تقول الموسيقى ما لا تستطيع أن تقوله الكلمات

*محمد الحمامصي

تشكل رواية “مقبرة البيانو” للكاتب البرتغالي جوزيه لويس بايشوتو رؤى مجموعة من الأشخاص من عائلة واحدة، كل منهم يعطي جزءا من الرواية، أوركسترا يقوده مايسترو ماهر، حتى إذا انتهت تجمعت صورة كاملة واضحة الملامح للفاصل بين ولادة الحياة والموت، حيث يأتي نبأ ولادة الحفيدة قبل نبأ موت الجد. تبدأ الرواية بمشهد الأب، مؤسس العائلة وهو في فراش الموت، أبناؤه متجمعون حوله، يبكونه في صمت، يحاولون مقاومة دموعهم وحزنهم لكن دون جدوى، وعلى الجانب الآخر الأخت في المستشفى للولادة.

تعدد الرواة

أسلوب الرواية التي صدرت عن دار “العربي للنشر”، بترجمة جمال خليفة، فريد من نوعه، حيث نجد تعددا للرواة داخل الرواية، لكن بطريقة متصلة للغاية، وكأن المؤلف قد اختار عدة أصوات لصوته هو وحده. توجد أيضا شخصية واحدة، جعلها الكاتب جزءا من العائلة في هذه الرواية، وهي شخصية فرانسيسكو لازارو، وهو أول عدّاء برتغالي ينضم إلى بطولات الأولمبياد، لكنه لم يكمل مشواره ومات شابا، ذلك العدّاء له تأثير كبير في حياة المؤلف، لأنه يرتبط في ذاكرته بوالده، وفي ما حدث في حياته في ما بعد، ما دفعه إلى كتابة هذه الرائعة “مقبرة البيانو”.

جاء اسم الرواية من الحرفة التي اشتهرت بها العائلة، وهي تصليح آلات البيانو المعطوبة. خلف ورشتها يوجد مخزن قديم فيه آلات البيانو التي لم تعد صالحة للاستخدام، ومن هنا جاء اسم “مقبرة البيانو”.

يختتم بايشوتو الترجمة العربية برسالة يوجهها إلى القارئ العربي، مفسرا له السر وراء هذه الرواية، ولماذا هي شخصية وقريبة منه إلى حد كبير، يقول “قبل بضع سنوات، في محل لبيع الكتب المستعملة في إنكلترا، اشتريت كتابا قديما عن الحرب العالمية الأولى. كان كتابا قد تم نشره بعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب، ويتكون أساسا من صور. في نهاية تلك الطبعة، كانت هناك مجموعة من الصفحات يسبقها تحذير، مكتوب بحروف كبيرة ملفتة للنظر، وتليه علامات تعجب.

من يمر بذلك التحذير ويتصفح الصفحات التالية، عليه أن يعي جيدا أنه يقوم بذلك على مسؤوليته الخاصة. عندما كان الكتاب جديدا، كانت تلك الصفحات الأخيرة ملصقة بلاصق أحمر صغير، وعندما وصل إلى يدي، بعد ذلك بعدة عقود، كانت قد فُتحت. في تلك الصفحات الأخيرة، كانت هناك صور لبعض الفظائع التي ارتُكبت في تلك الحرب، وصور لجثث”.

ويلفت إلى أنه عندما طُلب منه هذا النص لإرفاقه بالطبعة العربية لهذه الرواية، أراد أن يتم نشره في نهاية الكتاب “حينئذ، تواردت إلى ذهني ذكرى الكتاب القديم الذي اشتريته في إنكلترا، فأردتُ أن يسبق هذا النص أيضا تحذير، ملصق صغير لا بد أن يتمزق، ليس لأنه يحتوي على صور صادمة، بطبيعة الحال، بل لأن هذا النص ربما لم يكن ضروريّا. أهم شيء أود قوله هو الرواية، التي آمل أن تكونوا قد انتهيتم من قراءتها. ونواياي لها أهمية طفيفة إذا ما قورنت بتأويلاتكم. ويسرني أن تكونوا قد وجدتم في هذه الصفحات شيئا قليلا مما تعرفون ومما هو خاص بكم أنتم”.

ويضيف بايشوتو “تُوفي والدي يوم 7 يناير 1996. الصفحات التي يتكون منها الفصل الأول الموجز لهذه الرواية تصف ذلك اليوم بالتفصيل، اليوم الأخير من حياة والدي. كل ما هو موضَّح في هذا الفصل الأول هو سيرة ذاتية، أو كل شيء تقريبا. في 7 يناير 1996، قبل ساعة من وفاة والدي، وُلدت إحدى بنات أختي، ابنة أختي الكبرى.

وهذا هو العنصر الوحيد المختلف. وكان هذا “التكييف” وسيلة لخلق تواز أكثر دقة بين الولادة والموت المتداخلين. كان والدي أول مَن حدثني عن فرانسيسكو لازارو، ذلك الرياضي البرتغالي الحقيقي. في ذلك الوقت، كنتُ طفلا وكنتُ أركض أيضا، ليس في سباقات الماراثون، ولكن لمسافات تناسب عمري. في الواقع، لم يكن فرانسيسكو لازارو يصلح آلات البيانو، كان ذلك أيضا “تكييفا” فعلتُه، ولكنه في الحقيقة، كان نجَّارا. وكانت تلك مهنة والدي أيضا”.

دور الموسيقى

يشير بايشوتو إلى أن الكتاب الأوّل الذي كتبه ونشره كان يتحدث عن وفاة والده، و“هو عبارة عن نصّ حول موضوع الحِداد. وقد كتب ذلك الكتاب بعد فقدان والدي بقليل، ولم أتطرق فيه إلى ولادة ابنة أختي”. وقال بايشوتو “استغرق الأمر عشر سنوات، حتى أهضم هذه الحقيقة وأجد لها معنى.

وهكذا، بعد عشر سنوات، كانت ‘مقبرة البيانو’ هي الصورة البيانية الطويلة التي قمتُ بصياغتها للتعبير عن كل شيء تعلمتُه من ذلك اليوم الذي مات فيه والدي، ووُلدت فيه ابنة أختي، وصرتُ فيه رجل البيت. ومن ناحية أخرى، فإن حقيقة أنه توفي خلال سباق الماراثون بدت لي صورة قوية جدا، فالحياة كالماراثون، ومرور الوقت، يتمثل في الفضاء، وفي الكيلومترات المقطوعة.

قصة فرانسيسكو لازارو تم تكييفها لتناسب قصة هذه العائلة الخيالية، هذا التشبيه الزمني، تعاقب الأجيال، والتسلسل الزمني، والتصميم الدائري للسرد، هي طرق للتعبير عن وقت لا ينتهي ويتكرر.

 

_14813042758

ولذا، فعلى الرغم من أن أحد الرواة يبدأ ميتا، وفي لحظة ما، ندرك أن آخر سوف يموت، لا أوافق على أن هذه رواية عن الموت. والأحرى هو أن نقول إنها رواية عن الوقت، والأكثر دقة هو أنها رواية عن الحب”.

ويوضح “كانت الرواية تحتاج إلى راو ميت وآخر يحتضر، لكي يستطيعا أن يحكيا تلك الحكاية، متحررين من القيود التي تكبّل الأحياء، ويبقى الحب فقط، عابرا للحياة وللموت، فهو خالد. في قصة هذه العائلة، هناك أمثلة، متطرفة أحيانا، إلى الخير وإلى الشر الأُسري. في جذور تلك الشجرة، وفي فروعها، يوجد دائما الحب”.

ويختم بايشوتو كلمته قائلا “في مناسبتين، تلتقي أصغر حفيدة بجدها المتوفى ويتواصلان في ما بينهما، لتوضيح أن هناك طرقا بين هنا وهناك. ومكان “مقبرة البيانو” في ذاته هو ملتقى الأبعاد، كبوَّابة خارج الزمن، أو المكان الذي يتوقف فيه الزمن، أو المكـان الـذي تتلاقى فيه الأزمنة. إن في العالم. كما في صفحات هذه الرواية، ليس هناك تفسير واضح لكل شيء. فهذا هو دور الموسيقى، ونغمات البيانو التي تمر خلال هذا الكتاب. وبلغتها، تقول الموسيقى ما لا تستطيع أن تقوله الكلمات”.
___
*العرب

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *