سفيتلانا ألكسيفييتش: الحبّ كحدث شخصي وحيد في الحرب

*هيثم حسين 

“عليَّ أن أؤلِّف كتاباً عن الحرب، بحيث يشعر القارئ بالغثيان منها، وكي تغدو فكرة الحرب ذاتها كريهة مجنونة. كي يشعر الجنرالات أنفسهم بالغثيان..”. هذه المقولة تشكّل بوصلة للبيلاروسيّة سفيتلانا أليكسييفيتش؛ الحائزة جائزة نوبل للآداب 2015، في كتابها “ليس للحرب وجه أنثويّ”(*) الذي تؤرّخ فيه لعنة الحرب التي تظلّ جائمة على الأرواح. تنقل أصوات التشبّث بالحياة في واقع الموت وتدمير الإنسان.

تستعيد سفيتلانا مشاركة النساء في الحروب تاريخياً، وتلفت إلى أنها عاشت طويلاً في عالم القراءة والكتاب، أمَّا الواقع فكان يخيفها ويغريها. ولعدم معرفتها بالحياة نشأت الجرأة والشجاعة. وتؤكّد أنّها كانت تبحث عن الجنس الأدبي الذي يمكنه أن يناسب رؤيتها للعالم، رؤيتها لحاسَّة بصرها وحاسَّة سمعها، وأنه وقع بين يديها، ذات يوم، كتاب للروسيّ آداموفيتش الذي صدمها والذي كان له شكل غير مألوف؛ كان رواية جُمعت من أصوات الحياة ذاتها. تعبّر عن سعادتها حين عثورها على ما كانت تبحث عنه. نقول: “وأصبح آداموفيتش معلِّمي”.

عالم مخفيّ

تشير صاحبة “فتيان الزنك” إلى أنّ القصص والأحاديث النسائية مغايرة تماماً، وأنّ لحرب “النساء” ألوانها الخاصَّة، وروائحها الخاصَّة، وأضواءها الخاصَّة ومساحات مشاعرها المميَّزة، وكلماتها الخاصَّة. إنها تخلو من الأبطال والمآثر القتالية التي لا تُصدَّق. وفيها لا يشعر الناس وحدهم بالألم والمعاناة، بل وكذلك الأرض، والطيور والأشجار. كما تنوّه إلى بقاء حرب النساء مجهولة، وأنه ثمَّة عالم كامل مخفيٌّ عنا. وأنها تريد كتابة تاريخ تلك الحرب.

تجمع حكايات وأصوات مَن شاركن في الحرب أو كنّ ضحاياها وعانين ويلاتها بطريقة أو أخرى، تقول إنّها وجدت نفسها بين نصوص مكوَّمة من حولها جمعتها من كلّ مكان، وإنّها تصغي إلى تلك النصوص، وتتحوّل بصورة متزايدة إلى أُذُن ضخمة، متوجِّهة دوماً إلى إنسان آخر. تقول: “أقرأ” صوته.

تؤكّد سفيتلانا أنّ عملها لا يقتصر على الكتابة. إنّها تجمع وتتتبَّع روح الإنسان حيث المعاناة تحوِّل الإنسان الصغير إلى إنسان كبير. وتستدرك متسائلة عن مكمن نزاعها مع السلطة، لتعبّر عن إدراكها أنّ الفكرة الكبيرة في حاجة إلى إنسان صغير، ولا تحتاج أبداً إلى إنسان كبير. وتقول إنّها تبحث عن الإنسان الصغير الكبير: الإنسان المُهان، المسحوق، المذلول – الذي اجتاز معسكرات ستالين والخيانة، وانتصر رغماً عن هذا كلِّه. حقَّق المعجزة. لكن تاريخ الحرب استُبدل بتاريخ النصر.

تنقل تحذير مَن حولها لها، وبخاصّة زملائها من الكتَّاب-الرجال، بأنّ النساء ستبتكر وتخترع الكثير. لكنها اقتنعت أنه مهما كان موضوع حديث النساء، تحضر دوماً عندهنَّ فكرة أنّ الحرب هي جريمة قتل بادئ ذي بدء، وبعد ذلك العمل القاسي، ومن ثمَّ حياتهنَّ العادية: الغناء، العشق، ولفُّ بكرات الشعر.. وفي مركز اهتمامهنَّ، تقول: “إن أبعد ما يردنه ويكرهنه هو الموت، وأبعد من هذا عنهن هو القتل، لأن المرأة تعطي الحياة، تهديها، تحملها طويلاً في بطنها، ثمَّ ترعاها. وأدركت أن القتل أشد صعوبة عند المرأة منه عند الرجل”. تشير إلى أنها تصغي بانتباه إلى الألم؛ الألم كدليل على الحياة الماضية، وأنها لا تثق بأدلّة أخرى، وأنها تتأمَّل الألم باعتباره الشكل الأسمى للمعلومة المرتبطة مباشرة بسرِّ الحياة.

سيطرة العجز

تكتب صاحبة “صلاة تشرنوبل” أنّ الإنسان أكبر من الحرب، وأنّ عليها أنّ تطرح سؤال دوستويفسكي: كم في الإنسان من الإنسان، وكيف يمكن لهذا الإنسان أن يدافع عن إنسانيته؟ تستغرق في عالم حرب لا نهاية له، تبدأ بفهم عزلة الإنسان العائد من الحرب، تصفه كما لو أنه من كوكب آخر، أو من العالم الآخر. تقول: “لديه معرفة لا وجود لها لدى الآخرين، ولا يمكن تحصيلها إلا هناك؛ على مقربة من الموت. عندما يحاول التعبير عن شيء ما بالكلمات، يظهر لديه إحساس بالكارثة. إنه يريد أن يروي، والآخرون يريدون أن يفهموا، لكن العجز يسيطر على الجميع”.

تؤكّد أنّ ما يهمّها ليس الأبطال والقادة، بل الشباب البسطاء العاديين، وأنّ توثيق التاريخ يكون من خلال حديث لم يلحظه شاهد ولا مشارك، وأنّها تريد أن تجعل منه مادَّة أدبية. وتذكر أنّ أنظارها معلَّقة على الإنسان وحده دوماً، وأنها لا تكتب عن الحرب، بل عن الإنسان في الحرب. لا تكتب تاريخ الحرب، بل تاريخ العواطف والمشاعر. وتصف نفسها بأنّها مؤرِّخة النفس والروح. من ناحية، تدرس إنساناً محدَّداً، عاش في وقت محدَّد، وشارك في أحداث محدَّدة. ومن ناحية ثانية، لا بدَّ لها من أن تتبيَّن فيه الإنسان الخالد. تتأمَّل ما تصفه بنبض الأبدية. وتقول كذلك إنّها تبني معابدَ من المشاعر، من الرغبات الدنيا وحالات اليأس، من الأحلام، ممَّا حدث، وما قد ينزلق.

تكتب أنّها تحاول أن تفهم، كيف كان من الممكن البقاء على قيد الحياة أمام تجربة الموت التي لا تنتهي. وتذكر أنّ هناك أناساً كثيرين وأعمالاً كثيرة في الحرب، وأنّ ثمَّة الكثير من العمل ليس حول الموت فحسب، بل وحول الحياة. وأن أكثر من نصف الحياة في الحرب يتشكَّل من الحياة المبتذلة، ومن التوافه أيضاً.

تذكر أنّ عالم الحرب ينكشف لها بصورة متزايدة، من الجانب غير المتوقَّع، وتعبّر عن خطئها في تفكيرها المعتاد أنّه لا مكان لحياة الأنثى في الحرب. وأنّها مستحيلة ومحظورة، إذ سرعان ما اكتشفت أن النساء، ومهما كان موضوع حديثهن، حتى عن الموت نفسه، كُنَّ دوماً يتذكَّرن الجمال.” لقد كان الجمال بالنسبة إليهنَّ جزءاً لا يتجزأ من وجودهنّ”.

تقول إنّها كانت تعود إلى بيتها أحياناً بعد لقاءاتها بطلاتها بفكرة أنّ المعاناة هي الوحدة، وهي العزلة الصمَّاء. ويتبدّى لها أنّ المعاناة هي نوعٌ خاصٌّ من المعرفة. وأنّه ثمَّة شيء في الحياة الإنسانية من غير الممكن نقله والاحتفاظ به، وأنّه هكذا رُتِّب العالم، وهكذا تشكَّل البشر. وتؤكّد أنّ الحبّ هو الحدث الشخصيُّ الوحيد للإنسان في الحرب، وكلُّ ما عداه، أحداث مشتركة، حتى الموت.

(*) صدر عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، ترجمة نزار عيون السود 2016.

_____
*المدن

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *