أمين معلوف يكتب تاريخ الثقافة الفرنسية

*حسونة المصباحي

في كتابه الجديد “كرسيّ على السين-أربعة قرون من تاريخ فرنسا”، يأخذنا أمين معلوف في جولة تاريخيّة ليرسم لنا صورة عن تاريخ فرنسا الثقافي، من خلال الأكاديمية الفرنسية التي انتخب عضوا فيها عام 2011.

في مقدمة الكتاب يشير معلوف إلى أن مؤلفه هذا هو ثمرة شعور بـ”تبكيت الضمير”. ففي حفل استقباله عضوا في الأكاديميّة الفرنسيّة، كان عليه أن يلقي خطابا يحيّي فيه سلفه الراحل كلود-ليفي شتراوس، عالم الأنثروبولوجيا الشهير وصاحب كتاب “مدارات حزينة”، وقد قامت أرملة شتراوس بدعوة معلوف وزوجته إلى بيتها في منطقة بورغوني الفرنسية لكي يطلع على مخطوطات زوجها الراحل، وليعيش أجواءه الحميمية، تمهيدا لورقته التي سيقدمها عنه.

وأثناء تصفحه لتلك المخطوطات تعرف على العديد من الذين كانوا قد جلسوا على نفس الكرسي الذي جلس عليه كلود-ليفي شتراوس في الأكاديمية الفرنسية على مدى أربعة قرون. وكان جوزيف ميشو الذي كان قد قرأ المجلدات السبعة التي خصصها للحروب الصليبية من ضمن هؤلاء. وسرعان ما أدرك معلوف أن ميشو لم يكن مجرد مؤرخ مُهتمّ بنفض الغبار عن أحداث تاريخية، بل كان أيضا مغامرا جريئا، سجن في سنوات الثورة الفرنسية في نفس البناية التي أصبحت في ما بعد المقرّ الرسمي للأكاديمية الفرنسية.

كما اكتشف أن شتراوس جلس أيضا على نفس الكرسي الذي كان للمفكر والمؤرخ أرنست رينان الذي انعزل في جبال لبنان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ليؤلف كتابه الشهير عن حياة المسيح.

عندئذ قرر أمين معلوف ألاّ يكتب فقط عن سيرة شتراوس، بل عن جميع الذين سبقوه في الجلوس على نفس الكرسي، وهو ما حواه كتابه “كرسيّ على السين-أربعة قرون من تاريخ فرنسا” الصادر في أواخر عام 2016 عن دار”غراسيه” الفرنسيّة.

متعاقبون على الكرسي

أول من تطرق لهم معلوف من هؤلاء كان بيار باردان، الذي غرق في نهر السين في شهر ماي 1635، بعد مرور 14 شهرا على قبوله في النواة الأولى للأكاديمية. ورغم أنه كان يحظى بالشهرة في زمنه، فإنه لم يكن كاتبا مهما. لذا نُسيَ الآن ولم يعد يعرفه غير بعض المختصين. ويعتر كتاب “عن الأسلوب الفلسفي”، من أهمّ الكتب التي ألفها، حيث دعا فيه إلى ضرورة تجنب استعمال مفاهيم صعبة لأن الفلسفة، بحسب رأيه، تهمّ الجميع. لذا لا بد من أن تكون مبسطة حتى تكون فائدتها أوسع وأشمل.

ومن جانب آخر يذكر معلوف من تاريخ الأكاديمية كيف أن الكاردينال ريشليو الذي كان يحظى بمكانة مرموقة لدى ملك فرنسا لويس الثالث عشر، عارض دخول المؤلف المسرحي الشهير كورناي إلى الأكاديمية من دون أن يعلن عن سبب ذلك.

كما يذكر أنه في عام 1670، انتخب فيليب كوينو عضوا في الأكاديمية، وهو ابن خباز، لكنه تمكن من أن يحصل على شهرة واسعة في بلاده، وأن يكون أحد المقربين من الملك “الذهبي” لويس الرابع عشرن حيث كان يكتب الشعر والمسرح. وبسبب شهرته، عاداه الكثيرون من كتاب عصره. وبعد وفاته في 26 نوفمبر 1688، خلفه على كرسيه رجل “نحيف، بأنف كبير، وملامح قاسية”.

ولم يكن هذا الرجل غير فرنسوا دو كاليار الذي لن يحصل على شهرة واسعة خصوصا في الأوساط السياسة والدبلوماسية، إلا بعد الحرب الكونية الثانية، بعد قرنين من رحيله.

ويعود الفضل في ذلك، كما يرى معلوف، إلى كتابه “عن الطريقة في التفاوض مع الملوك” الذي لا يقل قيمة عن كتاب “الأمير” لميكيافيلي. وقد أعجب رجال السياسة بهذا الكتاب، وترجم إلى اللغتين الإنكليزية والألمانية، إلاّ أنه لم يعرف رواجا حقيقيا إلاّ بعد مرور قرنين على صدوره. حدث ذلك في نهايات الحرب الكونية الأولى، وتحديدا في عام 1917.

وكان ضحايا تلك الحرب يعدّون بالملايين. وأمام الكوارث والفواجع، شرع البعض من رجال السياسة في التفكير في الطرق الكفيلة بوضع حدّ للمجازر المتواصلة منذ عام 1914. وقد وجدوا في كتاب فرنسوا دوكوليار ما هداهم إلى ابتكار أساليب تهدف إلى فرض السلام في القارة العجوز. إذ أشار دوكوليار في كتابه إلى أن العلاقات التجارية بين مختلف الدول الأوروبية تجعل هذه الدول مجبرة على أن تتعامل مع بعضها البعض كما لو أنها تنتمي إلى جمهورية واحدة. وبالتالي لا يمكن أن يحدث اضطراب في دولة من هذه الدول دون أن يكون له تأثير على الدولة الجارة، وحتى على الدولة البعيدة.

ويعتقد دوكوليار أن العلاقات بين حكام أوروبا هي التي تؤدي إلى اشتعال الحروب، لذا لا بد من تجنبها، وإبطالها لكي لا تحدث الفرقة بين مختلف الدول الأوروبية. وقد أخذ الدبلوماسيون الأوروبيون بنصائح دوكوليار ليؤسسوا بعد الحرب الكونية الثانية ما أصبح يسمه بـ”مجلس الاتحاد الأوروبي”.

ويقول أمين معلوف إن كتاب دوكوليار بات مرجعا أساسيا ليس فقط بالنسبة إلى طريقة التفاوض، وإنما للأهداف التي يفضي إليها. وكان توماس جيفرسون، الرئيس الثالث للولايات المتحدة الأميركية يعتبر هذا الكتاب من أفضل الكتب التي تحتويها مكتبته الخاصة. كما كان عالم الاقتصاد الشهير جون كينيث غالبرايت يظهر إعجابه أيضا بهذا الكتاب بدوره.

_148294401813

أشهر الخلفاء

يلفت معلوف في كتابه إلى أن كلود برنار كان من أشهر أعضاء الأكاديمية الفرنسية في القرن التاسع عشر. وكان عالما جليلا في الطب. كما أنه كان على اطلاع واسع على الآداب والفنون. عند وفاته في العاشر من شهر فبراير 1878، سار في موكب جنازته أزيد من أربعة الآف شخص بينهم شخصيات أدبية وفكرية وسياسية كبيرة. وفي البيان الذي أصدره عام 1880 لتوضيح رؤيته لما سماه بـ”الرواية التجريبية”، أشار الروائي إيميل زولا إلى أن كتاب “مقدمة لدراسة الطب التجريبي” لكلود برنار هو مرجعه الأساسي في هذا المجال.

وفي شهر مارس جلس على كرسي الأكاديمية الكاتب هنري دو مونتارلان الذي كان من أشهر الكتاب الفرنسيين في القرن العشرين. وكان كثير السفر مثل أندريه جيد، ومثله كان شاذا جنسيّا.

وفي الخطاب الذي ألقاه يوم الاحتفاء به عضوا في الأكاديمية، رفض مونتارلان الحديث عن سلفه من الأدباء مثلما اعتاد أن يفعل الآخرون، مفضلا الحديث عن الأحياء، أولئك الذين يراهم ويسمعهم، ويرونه ويسمعونه. وفي السنوات الأخيرة من حياته، اعتلت صحته، وبات شبحا لما كان عليه من قبل. لذا فضل الانتحار في 21 سبتمبر 1972 مطلقا رصاصة في حنجرته.

وفي نهاية كتابه، يشير أمين معلوف إلى أن كلود-ليفي شتراوس الذي كان “يثمّن الثقافات الهشة” والذي توفي في 30 أكتوبر 2009، عاش أكثر من كل أسلافه إذ أنه عمّر. وحتى النهاية ظل يدافع عن نظريته التي تقول إنه لا يحق لأي كان أن يعتبر حضارته أرقى من الحضارات الأخرى، وأن الإنسانية ليست في حاجة إلى ثقافة واحدة، بل إلى عدة ثقافات تعكس تنوع الشعوب، وقدرتها على التوليد والابتكار.
______
*العرب

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *