رسالة قصيرة عبر الميسنجر

خاص- ثقافات

*مريم لحلو 

وصلتني رسالة قصيرة عبر الميسنجر يحذرني فيها مرسلها من أنه في ظرف أسبوع كل الكتب سوف تختفي حروفها وستتحول إلى أوراق بيضاء. لم أولِ الرسالة أية أهمية تذكر.  أولا، لأنها من مجهول. وثانيا ،لأن الميسنجر والفايسبوك وغيرهما من وسائل الاتصال والتواصل أصبحت تعج بمثل هذه الرسائل وغيرها ولو أردنا قراءتها كلها لما كفانا هذا العمر القصير الذي وُهبنا.
بعد عدة أيام، اشتقت إلى مناطق الخضرة في أيامي والحق أنني لا أجدها في هذا الآيباد رغم  الألفة الذي نشأت بيني وبينه.  وفار داخلي الشوق لرائحة الورق المتراص في مكتبتي.نظرت مباشرة حيث يقف كتاب الأغاني على أرجله الذهبية الكثيرة ،فأتاني صوت القيان والمغنين ورقرقة القوافي ورنين دنانير الخلفاء فأخذت الجزء الثالث والعشرين لإعجابي بعنان ومساجلاتها لفحول الشعراء وانتصافها منهم، وفتحته على الصفحة المعلمة دائما بريشة طاووس. ولكن ،تحت عجبي وجدتها فارغة تماما ولاأثر بها لحرف واحد فركت عيوني وقلت لنفسي هذه عاقبة مداومة النظر للهاتف والآيباد .. قلبت صفحات المجلد الكبير فوجدته كصحراء تيه لا زرع ولاضرع.  تركته جانبا وشرعت في تقليب الأجزاء الأخرى ولكن، دون جدوى وجدتها كلها فارغة كآبار مهجورة لا يفيض ماءها. فتحت الموشح والكامل والأمالي وكل الكتب التي صرفت في اقتنائها ثروة فلم أجد  إلا البياض والفراغ يتقارعان. جلست بينها كعاشق للذهب سرق اللصوص كنوزه.هل سيصدق أحد أن لصا ما قد اقتحم بيتي وسرق كل الكلمات التي كدستها طول هذه السنين بحب ،ودأب ،وإصرار.عندما عاد زوجي من عمله تفاجأ بحالتي وعندما علم الخبر تبسم ظانا أنها مزحة من مزحاتي المعتادة …ولكنه هو الآخر عندما ألقى نظرة على جناحه الخاص في المكتبة لم يجد أثرا لا لحسين مروة ولا للجابري ولا لجلال العظم ولا لقصائد نزار … فقط الأغلفة ظلت محافظة على ذهبها المموه..
لمعت في ذهني فكرة أردت تنفيذها على الفور.انتبه زوجي لتأهبي فقلت: أذهب لأسأل الجيران.ضحك عاليا: وهل هو انقطاع في الماء أو الكهرباء؟ وتتابع ضحكه كطلقات نارية: ثم إن سألت أهل الحي العريض الأنيق بمنازله الفخمة لن تجدي عندهم ولو كتابا واحدا…
عندما أسقط في أيدينا فكرنا في الاتصال بالشرطة. قلت:هي سرقة ..أليست سرقة موصوفة؟ ألا تسمونها هكذا في كتب القانون ؟ رد زوجي: الشرطة عندنا لا تأتي إلا إذا سالت الدماء،فهل تعتقدين أنهم سيتركون الحرص على أمن البلد من أجل كتب السيدة والسيد “س” ؟ قلت: كل هذه الدماء لا تراها ؟ رد ببطء وبرود: ولكنها دماء بيضاء بيضاء.. قلت :على الأقل يأتون لرفع البصمات .. لنجرب ..ماذا سنخسر.
في ولاية الأمن فوجئنا بحالة هلع كبيرة ربما بسبب جريمة كبرى ،أو زيارة مباغتة لمسؤول كبير.  ففكرنا في العدول عن التبليغ والعودة بالخيبة. عندها وجد زوجي أحد أصدقائه من الشرطة العلمية وقبل أن يفاتحه في موضوعنا بادر الصديق: عجيب والله عجيب .. هذا الصباح موظف الأرشيف أنبأنا أنه لم يجد حرفا واحدا مقيدا في كنانيشه الكثيرة ولا أحد يعرف من أطلق سراح تلك الحروف.الأمر استدعى إيقاظ والي الأمن  ليطلع على الأمر بنفسه. تخيل لا شيء.. ولا حرف … أصحاب السوابق أصبحوا دون سوابق ولا معنى لإبقائهم في السجون لا أدلة ثابتة عليهم… المعلومات الشخصية والاستخباراتية كلها تبخرت .. لا تجد حرفا واحدا صغيرا في كل هذا المبنى الشاهق. ..حقا مصيبة… لقد أصبحت مدينتنا بذاكرة بيضاء بيضاء تماما أوقل فقدت ذاكرتها.. ثم أضاف: الوالي يتصل الآن بوزارة الداخلية ليرى هل الأمر مقتصر على مدينتنا أم أن الجائحة اكتسحت كل المدن…

_______
*أديبة من المغرب

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *