإستجابة الطوعية اللحظية للمتغيرات التي تجابه الكائن البشري ؛ غير أن الإشكالية تكمن في أن تلك الخبرات قد تؤدي بالفرد إلى الانزلاق في دوامة الرتابة التي تفضي إلى طائفة من المعضلات  السايكولوجية السائدة ( الضجر ، الرتابة ، الملل ، الخواء العقلي ، الفراغ الذاتي ، الشعور باللاجدوى ،،،،، ) التي قد تقود المرء إلى عواقب خطيرة ، وقد  وصف بعض الفلاسفة والمستبصرين وعلماء النفس  تلك الحالة بِـ ( الإنسان – الروبوت ) في إشارة واضحة إلى الطبيعة الروبوتية التي تخيّم على وضع الإنسان المعاصر وتدمغه بسماتها المعروفة ، بل بلغ الأمر حدّ خلع صفة ( المُسَرنمين Sleepwalkers ) على الكائنات البشرية في عالمنا المعاصر .

15995656_1510739785621516_526325719_n

من المثير في هذا الأمر غياب سمات ( الإنسان –  الروبوت ) لدى الإنسان البدائي واقتصارها على بعض الفعاليات البيولوجية الأساسية وذلك بسبب غلبة التحديات البيئية المهددة لحياة الإنسان ووجوده البيولوجي ؛ الأمر الذي يستلزم نمطاً تفاعلياً مستحدثاً للتعامل مع تلك التهديدات ، وهذا هو  مايبتغيه بعض المنظّرين والعلماء من وظيفة سايكولوجية  في الرواية : تخليق نوع من ( العصف العقلي Brainstorming ) لدى القارئ يكفي لإخراجه من الحالة الروبوتية الرتيبة وبما يعمل على جعل ذهنه قادراً على تحسّس عوالم غير معهودة لديه على النحو الذي تعمل فيه أحلام اليقظة الممتدة في بعث نوع من الاسترخاء اللذيذ والنشوة العقلية المصاحبة للكشوفات الذهنية المستحدثة ، وقد  عبّر الروائي الكبير ( أرنستو ساباتو ) أفضل تعبير عن هذه الحالة عندما كتب في كتابه ( الكاتب وكوابيسه ) العبارة التالية : ” لا أحد ينام في العربة التي تنقله من الزنزانة إلى المقصلة ، لكننا ننام جميعا من الولادة حتى الموت أو لعلنا لم نستيقظ حقاً ، وإحدى مهام الأدب العظيم هي إيقاظ الإنسان السائر نحو المقصلة ”  .

– الرواية ومغالطة ” نظرية سلطة القارئ ” : تعدّ نظرية ( سلطة القارئ ) نتاجاً طبيعياً لاستبدال المرجعيات الثقافية المهيمنة التي يعمل في إطارها الفن الروائي ، يُضاف إلى ذلك أن مرجعية القارئ الذي تشكّل سلطته مقياساً متفرّداً لتشخيص نوعية العمل الروائي تعدّ استجابة للتأريخ الطبيعي لكل قارئ وهو ما يمثل شبه بصمة وراثية مميزة لكل فرد ؛ الأمر الذي يجعلنا نتوقع استجابات  فردية مختلفة للعمل الروائي ، ويرتكب البعض مغالطة مقصودة  في مسعاهم  لتوظيف ( السلطة الطبيعية ) للقارئ في ألعاب السوق بقصد تحطيم أية خلفيات ذهنية أو جمالية ينطوي عليها العمل الروائي  وتفريغه من محتوى الخبرات التي يبتغي تمريرها للقارئ ؛  فيدفعه  دفعاً للاقتناع  بأعمال تلقى قبولاً جماهيرياً مضخماً لأسباب مختلفة لاعلاقة لها بجودة العمل  ، وحينئذ يغدو سوق الكتاب  شبيهاً بالبورصة الهشة  التي تتأثر الى أقصى الحدود بعوامل الدعاية السايكولوجية الموجّهة .

15970085_1510739685621526_1816368440_n

 

الرواية وهَوَس المستحدثات السردية :  هناك رغبة – لاواعية معظم الأحيان – لدى  بعض الروائيين في توظيف الأشكال السردية المستحدثة في متن أعمالهم الروائية ، وتظهر هذه الرغبة غالباً في هيئة اندفاع  قسري لاستخدام تلك الأنماط  السردية تحت لافتات الجدّة والحداثة  ؛ غير أن المعيار الحاسم لتقييم الرواية لدى الروائي والقارئ في كل زمان ومكان يتمثل بأن العمل الروائي  ليس لعبة شكلانية أو إيهامية  بل هو جهد مدروس اعتمد أدواتٍ وأساليب  جعلت منه عملاً   جديراً  بجهد كتابته وقراءته ؛ فلا ينبغي أن ينساق القراء عديمو الخبرة  مسحورين  وراء موجة الإطراءات والتعظيم التي تعج بها مواقع مراجعات الكتب العالمية  وعروضها ؛ إذ ليس هناك ماهو أفضل من ذائقة القارئ المتماسك الذي يعرف مايريد من الكتاب و يتوفر في الوقت ذاته  على قدر مقبول من الخلفية الثقافية التي تغذيها متحسّساته الشخصية  وتطلعاته واهتماماته وأخلاقياته و خبرته الواقعية  ورؤاه الميتافيزيقية .

أود الإشارة في هذا السياق إلى بعض الموجات الروائية الموصوفة بما بعد الحداثية ( وربما مابعد بعد الحداثية !! ) – تلك الموجات التي تسعى لجعل السرد الروائي قائماً على نصّ  مستل  من قاع المجتمعات البشرية ولغتها الفجة وتعابيرها السوقية مسنوداً برؤية ديسكتوبية حالكة القتامة ، وتوظُف هذه النصوص في العادة لغة خشنة تجري على ألسنة الشخصيات المهمومة حسب بمتطلبات الحياة البيولوجية والغرائزية في أدنى أشكالها ، وغالباً مايعمد الكاتب   إلى استخدام لغة مستهزئة – أو غير عابئة في أحسن الأحوال – بالتراكمات الثقافية والفلسفية واعتبارها انشغالات متعالية على الهمّ  الفردي اليومي ومُفارقةٍ له بالضرورة ، ويتمظهر هذا المسعى في توظيف مفردات  القبح  والبذاءة وكل  مايشيع في قاع المجتمع ودهاليزه المعتمة.

يبدو لي- عبر متابعتي  للإصدارات الروائية العالمية الجديدة – أن الكثير من المستحدثات السردية مابعد الحداثية التي طالت الرواية  بدأت تتراجع وتخلي الساحة للتقنيات التي طبعت عصر الحداثة الروائية  ، وتبنت ميلاً واضحاً نحو الموضوعات الوجودية الكبرى ؛ إنما في إطار رؤية فردانية وليس في سياق كليّ شمولي مثلما فعلت السرديات الكبرى لعصر الكلاسيكيات الروائية ، وليس غريباً أن يتزامن هذا الأمر مع خفوت النظريات السردية الكبرى التي شاعت في أعقاب الحرب العالمية الثانية والتي صبّت جلّ اهتمامها على البنى اللغوية ، ويخيل إليّ أن هذا الأمر سيتعزّز في السنوات القادمة بوتيرة أسرع بكثير ممّا نلمسه الآن ، وقد نشهد مع تطور تطبيقات الذكاء الاصطناعي عودةً – أشبه بالتوق المضني – إلى توظيف الكلاسيكيات الأدبية مع مراعاة أن لا تبدو الشخوص الروائية   كآلهة متعالية على البشر بل متماهية مع الكائنات البشرية التي ستغرق في ثقب رقمي أسود هائل لايمكننا اليوم التنبؤ بمدياته.

_______

*المدى

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *