التشكيلي إبراهيم بولمينات في “البحث عن الضوء”

خاص- ثقافات

*عزالدين بوركة

تلك ليست رأسا
ذلك ليس وجها
إنه ملاك ينام منذ الأزل
فحاذر أن تشعل شمعة نسيَ فيلسوف إغريقي هَرِمٌ إشعالها
في كهف هذا الجسد المليء بثقوبٍ
لا تصلح إلا أن تكون مغارات دودة الميتافيزيقا.
***
هل هو قناع؟ أم رأس؟ أم وجه؟ قد لا يكون أي شيء من كل ذلك، إنه “شبح” أو سيمولاكر Simulacre بمعنى أدق. إنه الصورة المشوهة عن الواقعي، ولكن “يعني أيضاً تمثيل شيء ما، من حيث إن هذا الشيء يفوّض أمره لآخر”، حسب قول ميشيل فوكو M. Foucault  فهو إذن تمثيل لشيء يفوض أمره لآخر، إنه استسلام مطلق وخضوع للصورة حيث يصل إلى حالة “القدوم والظهور المتأني للذات والآخر”. إنه النظير إذن الذي تقارن به النسخة، إنه مرآتها الكاذبة الصادقة، إنه بهذا كما يقول ريجيس دوبري R. Debray “الصورة التي تُنحتُ ثم تُصبغُ لتغدو أصلا”.

إن الرسم عند الفنان التشكيلي ابراهيم بولمينات، فعل واع كامل الوعي بتدرجات النسخ من الأمانة، مرورا بالخيانة فالأيقونة وصولا إلى السيمولاكر… فرسومات هذا الفنان لا تتصف بأي من الصفات الثلاث الأولى، بل هي الصفة الرابعة من حيث أنها لا توضح بقدر ما تخفي، إنها تجعل من الظلال منطلقا لها لتمثل وتعبّر عن الأصل. وما الأصل؟ إنه الإنسان من حيث كونه سجين ذاته، سجين كهفه، إنه بالتالي لم يخرج بعد من كهف أفلاطون، حيث كل شيء هو ظِلال عن عالم علوي.

إن ابراهيم بولمينات إذن يخلق أشباها مشوهة، تحتجّ وتوضّح، حاملة الجوهر، الذي “يسبق الوجود”، أو على حد قولة أفلاطون. إنها بالمعنى الفني الأدق “سيلويت Silhouette” أو صور ظلية، تتراكب وتقنية الكولاج عبر قطع قصاصات الورق والصحف والمجلات، ولصقها فوق خلفية من الألوان الباردة، أو الاعتماد على الصور الظليّة المجوّفة، إذ في هذه العملية يُقتطَع الشكل المطلوب من الورقـة الفاتحة اللون، لتصبح مجوّفة ويغطّى التجويف من الخلف بقماش أو ورق حادّ بالألوان الغامقة. إنها بهذا يصير للوحة أن تمتلك فضاءات لا متناهية تعرض فيها “صورة الجوهر” من حيث أنه الثابت اللامتغير، وإن التغيير هو سمة رسومات هذا الفنان من حيث التوظيف اللوني أو تنوع “الخِضابات” LES PIGMENTS، التي تصطبغ على الفضاء بنوع من التحدب mettre en relief عبر تمازج المادة مع الصباغة والمحفز الصباغي.
ولا تستند أعمال بولمينات على سند واحد، بل يتعدد السند لديه من الورق والورق المقوى والكارتون، والخشب والقماش… إلخ، مما يعطي للفنان حرية أوسع للتجريب. كما تتعدد آليات الاشتغال لديه من «روسيكلاج»  Recyclage والمزج بين تقنيات مختلفة وتنوع في الصباغ peintures المستخدم.

إنه بهذا المعنى دائم التجريب والبحث، إنه إذن، داخل دائرة فيما يمكن أن نصفه ب”الحركة الدائبة والقوة المتفجرة، التي يتميز بها عالم العصر الحديث”، إنه يجاري دعوة بيكاسو في كون أن الفن لا يكتمل إلا بالتنقل ومسايرة الزمن، ولابد من البحث والتغيير. من حيث أن البحث ضد الركود والسكون، إنه تجدد على مستوى الذات والإدراك والعمل Œuvre. إن ابراهيم بولمينات من الفنانين الذين يمكن أن نصفهم بكونهم “الباحثون عن الضوء”، أي الذين هم في دوام بحثٍ عن أصل الضوء الذي تنبعث عنه الظلال. إنه بحث عميق في الفن ومعارجه نحو أفق مغاير. هذا وتأتي شخوص هذا الفنان  أحيانا موحدة في تكرار داخل قالب Gabarit واحد بأحجام مختلفة له، إلا أنه ليس بتكرار مجاني بل إنه طرح فلسفي عميق يقف نِّداً للاعتقاد القائل “بموت الفن” أو أن الإبداع قد قدم كل ما لديه من قول.

باختصار يحاول ابراهيم بولمينات -القادم من عوالم كناوة كموضوع-سبب sujet prétexte التي انطلق منها بادئ الرسم “وفي البدء كان الرسم”- أن يجعل من الصورة “السيمولاكر”  ميتافيزيقا وكيانا فعالا، حاملا للمعنى، معبرا وجوديا عن واقع ملموس، بل هو مرآته التي ننظر فيها وجوهنا الحقيقية معدومة الملامح، تختفي الطبقية والجنسية والعرقية ويحضر الإنسان في عُرْيهِ من علامات التميز، خاليا من كل شيء.

في معرضه هذا (صوت الرأس)  وإلى جانب آخر أعماله منذ فترة ليست بالبعيدة، يعمد هذا الفنان التشكيلي  إلى الاشتغال على الرأس، ذلك الجزء العلوي أو  “الجزء الأعلى أو الأرقى من الجسد وبه العقل و هو خالد يدرك المثل ومركزه الرأس”. إذ العقل الذي يأخذنا إلى “التعقل وهو إدراك الماهيات المجردة من كل مادة و هو أسمى درجات المعرفة”، بل إنه العقل “أعدل قسمة بين الناس” هو المحرك والفعال. يتخذ منه هذا الفنان موضع رسالته التي يمررها عبر أعمال يأتي الرأس في الغالب يتوسط حيز العمل فيها، عبر تقنية الظل (السيلويت) حيث تغيب الملامح ويبقى الشكل /الجوهر العاقل.
إنه قلق وجودي الذي يستحوذ على لوحات هذا الفنان، إذ تعيش شخوصه صراعا بالصمت، تصرخ ولا يسمع لها صوت إنها تحتجّ بقوة فيكفي النظر إليها مليا لندرك ما تقوله.

إنها تحتجّ ولا تخضع.. لكونها ليست استعارات لغوية بل إنها صور وظيفتها أن تكون وسيطا بين الواقع والمُثُل، بين المرئي والجوهر، بين الزائل والبائد. إنها صورة للخلود في الأعلى /in Head.

في معرض الذي يحتضنه رواق باب الكبير ما بين 23 نوفمبر و12 ديسمبر 2016، التابع لوزارة الثقافة المغربية، يقدم هذا الفنان شخوصه المتكررة، التي تأتي متخذة لها أبعادا مختلفة وخلفيات صباغية (أسميها موسيقية) متعددة، مما يجعل كل عمل يتمتع باستقلاليته الكبرى، فالعمل الفني عند هذا الفنان يتتبع الأثر فما التكرار إلا تأكيد وترسيخا للأثر، فنلحظ في إحدى أعماله التي جاءت بحجم (2*2 متر)، الاشتغال على الأثر والحفر داخل المادة، إنه بحث عن الماوراء، أو البحث عن الضوء.
__________
كاتب وناقد فني

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *