في الحاجة إلى فلسفة للسعادة

*حسن أوزال

لا مِراء أنّ السعادة؛ هي الموضوع الذي حظي بأهمية كبرى، من بين كل المواضيع التي تطرق إليها التفكير الفلسفي، وذلك منذ بزوغ كلمة “فيلوسوفيا” عند الإغريق، لكنّ هذا الاهتمام الكبير وهذه الحظوة البارزة سرعان ما عرفا، للأسف، نوعًا من الخفوت المذهل، كما لو لم تَعُد السعادة مشكلة فلسفية أبدًا، سيما عند ثلّة من الفلاسفة المعاصرين، الذين لقوا شهرة لا تضاهى خلال النصف الثاني من القرن العشرين، فإلى ماذا يا ترى، يُعزى هذا المدّ والجزر الغريبين؟ ألم تعد دعوة أرسطو إلى التفلسف، أو مساعي سبينوزا الرامية لحب الحكمة والمعرفة، تليق بالإنسان المعاصر؟ أم أن الفلسفة المعاصرة، قد تخلّت عن وظيفتها القديمة، فلم تعد تستطيع أن توفر الفرح ولا السعادة؟ لكن، إذا كانت الفلسفة عاجزة عن أن تجعلنا سعداء، أو على الأقل أن تخفف من بؤسنا، فما الجدوى منها أصلًا؟ أليس الأحرى بنا أمام هذا الفراغ أن نكف عن التفلسف، وأن نمني النفس بتناول أقراص السعادة الطبية، أو شرب الكحول وتعاطي الأفيون؛ لأنّها أفيد وأنجع؟ أجل، بوسعنا فعل ذلك كلّ ما اشتد علينا الأمر، لكنّه ليس بالحل الناجع إطلاقًا، مادامت السعادة التي نتحصل عليها بعد تعاطينا لهذه الأشياء، ليست إلا سعادة عابرة، ولا تمتُّ لسعادة الحكيم الخالدة بصلة؛ لذلك، يلزمنا التفلسف، سواء على نحو أبيقور أو سقراط، سبينوزا أو ديكارت، على اعتبار أن هؤلاء، وغيرهم كثر، جعلوا السعادة غاية للفلسفة، فانسلخوا عن العامة من أجل الاشتغال لحسابهم الخاص، وحملوا الحياة إلى حالة القوة المطلقة، لكن بالرغم من ذلك، هل يمكن للفيلسوف أن يعطينا صيغة مُحَدَّدة لبلوغ السعادة؟ أو لنقل بطريقة أشمل، هل بوسعنا أن نُعَوِّل عليه نشدنا لحياة أفضل؟ أبدًا، وذلك على الأقل لسببين اثنين؛ الأوّل: ذاتي، ويتوقف أساسًا على كون السعادة مسألة اختيار فردي، وتتطلب القيام بمجهود جبار وضروري لبناء حياة أفضل. أمّا الثاني: فيتّصل بالفلسفة عينها باعتبارها نشاطا يهمّ الحياة بأكملها، لا مجرد تمرين بلاغي؛ ذلك أن الفلسفة ليست دروسًا تُلَقَّن، ولا تعاليم تُحْفَظ، أكثر من أنها عملية نَحْت شاقّة للذات، تتطلب خوض غمار تجارب وجودية مريرة، يُحقِّق المرء في عزّها طفرة بَعْد مروره بما قد نسميه تجربة الأزمة، وإذا كانت هذه الأخيرة، هي أفضل وسيلة، لبلوغ جزيرة السعادة؛ فذلك ما يبرر، مرة أخرى، تصورنا القائل أن: مهمة الفيلسوف لا تتجلى في تقديمه لتقنيات في العيش أو استراتيجيات للحياة تصلح للجميع، مادام أنّ هذا الأخير عندما يكتب فهو يكتب أوّلًا لنفسه، دونما اكتراثه بالغير؛ ذلك أن فكر فيلسوف ما، هو قبل أي شيء آخر نتاج توافقاتِ جسده مَعَهُ هوّ كذات؛ لأنّ الأفكار تصدُر عن عمليات أكثر تعقيدًا، تَتِمُّ في خضم عراك فيزيولوجي غير يسير الفهم، جراء التداخل الكامن بين الفيزيولوجي والسيكولوجي. هذا ما لقَّننا إياه بالضبط نتشه، الذي يعتبر أول من أدخل إلى الفلسفة مسألتي (السيكولوجيا واللاشعور) وهذا ما صرّح به في كتابه “هذا هو الإنسان” قائلًا: “قبل مجيئي لم يكن هناك من وجود لعلم النفس”[1] جرّاء ذلك؛ لا يفتأ نتشه فيما يخص قضية جينيالوجيا الأفكار، يرفض كل تلك التصورات التي تدّعي أنّ الفكر ينولد على نحو عفوي، سواء عبر التفاعل ما بين الجواهر المُفَكِّرَة، أو في سياق تأجُّجِ الأرواح وتوهُّج الأذهان، وبذلك يُنحِّي جانبًا مجمل تصورات البنيويين الذين لا يقولون بعبثية الاهتمام بالسيرة الذاتية للمؤلف، وإكراهاته المعيشة فحسب؛ بل يزعمون أيضًا، وهو الأفظع، أنّ كلّ نصّ في غنى تام عن سياقه، وهو ما يفيد بشكل من الأشكال، أن النص مُقدَّس، ويكفي تأويله لفهم فيلسوف ما، إنهم بتعبير آخر؛ يمضون حدّ التوكيد على أن العقل بتجريداته يكاد يُغْنِينا كُلّيًّا عن التنقيب في ماديّة كل نص. لكننا نلاحظ، خلافًا لهم؛ كيف أفلح نتشه في قلب المعادلة رأسًا على عقب، موضحًا أن النص ثانوي إن لم نقل هامشي؛ لأنّه يشتغل كأثر، ويعمل كدلالة على شيء أكبر منه، أمّا هذا الشيء الأكبر فليس بطبيعة الحال إلّا الحياة؛ وهي الحياة التي صِيغت بضمير المتكلم في قالب حكائي لا يكفّ يروي لنا تفاصيل معاشة، اختبرها الفيلسوف وجوديًّا سواء في حالات الفرح أو الحزن، الصحة أو المرض، القوة أو الوهن؛ ذلك أن الفيلسوف لا ينطق عن هوى، ولا يبادر إلى الكلام بعد أن يتلقّى الوحي مثل الأنبياء، وهو لا يكتب انطلاقًا مما ينزل عليه من أفكار سماوية؛ بل انطلاقًا مما عاشه واختبره وجوديًّا، على هذا النحو يتجلّى أن الأصل الجنيالوجي للفكر، على حدِّ توضيح نتشه، إنّما هو (التجربة) لكن هذه التجربة أكبر مما يتصور، ومادامت تجربة جسد مشمولة بدينامية مشتركة يتقاطع فيها ما يدعوه نتشه (الميكانيزمات الغريزية) instinctives activités، و(الإكراهات الفيزيولوجية) les exigences physiologiques؛ حيث إنّ “الجزء الأكبر من الفكر الواعي الخاص بفيلسوف ما، يكون مُوَجَّهًا على نحو سرّي، ومقذوفًا به في قنوات مُحَدَّدَة من لدن غرائزه”[2]. وفق هذا المنطق الغرائزي إذن؛ يتبدّى أنّ الأفكار لا تأتي عندما يرغب فيها الفيلسوف، بل عندما تَرْغبُ هي فيه، هكذا فحيثما يؤكد ديكارت بأنّ “الأنا” تفكّر، يُصَحِّحُه نتشه مُلِحًّا أن “شيئًا ما فينا يفكر” مُطِيحًا بشكل غير مسبوق بمَلَكِيَّة الأنا المُتَسيّد والمُستَقِلّ عن باقي الوجود؛ ممّا يُجبر الوعي، الذي ما فتئ يدّعي أنّه مَنْ يريد على نحو حرٍ، على أنْ يأخذ بالحسبان ما يسمى باللاشعور، ومنذ ذلك الوقت إذن، وعلم النفس (النتشاوي) يتقدم، كما لو كان “مورفولوجيا ونظرية عامة في تطور إرادة القوة”[3] التي بدونها يستحيل للكائن البشري أن يكون، أو بالأحرى أن يحقق سعادته.

عطفًا على ما سلف، نمضي إلى التوكيد على أن الفكر إن كان نتاج مخاض سيكولوجي وفيزيولوجي؛ فالسعادة التي يسعى إليها كل إنسان، من حيث هو كذلك، ليست مجرد وصفات تُسْتَوْعب، ولا تقنيات تُلَقَّن، أكثر من أنها ما يقوم على مقدرة المرء الراغب، والحرّ، والمُشبَع، على الاستمرار في الوجود. معنى هذا الكلام؛ أن السعادة لابدّ أن تكون، في جزء منها، من نظام الوجود، في انتظار ما يُتمِمها من لتكون في جزئها الثاني مِن نظام الفكر. أمّا فيما يخص انتماءها للوجود؛ فذلك ما يرجع إلى كون الوجود المعني هنا، وجود يتم استحضاره بالتفكير فيه من زاوية الامتلاء لا النقصان، عبر الانتقال من منطق الحاجة إلى منطق الرغبة المكتفية بذاتها، أما فيما يتصل بارتباطها بالفكر؛ فذلك ما يرجع إلى كون المنظورية، التي لا محيد عنها كبوصلة لكل كائن جدير بالسعادة في الوجود؛ هي ما يجعل الرغبة على وعي تام بإشباعها عبر الانتقال من حرية أدنى إلى حرية أعلى، ومن أجل المزيد من التوضيح، بوسعنا القول بأن السعادة، تتوقف على ثلاثة أمور ذات أهمية قصوى هي؛ التجربة، الاختيار، والمجهود. ولا بأس هنا من الإشارة، إلى أن الإنسان لا يشرع في تغيير مجرى حياته على نحو جدِّي، ولا تحدوه الرغبة في حياة أفضل، إلا عندما يمر بتجربة حياة عسيرة، قد نسميها تجربة الأزمة كما أسلفنا؛ على اعتبار أن الأزمة ليست شيئًا آخر، غير تلك اللحظة التي نحس فيها أن كل آمالنا ومتمنياتنا قد تبخَّرتْ، مما يجعلنا نستشعر الحزن، ونتشرَّب الألم في أكبر درجاته. حينئذ فقط؛ نكون أكثر اضطرارًا للحسم والاختيار، ما بين أمرين اثنين لا ثالث لهما؛ فإمّا أن نستسلم لليأس، وندع أنفسنا فريسة أفكار بئيسة وهلوسات انهزامية قوامها الخلاص والماورائيات، وإمّا أن نعمل بكلِّ نشاط على تحقيق الأفضل، فنتخلص من المأزق وننهي آلامنا وعذاباتنا.

1- الأزمة باعتبارها رحم التحول الفلسفي:

إنّنا لم نمض إلى حدِّ اعتبار السعادة من نظام الوجود؛ إلا لأن الإنسان الباحث عن السعادة لا يستطيع أن يبلغ مرماه، دونما المرور بتجربة الأزمة التي هي تجربة وجودية بامتياز، مفاد ذلك؛ أن الأزمة كتجربة؛ هي لحظة وجودية، يختبر فيها الإنسان معنى اللامحتمل، فيضطر إلى وضع حدّ لهذا الأخير (لحالة اللااحتمال)؛ لأنه وصل إلى أفق غير قابل للتجاوز، أفق مسدود. يسمّي ميشال أنفراي هذه اللحظة بـ l’Hapax existentiel”” مؤكدًا على أن؛ كل إنسان باستطاعته أن يمر في حياته بلحظات عصيبة، قد تقلب مساره كليًّا. ويكفينا هنا؛ أن نتذكر ما جرى لـ “مونتاني” الذي كاد أن يفقد حياته جراء حادثة اصطدام فرسه مع فرس أحد خدامه، ليعزم إثر ذلك، ويقرر اعتزال السياسة، والانعكاف كُليًّا على التفكير وكتابة المحاولات، التي اعتُبرت من قِبَل كل المختصين، محطة هامة في الفكر الغربي لا يمكن التغاضي عنها أبدًا.

إن الأزمة إذن، ليست شيئًا آخر غير، موطن ميلاد رغبة جديدة؛ هي الرغبة في الأفضل، لكنها رغبة تتطلب من المرء المتأزم بدل مجهودات، والتحلي برؤية واضحة لوضعه البئيس، حتى يتمكن من الخروج من الأزمة والانفلات من المأزق؛ ذلك أننا والحالة هاته، كائنات مشمولة بالضرورة؛ أي أننا كائنات غير حرة منذ البدء، ويلزمنا من أجل التحرر من هذه الضرورة، اكتساب نوع من الوعي، وهو الوعي الذي لن يتأتى إلا بعد تَسلُّحنا بما يكفي من المعرفة؛ لأن المعرفة تُحرِّر، كما أكد سبينوزا، وتُفْرِح كما أضاف نتشه. على هذا الأساس يتّضح؛ أن عملية الانتقال من الحالة الأولى، التي هي حالة التبعية، حيث كنا مرهونين وخاضعين. إلى الحالة الثانية، التي هي حالة الاستقلال والفرح، عملية تستدعي منا الاشتغال على الذات، وبذل مجهود؛ فهي إذن، ليست عملية مجانية في شيء، مادام أنها تشترط حصول المرء على ما يكفي من الجرأة والحرية والوعي، إنْ رغبَ حقًّا في مستقبل أحسن، وراوده فعلًا طموح جدِّي في حياة أفضل.

2- عملية الانتقال من حالة الضرورة إلى حالة الاستقلال:

يتوقف فهم هذه العملية على تحديد من نكون؛ ذلك أن هذه العملية هي أيضًا، وبشكل من الأشكال، عملية بناء ذاتي، لكن هذا البناء الذاتي يستحيل دونما معرفة الذات لذاتها. أمام هذه الإشكالية من اللازم علينا استعادة نتشه، الذي ما فتئ يلح على أننا جزء من إرادة القوة، أما إرادة القوة فهي، على حدّ قوله؛ قوة بلا بداية ولا نهاية، بلا نمو ولا تقلص، بلا فتور ولا تغيرات من حيث الحجم، بلا إنفاق ولا خسران، بلا زيادة ولا نقصان؛ إنها مجموعة من التيارات والحركات الدائمة، أو لنقل أنها؛ ديناميكا بلا توقف، إرادة القوة إذن؛ هي جوهر الكائن الذي يسعى دومًا إلى أكبر قدر من الحياة، حيثما توجد الحياة؛ فهي ليست في شيء، غريزة بقاء ولا بصراع من أجل الوجود، كما زعم داروين؛ بل هي غنى ووفرة حياة، حياة بقدر ما تُنْفَق بقدر ما تزداد ثراء.

وبعد ذلك، ألا تفيد مطابقتنا بين إرادة القوة وإرادة الحياة؛ أننا نُسَلِّمُ ضمنيًّا بوجود قوة بالضرورة تَرْغبُ فينا ككائنات حية؟ أكيد، لكن كيف لنا أن نَرْغَبَ في هذه القوة التي تَرغبُ فينا؟ هذا هو الإشكال والرهان في نفس الوقت، كيف لي أن أَرغبَ في قوة أنا جزء منها؟ كيف لي أنْ أَتَحكَّمَ فيما يَتَحكَّمُ بي؟ كيف لي أن أُخْضِعَ ما أَخضَعُ إليه؟ كيف لي أن أُسيطِر على ما يُسَيطِرُ عليّ؟ كيف لي أن أتحرَّرَ من حتمية تُحَدِّدُ كينونتي؟ يكفينا ربّما لحلّ هذه المعضلة، التفكير في مسألة الجاذبية؛ ذلك أن الإنسان قبل فلسفة الطبيعة العائدة لنيوتن (1642-1727) لم يكن يعرف ما تكون هذه الأخيرة، سواء كقوة أو كجبروت يشدّ كل الكائنات، ويجعلها لا تبارح سطح الكرة الأرضية، لكن الطفرة التي أحدثها نيوتن، وعبَّر عنها رياضيًّا، عبَّدت الطريق أمام الإنسان؛ فمكَّنتْه من ابتكار وسائل تنقُّل غير معهودة، سمحت له لا بمعاكسة منطق الجاذبية والتغلب عليه فحسب؛ بل الانتقال من زمن “فيرجيل” ذي الإيقاعات الطبيعية، إلى الزمن الصناعي، سيما مع اكتشاف المحرك وولوج عصر السرعة الفائقة، لعل الإنسان إذن، لم يكن بإمكانه أن يفلح في ابتكار حرية ثانية، لولا قبوله بما يكون وحبّه لقدَرِه الأول على حدّ استعارة نتشه، فلكي نصير ما نحن عليه يلزمنا أوَّلًا؛ أن نُريد الإرادة التي تُريدنا. بعدها بوسعنا أن نبدع حرية ثانية فعالة وعقلانية وسعيدة، تفضي بنا دوما نحو الأفضل. لنقل إذن؛ أن إرادة القوة التي وحدها تجعل من الضرورة فضيلة، هي ما يسعفنا، سواء ككائنات مشروطة بِقَدَرٍ ما، أو مشمولة بضرورة أولى، على إتيان الأحسن والانتقال بالتالي، من كمال أقل إلى كمال أكبر. كيف؟ بوعينا أساسًا بضرورة الانفلات من الورطة الوجودية التي لم نخترها، مادام أنّه بدون هذا الوعي، يصعب علينا أن ننتقل إلى وضعية ثانية؛ هي وضعية الاستقلالية والقدرة على الابتكار؛ ذلك أن هذا الانتقال من مستوى التبعية والضرورة، حيث نحيا حرية سلبية ونرغب على نحو فطري وعفوي إلى مستوى الاستقلالية والتحرر، حيث نحيا حرية فعالة، ونرغب على نحو عقلاني وواع، هو ما يجسد بحسباننا الحرية الحقيقية، ويحقق السعادة القصوى.

إلى هنا لا بأس من الإشارة إلى كون هذه النقلة النوعية التي طرأت في التاريخ البشري؛ هي النقلة ذاتها، التي عرفت أَوْجَهًا فلسفية مع دعوة ديكارت الذائعة الصيت القائلة بأن؛ الوقت قد حان لكي يصبح الإنسان سيد الطبيعة، بعد أن ظلّ خاضعًا لها؛ فبدل تصوّر الرواقيين الذين ما فتئوا يدعون إلى أن على الإنسان أن يخضع للطبيعة، ويتوافق معها، جاء ديكارت بحلّ بديل عثر في العلم على سنده الأول، فصار الإنسان بين عشية وضحاها، سيد الضرورة، يتمتع بحرية أكبر مما كان، وبقدر أوفر من الإمكانات التي تؤهله لحياة أفضل؛ فعِوَض التصوّر الاستسلامي؛ الذي طالما رَوَّج له الرواقيون من خلال عبارتهم الشهيرة: “تَحمَّل واصْبر” يظهر أن التاريخ العلمي والفلسفي، على حدّ سواء، ما فتئ يقدم لنا دروسًا عميقةً، أضحت بموجبها السعادة ممكنة، سيما عندما شرع الإنسان يعي حدود حريته الأولى ويعمل مُكِدّا، ما أمكن، للسمو بها حدّ الحرية الحقّة، التي وحدها تستطيع أن تفضي به إلى الإشباع، والفرح، والخروج من التبعية، لكن، وعلاوة على ما سلف، يستتبع الأمر أيضًا؛ التحلي بمنظور إيتيقي، ينزع منزع إثبات الوجود بدل نفيه، ويكفل للذات من حيث هي ذات راغبة؛ التحول من منطق الحاجة إلى منطق الرغبة.

3- عملية الانتقال من حالة النزوة (منطق الحاجة) إلى حالة الإنسان الراغب:

إذا كانت الرغبة هي جوهر الإنسان، مثلما سبق لسبينوزا أن أكد؛ فذلك ما يفيد أن الرغبة بشكل من الأشكال، هي المادة الخام التي يتحدّد وفقها مصير كل إنسان باعتباره كذلك، لكن الإنسان، كما أسلفنا، تتجاذبه حركتان اثنتان في الوجود؛ الأولى: محكومة بالحتمية، وهي التي نعتناها بالحرية السلبية غير الفعّالة. بينما الثانية: هي الحرية الواعية بذاتها، والقادرة على إتيان الأفضل، ونشدان الأمثل، مادامت تنطوي على قدرات، وتتمتع بمعرفة مرحة، مُصاحِبة ومُوجِّهة لها في كل خطواتها، تمامًا مثلما لو كانت بوصلة. وانسجامًا مع تصورنا السابق للحرية، يتضح أن الرغبة بدورها صنفان؛ رغبة سلبية، وغير عقلانية، همجية، وفي حالة مهد بوهيمية. ورغبة فعالة وإيجابية، عقلانية وواعية، محكومة بمنظور وموجَّهةٌ بتصور. لعل الرغبة في مستواها الأول، مجرد تعبير عن حالة غريزية، تبتغي الإشباع لما تستشعره من نقص وحرمان، وهي على ما يتضح (رغبة أفلاطونية) مقرونة بالنقص والفقدان؛ لأنها دومًا سعي وراء ما نفتقده، وبحث عما نحن محرومين منه، إنها رغبة تروم باستمرار؛ ردم هوّة وملء فراغ، أشبه ما يكون بالفراغ الذي يُحدِثه فينا الجوع أو العطش؛ لذلك فهي ما أن تشبع حتى تَردَّنا أكثر يأسًا وحزنًا وهكذا دواليك، فلا عجب إذن، إن اعتبرنا أن الأفلاطونية في الحقيقة: “هي هذا السعي الدائم إلى تقزيم كل شهوة (من حيث هي القدرة على الاستمتاع بما نفعله) إلى جوع (أي الحاجة إلى ما لا نملكه) وهو ما يعني؛ أننا لا نرغب في الأكل إلا عندما نجوع، إن لم نقل، إلا عندما نكون محرومين من الطعام، وأننا لا نرغب في ممارسة الحب، إلا عندما نكون محرومين؛ أي عندما نكون وحيدين”[4] ذلك أن هذا النوع من الرغبة التي تكاد تخلو من كل جهد، ووعي، رغبة أبعد ما تكون عن تحقيق السعادة؛ لأن السعادة هي ما يصنعه الوعي برغبة ماضية، أو حاضرة، أو مستقبلية، حالما تتوفر المقدرة والمعرفة والمتعة، ولما كانت هذه الخصال الثلاثة لا تتحقق إلا مع الإنسان الذي ظل الاختلاف بينه والحيوان، بالرغم من ذلك، اختلافًا من حيث الدرجة لا من حيث الطبيعة؛ فذلك أساسًا هو ما جعل الأول ينتظم وفق منطق الشهوة، بينما الثاني لا يستطيع أن يسمو برغباته عن منطق الحاجة. ودعمًا لتصورنا هذا، لا بأس أن نستأنس بتصور في ذات السياق نلفيه عند “سبينوزا” الذي ما فتئ يؤكد على أنه “لا فرق بين الشهوة والرغبة، عدا كون الرغبة هي ما يرتبط بشكل عام بالناس، من حيث هي الكائنات التي تعي شهواتها، ويمكن لهذا السبب تعريفها كالتالي (إن الرغبة هي الشهوة الواعية بذاتها)”[5] لكن هذا الوعي الذي بفضله جرى هذا التحول، حيث تم الانتقال بنا من الحاجة إلى الشهوة؛ وعي لم يكن ممكنًا، إلا بعدما تحرر الإنسان من عبء الجسم الذي لازم الحيوان، فصار يتميز عنه باعتباره جسدًا، أما الفرق بين الاثنين؛ فيعود أول ما يعود، على حد التمييز الدقيق الذي وضعه الصديق عبد الصمد الكباص، إلى كون الجسم هو نظام الحاجة، بينما الجسد هو نظام الرغبة.

“في الجسم نخضع إلى منطق النقص الذي تمليه الحاجة؛ فأنا بحاجة إلى الطعام لأني جائع، هناك نقص يتحرك عند الحاجة، ويخضعني لنوع من حتمية الارتباط بالخارج؛ فأنا أجلب موارد سد النقص الناتج عن الجوع من الخارج، لكن الأمر يختلف عندما أشتهي الطعام اللذيذ، في هذه الحالة؛ فإني أنتج شيئًا جديدًا لا تفرضه عليّ أية حتمية”[6] إلى هذا الحد يتّضح أننا أمام نوعين من الرغبة؛ الرغبة من حيث هي جوع؛ أي باعتبارها نقصًا وألمًا، ضعفًا وعذابًا. والرغبة من حيث هي شهوة؛ أي باعتبارها قدرة وفرحًا، ومتعة، لكن هذه الطبيعة المزدوجة للرغبة، من حيث هي نقص وشهوة، هي ما ييسر لنا فهم آليات بلوغ السعادة؛ بحيث أن السعادة إن كانت مستحيلة التحقق طالما بقينا عند حدود الرغبة الأولى؛ فذلك ما يدعم فرضية كون كل رغبة اختيار، إلّا أنه اختيار قد يكون أعمى، كما في الحالة الأولى، مثلما قد يكون واعيًا، كما هو الشأن عندما تصبح الرغبة شهوة، وكما هو الحال بالنسبة للحرية، نؤكد أن الرغبة الأولى (رغبة ناقصة وغير مكتملة) ولا تكون أبدًا مفرحة؛ مما يتطلب البحث عن رغبة تكون مكتملة بفضل إشباعها.

على هذا الأساس، تمتزج حركة البناء الذاتي للرغبة، وتتعاضد مع حركة البناء الذاتي للحرية، في حركة واحدة هي ما سيفضي بالمرء إلى السعادة، وإذا كان الإنسان يرسي قيمه الأولى عبر هذه الرغبة الأولى والعفوية، لكنها قيم ما تزال ناقصة، طالما لم تتحول هذه الرغبة الأولى إلى رغبة فعالة وعقلانية، تمامًا مثلما تحولت الحرية الأولى البوهيمية والخالية من كل بذرة عقل إلى حرية كاملة وعقلانية؛ فذلك ليس إلّا لأن الرغبة، بنظرنا، هي سند كل سعادة ممكنة؛ ذلك أن السعادة لا تتحقق إلا عندما أشبع رغباتي التي انتقيتها بشكل حرّ، واخترتها على نحو عقلاني، باعتباري ذاتًا راغبة، لا باعتباري ذاتًا خاضعة للرغبات والأهواء.

هكذا يصبح الإنسان كائنًا فاعلًا لا ارتكاسيًّا؛ حيث إنه بفضل التحول الفلسفي والوعي الفكري، يستطيع أن يعطي القيمة للأحداث، ويضفي المعنى على زمانه، إلا أن هذا الزمان الذي سرعان ما سيصير تحت تصرفه، زمانٌ سيتغير بدوره، ليغدو زمانًا خالدًا مكثف اللحظات، بعد أن كان زمانًا خطيًّا؛ فبدل اللحظات التي ما فتئت تمضي وتجيء، خالقة نوعًا من التشاؤم، والإحساس بالتلاشي، والموت الوشيك، يعيش إنسان الرغبة أفراحه ومتعه على نحو مسترسل ودائم، لا لشيء إلا لأنه بفضل المنظورية التي صار يتحلى بها، استطاع أن يُدوِّن تاريخه ضمن مشروع متواصل، منقذًا إيّاه من غدر الزمان، لكنّه أمر ليس بالسهل، خصوصًا إذا علمنا أن خلف هذا التوظيف المتعوي للزمان، يكمن بطبيعة الحال تصور للفلسفة على اعتبارها: “نشاطًا يسمح لنا بأن نلوذ بالسعادة، بفضل سلسلة من الخطابات والتحليلات”[7] التي تمكننا من التفكير على نحو أفضل، وحساب الملذّات بشكل مضبوط؛ حتى ننعم بحياة أجمل، مادام أن الحكمة كانت وما تزال بمثابة البوصلة التي توجهنا لحشد أكبر قدر من السعادة، ونحن في أقصى درجات الوعي.


[1] Friedrich Nietzsche, L’Antéchrist suivi de Ecce Homo, Traduit de L’allemand par Jean-Claude Hémery, éd. Gallimard 1974, pourquoi je suis un destin, §6.

[2] Friedrich Nietzsche, Par-Delà Bien et Mal, Trad. Patrick Wotling, éd. Flammarion, 2000, §3.

[3] Ide m, §23.

انظر كتاب، أفلاطون بعنوان المأدبة، تقديم وترجمة لوك بريسون، طبعة فلاماريون، ص 132

[4] André Comte-Sponville, Le Bonheur, désespérément, éd. Pleins feux, 2000, p: 50.

[5] Spinoza, éthique III, Scolie de la proposition 9, trad. Charles Appuhn, 1965, Flammarion.

[6] عبد الصمد الكباص، الرغبة والمتعة، أفريقيا الشرق، 2014، ص 102

[7] حكمة الحداثيين، أنطولوجيا الحاضر، ترجمة وتقديم حسن أوزال، الطبعة الأولى، 2004، دار وليلي للطباعة والنشر، ص 86

_____
*مؤمنون بلا حدود

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *