رغبات المؤلِّفين النائمة

*لطيفة لبصير

حين أصدر نابوكوف روايته الشهيرة «لوليتا» أزعج الجميع وهو يتحدث عن عشق رجل كبير السن لشابة صغيرة، حيث تم منع الرواية في البداية، لكنها فيما بعد وجدت طريقها إلى النشر، وإلى التأثير في الأدب أيضاً. صاغ نابوكوف استيهامات خاصة، ألهمت الأدب وجعلت العديد من القراء يلهثون وراء صوره وتحليلاته. كان البطل يتحرك ويصنع أحداث الرواية تحت وطأة الرغبة التي تظهر وكأنها رغبة لا تريد أن تنتهي.

وهذه النشوة ذاتها تكررت في أكثر من عمل أدبي، بحيث نجد العديد من الروائيين يتحدثون عن نفس المحور، عن ذلك الانبهار بجسد صبية صغيرة، وعن كل المعاجم التي تصدر عن رؤية ذلك الجسد دون لمسه، وقد كتب الكاتب الياباني ياسوناري كاواباتا رواية بنفس الإحساس، تحمل عنوان «الجميلات النائمات»، فنقل من خلالها رغبات لا يفصح عنها سوى الأدب الذي يتوسل بصيغ التخييل، كي يتحدث عن الرغبات النائمة تحت اللاوعي، ولذا كنا نحن، كقراء، نستمتع بالعين الرائية التي صاغت لنا جسد الجميلات اللواتي يتم تنويمهن، كي يستمتع الرجل المسن بمجرد النظر.

ولم تتوقف هذه الرغبة عند هذا الحد، بل انتقلت بشكل مستمر للتأثير في عديد من أمهات الأعمال الأدبية الرائعة، فكتب المبدع الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز عملاً أدبياً بنفس النكهة والاستمتاع، فجاءت روايته «ذاكرة غانياتي الحزينات» لتتحدث عن نفس المحور، جاعلة من النظر، والنظر وحده، محور المتعة.

أجدني وأنا أقرأ هذا الأدب، بوصفي امرأة، منشدة لكل تلك الأحاسيس، وكل ذلك الزخم المعجمي، الذي كان يصف الجميلات وهن في مخادع النوم، على الرغم من أنني أعرف أن العين التي ترى هي عين الرجل ونظرته. فأتأمل ذلك، وأتساءل: لماذا يؤثر هذا الأدب على توجهاتنا، وهو يقترف الذنوب في حق تلك البراءة، فلا أجد سوى سحر الأدب جواباً على ذلك، مع علمي أن ما يضمره من استعارات صيغت من تاريخ بعيد، وتسربت في اللغة والحكايات والأمثال، وبنت طبقاتها لتصبح لغة عادية، لكنها محملة بالعديد من الصور الجاهزة.

لقد عمد الأدب في كثير من الأحيان إلى قتل بطلاته، دون أن نشعر نحن أنفسنا كقراء بذلك، فالعديد من البطلات قُتلن بوساطة كتاب ذكور وإناث، والآداب العالمية تزخر بهذا القتل اللذيذ، الذي ينتشي به القارئ، ويجعله حالماً معجباً بالبطلات المنسحبات من الحياة بعنف، بل إنه يزداد عشقاً لهن، وهن يسلّمن أياديهن للريح.

فالعديد من البطلات أسلمن الروح لكي يتعاطف معهن المجتمع، ويمنحهن صكوك الغفران على ذنوب اقترفنها وهن خارج مؤسسة الزواج، فكأن الإبداع يحررهن، بشكل لا واع، من هذا الذنب، ويهوّن عليهن كل الآثام التي ارتكبنها، سواء عن طريق الحب أو الجنس، لذا يكثر القتل في الأدب، أين غادة الكاميليا؟ أين مدام بوفاري لفلوبير؟ أين هي حميدة في زقاق المدق لنجيب محفوظ؟ أين هي نجوى العامري لجبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف؟ أين هي أنا كارنينا لتولستوي؟ والقائمة تطول.

إن الأدب لا يكتفي بهذا القتل فقط، بل إنه أثمر فكرة أخرى لطالما كررها، وجعل لها نموذجاً نمطياً متكرراً، مثل نموذج «المومس الفاضلة»، التي نجد أن العديد من الروايات جعلتها محوراً في سياقاتها، من ينسى «فلة بوعناب» في رواية «وليمة لأعشاب البحر» لحيدر حيدر، أو يستطيع أن ينسى «سلطانة» للروائي الأردني غالب هلسا؟

إنه لمن الغريب أن العديد من الروائيين منحوا لهذا النموذج مساحات كبرى في نصوصهم، وكأنهم بذلك يتحدثون عن نموذج جديد للأنثى التي تمتلك حضوراً خاصاً في المجتمع، غير أنهم في النهاية جعلوا مآل البطلات عنوانه الخذلان، فتخلصوا منهن أمام كل القراء الذين يعتبرون شهوداً على حسن سيرة الكتاب.

طرح كتاب «الرجل يصنع اللغة – man made language» لكاتبته «ديل سبندر» إشكال جنسانية اللغة، وسطحيتها، بحيث ترى أن اللغة تحمل العديد من الاستعارات التي تقلل من قيمة المرأة، وتتهم «سبندر» الرجل بأنه يتحمل جزءاً من المسؤولية في هذا الشق، بما أن اللغة نفسها أصبحت خاضعة لنفس الفوارق. ومن الغريب جداً أن هذا الإشكال هو إشكال عالمي، بحيث نجد أن العديد من الأمكنة والحكايات اللقيطة لها مصدر مشترك، على الرغم من الاختلاف الحضاري (هناك نماذج متكررة عالمياً في الحكايات مثل حكاية السندريلا). وهناك كتب عالمية تتحدث عن نفس المحور مثل كتاب «إياك والزواج من كبيرة القدمين» للكاتبة الهولندية مينيكيه شيبر، وهو من أهم الكتب الذي قامت فيه الباحثة بجمع أكثر من 15735 مثلاً من 240 لغة من كل البلدان، وتتناول الكاتبة من خلال هذا العمل كل وجهات النظر الموروثة عن معايير الذكورة والأنوثة المنحرفة. وهناك أيضاً كتب عربية بدأت تنتج حكايات وأمثالاً تكتبها المرأة، لكن الإشكال متجذر بعمق في كل البنيات اللغوية التي تنتقل إلينا، والتي يعيدها الأدب بشكل لا واع أيضاً، فمن يقرأ «يوميات سراب عفان» لجبرا إبراهيم جبرا، أو «أيام معه» لكوليت خوري، يشعر بأن البطلات ينسحبن من الحب كي يحتفظن بالصورة المثالية للمشاعر، وهي فكرة تتكرر حتى في العديد من تصورات الأفراد في المجتمع، ويجترها الأدب بمهارة فائقة.

إذا تأملنا الفرضيات التي طرحتها «ديل سبندر»، و«ديبورا كاميرون»، وكل الباحثات الأجنبيات، واللواتي أحدثن تأثيراً في الكاتبات العربيات أيضاً، يمكننا أن نتساءل معهن: هل يمكن للغة أن تضع لسانيات جديدة، تختلف عن لسانيات دوسوسير، وتتحدث عن لسانيات ما بعد البنيوية؟ إن اللغة حين وضعت كانت محملة بمفاهيم، كما تقول «ديبورا كاميرون»، أي أن اللّغة والنظريات الثقافية جنسانية، حين تكون جنسانية، فإن ملاحظة الواقع هي أيضاً ستكون كذلك، محالة.

إن الكثير من الأبحاث قد وضعت حول علاقة المرأة باللغة الجديدة، لكن السؤال الذي يظل قائماً هو: هل بتغيير اللغة سنحطم الكثير من الموروثات والتصورات النمطية، التي سكنت اللسان منذ الدهشة الأولى، بأشياء العالم ومكوناته؟ ربما كان الجواب بـ«لا» هو الأقرب إلى الواقع، ذلك أن اللغة هي جزء فقط مما يصنعنا، وليست هي كل شيء.
__________
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *