رسائل لم تكن في الحسبان… أنسي الحاج العاشق «المتوهم» عندما راسل غادة السمان بوَلَهٍ وجنون

*عبده وازن

كشفت الروائية السورية غادة السمان رسائل حب كان قد كتبها لها الشاعر أنسي الحاج في العام 1963 وجمعتها في كتاب شاءته هدية إلى رواد معرض بيروت للكتاب عنوانه «رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان» (دار الطليعة). وإن بدا هذا الكتاب بمثابة مفاجأة كبيرة حملتها صاحبة «لا بحر في بيروت» إلى قرائها وإلى قراء شاعر «الوليمة» فالحدث الذي تتمثله هذه الرسائل يكمن خصوصاً في كشفها «قصة» حب ولو متوهمة أو عابرة قامت بين الشاعر الذي كان في السادسة والعشرين والكاتبة التي كانت تتهيأ في العشرين من عمرها لدخول عالم الأدب وتحديداً عالم القصة القصيرة في بيروت التي قصدتها لتواصل دروسها في الجامعة الأميركية وكانت صدرت لها للتو أولى مجموعاتها «عيناك قدري».

< لم يكن أحد من أصدقاء أنسي الحاج يتوقع أن يكون الشاعر قد عاش مثل هذه المغامرة التي لم تدم طويلاً، فهو لم يروِ عنها بتاتاً حتى للأشخاص الأقرب إليه الذين كان يستودعهم بعضاً من أسراره، ولم يذكر غادة في حواراته الصحافية ولا في مجالسه. بل إنه لم يكتب عن غادة في زاويته الشهيرة «كلمات» في ملحق النهار، أي مقال مع أنه كتب الكثيرعن الأدباء والفنانين وعلّق على روايات ودواوين ومجموعات قصصية كثيرة.

ومن يعد إلى كتاب «كلمات» بأجزائه الثلاثة لا يجد اسم غادة السمان في الفهرست، ما يعني أنها غائبة عنه تماماً. لكن غادة تنشر في ختام كتاب الرسائل شهادة صغيرة كتبها الحاج عن مجموعتها القصصية «رحيل المرافئ القديمة» وتحمل تاريخ «ربيع 1973» ومن دون أن تذكر الصحيفة التي نشرتها، مكتفية بالهامش الآتي: «هذه الشهادة كتبها أنسي الحاج بعد عشرة أعوام من تاريخ رسائله إلى غادة». تُرى هل كتب الحاج هذه الشهادة في زاويته الشهيرة ثم أسقطها من الكتاب؟ فالشهادة تنضح محبة وإعجابا لكنها تخلو من الحماسة الشديدة التي عرف بها الشاعر وفيها يقول: «بمزيد من الجرأة، بمزيد من الصدق، بمزيد من الغوص على الذات، تعود غادة السمان إلى قراء قصصها القصيرة بمجموعة جديدة عنوانها «رحيل المرافئ القديمة»، وبضع من القصص تستوحي هزيمة 1967. وكلها، من دون ريب، تضع القارئ في مناخ شديد الحرارة ومرات ملتهب الحمى».

ويتطرق في الختام إلى زواجها قائلاً: «بعد زواجها، قيل سوف تهجر التأليف. وكالعنقاء قامت من رمادها، وإذا بالزواج تجربة جديدة حوّلتها الكاتبة بموهبتها الأكيدة، إلى مركز إلهام إضافي. غادة في كل ما تكتبه شاعرة. هي حقاً شاعرة».

واللافت أن كل الرسائل التسع كتبها الشاعر وفق تواريخ بعضها، في الأيام الأولى من كانون الأول(ديسمبر) 1963 وقد غابت التواريخ عن أربع رسائل بدت أنها كتبت في السياق الزمني نفسه وبالروح نفسها أو النفَس نفسه. كتبت الرسائل تباعاً وكأنها قصائد أو نصوص، ومعظمها فعلاً يفيض نزقاً وتوتراً وجمالاً، على غرار شعر الحاج. ويظهر بجلاء أن أنسي كتب هذه الرسائل ثم توقف أو انقطع عن مراسلة غادة مع أنه أعلن حبه لها أكثر من مرة وأحيانا مجاهرةً أو علناً. ولكن ما هو هذا الحب الذي لم يدم وفق الرسائل سوى أيام معدودة ولكن محمومة حباً وهياماً ووهماً وتوهماً.

كيف قدّر لهذا الحب العنيف والغامض أن ينتهي هكذا مثل هبة هواء؟ لو كانت غادة تلقت رسالة أخرى أو حتى قصاصة رسالة، لكانت نشرتها من غير تردد، إلا إذا أرادت أن تخفي ما شاءت أن تخفيه، وهذا مستبعد تماماً.

غادة جريئة جداً في كتابتها كما في حياتها، علاوة على نبلها وعفويتها. وكانت صادقة عندما قالت إنها لم ترد على رسائل أنسي ولم تكتب له. وفي مقدمتها المختصرة للرسائل تقول: «لم أكتب لأنسي أي رسالة، فقد كنا نلتقي كل يوم تقريباً في مقهى الهورس شو – الحمرا أو مقهى الدولتشي فيتا والديبلومات – الروشة أو مقهى الأنكل سام … وهذه المقاهي انقرضت اليوم». لكنها عندما نشرت في العام 1993 الرسائل التي كتبها الروائي الفلسطيني غسان كنفاني إليها والموقعة خلال العامين 1966 و1967 اتهمها بعض الصحافيين بإخفاء رسائلها إليه وقالوا إنها كانت استعادت رسائلها منه وأخفتها أو أتلفتها لئلا يقرأها أحد. وردت غادة موضحة أنها بحثت عن رسائلها إليه لتنشرها في الكتاب نفسه ولم تجدها وتحسرت على ضياعها. وعندما صدرت رسائل كنفاني أحدثت ضجة في المعترك الأدبي والسياسي العربي وانبرى الكتاب والصحافيون يدبجون المقالات حول هذه العلاقة العاصفة التي قامت بين المناضل الفلسطيني وغادة واستاء بعض المناضلين الفلسطينيين من الصورة التي تكونها الرسائل عن كنفاني العاشق المهزوم والضعيف والذي بدا أشبه بدمية بين يدي معشوقته.

لا تمكن المقارنة بين رسائل كنفاني ورسائل الحاج ولا تمكن المقابلة بين قصة كنفاني وقصة الحاج. الأول أحب غادة حباً حقيقياً وبادلته غادة الحب مبدئياً بينما أحب الحاج غادة حباً ظل ملتبساً بين نزعته الأفلاطوينة والنزق إن صح القول، ولم تبادله هي هذا الحب. والرسائل تشهد والوقائع أيضاً.

كانت غادة في العشرين من عمرها، صبية حسناء ومثقفة، متحررة على الطريقة الغربية، تواصل دراستها العليا في حقل الأدب الإنكليزي والمسرح العبثي في الجامعة الأميركية، وقد أصدرت مجموعتها القصصية الأولى «عيناك قدري» ولقيت ترحاباً لدى النقاد في بيروت ودمشق.

أما أنسي فكان في السادسة والعشرين، متزوج وله ابنة وابن، أحد شعراء مجلة «شعر» وصحافي لامع في جريدة «النهار»، وكان أصدر ديوانيه «لن» و«الرأس المقطوع». وتفيد الرسائل التي كتبها إلى غادة بأنه كان يعيش حالاً من الصراع الداخلي ومن الاضطراب الذي عرفه سابقاً أيام كتب ديوانه «لن»، وكان يبحث عن خشبة خلاص وعن حب ينقذه من نزاعه الداخلي المضطرم. ولعله وجد في غادة بل وجد حتماً فيها، المرأة المنتظرة فراح يقنع نفسه بأنه يحبها وأن عليه أن يحبها.

وهذا ما تؤكده جمل كثيرة في الرسائل ومنها مثلاً: «إنني أحب أن احبك»، «أحب أن أحبك لأنك تمثلين في نظري خشبة الخلاص الوحيدة الممكنة أو اللاممكنة»، «قررت أنني أريد أن أحبك» … حالات التخبط هذه ليست بقليلة ولكن لن يلبث أن يليها اعتراف صارخ بحبه لغادة، جهاراً وبعنف أحياناً مع أن حبه ظل مبدئياً من طرف واحد ومكث وقفاً على التمني اللحظوي وغير الثابت، يقول: «إنني بحاجة إليك»، «أظن أنني كنت أحس بأنك منذورة لي»، «ليتك تعلمين كم أنت كل شيء في صيرورتي»، «إما أنت أو النهاية»… ثم تتدفق عاطفته بما يشبه النزق فيقول لها: «اسكبي على عقلي نارك. خذيني. افتحي لي باباً، افتحي لي قبراً… فتتي أعصابي، خذيني، لم يصرخ أحد من قبلي هذه الصرخة: خذيني». ويقول في رسالة أخرى: «أشعر بجوع إلى صدرك ، بنهم إلى وجهك ويديك ودفئك وفمك وعنقك، إلى عينيك…».

لعل أغرب ما في هذا الحب المتفجر هو انطفاؤه السريع. كان حباً نارياً ولكن بلا جمر، فما أن خمد حتى استحال رماداً. كيف ينتهي مثل هذا الحب الجارف على حين فجاة وكأنه لم يكن؟ ربما لم يحب الحاج غادة مقدار ما أحب صورتها أو المثال الذي تجسده فتاه وراح يوهم نفسه أنه يحبها بل راح يقنع نفسه أن عليه أن يحبها. وهذا ما يؤكده هو نفسه في الرسائل كأن يقول: «كنت أعلم أنني بحاجة إلى إنسان. إلى إنسان يتناسب، في ذكائه وإحساسه وطاقاته جميعاً، الإيجابية منها والسلبية، مع ما أنا فيه وما سأصير فيه»، ويضيف: «أصبحت أنت التجسيد للإنسان الذي أنا بحاجة مصيرية ملحة وعميقة وعظيمة ورهيبة إليه». إلا أن أنسي كان على يقين داخلي أنهما، هو وغادة خطان متوازيان لن يقدّر لهما أن يلتقيا، كما يعبر.

في تقديمها المختصر للرسائل أشارت غادة إلى أنها عجزت عن تمزيق هذه الرسائل التي تصفها بـ «الرائعة أدبياً» فنشرتها غير آبهة لما قد يترك نشرها من آثار. وكم أصابت فعلاً، فالرسائل هي بمثابة اكتشاف ثمين وحدث أدبي، ليس لأنها تكشف فقط زاوية جديدة من حياة أنسي أو سيرته، بل لأنها تمثل نصوصاً بديعة لا تقل بتاتاً فرادة وجمالاً عن قصائد الشاعر ومنثوراته. فأنسي بدا في هذه الرسائل كأنه يكتب لنفسه وعلى طريقته الخلاقة والمشبعة بالتوتر والجمال.

16b6727e54f84b2bb3f0457283030d14

 6e243d597fc14323af3339025b297c9e


– مختارات من الرسائل 

غادة

الوضوح الذي أنا بحاجة إليه لم أقدمه. كنتُ أعرف أنني سأفشل في تقديمه. لكنني أردت أن أجرب. أردت، لأنني أطمع بمشاركتك. أطمع بها إلى حد بعيد جداً. لكن رغم هذا أعتقد أنني سأقول لك شيئاً واضحاً. وقبل كل شيء، هذا: إنني بحاجة إليك. (إذا ضحكت الآن بينك وبين نفسك سخرية من هذه العبارة، فسيكون معناه أنك لا تحترمين مأساتي. ولن أغتفر لك ذلك أبداً). تتذكرين دون ريب أنك ضحكت مرة بمرارة، وانتقام دفين، وشك وسخرية، حيث قلت لك إنني بحاجة إليك. وربما فكرت: كيف يعرف أنه بحاجة إلي، أنا بالذات، شخص لا يعرف عني شيئاً، ولا أعرف عنه شيئاً، ولا يعرف إذا كنت، أنا، (أي أنتِ) بحاجة إلى أن يكون أحد بحاجة إلي… وربما فكرت (وأنا لو كنتُ مكانك لجاءتني الأفكار نفسها) أيضاً، إنني، في تسرعي للقبض على الفرصة السانحة (السانحة في الظاهر) نسيتُ حتى أن أكون لبقاً، أو أن أذهب بمراوغتي مذهباً ذكياً على الأقل، فلا أصوغ «حاجتي» بتلك العبارات المسلوقة، المبتذلة، المبريّة حتى الاهتراء على بلاط النفاق البشري والتعاملات العابرة والزَيف والخبث والتدجيل. وربما، أخيراً، (ولو كنت مكانكِ لفعلت) وربما فكّتِ: أإلى هذه الدرجة يظنني وطيئة المستوى، فلا يكلف نفسه، معي، مشقّة الارتفاع بالنفاق إلى حد أكثر جاذبية، على الأقل؟

ولا أستبعد أن تكون هذه الأفكار، وغيرها أمرّ، قد راودتك في مناسبات أخرى. فقد كانت معظم مواقفي الظاهرية معك مواقف ناقصة تحمل كثيراً على الشك وأحياناً على الاستخفاف والألم والرغبة في تأكيد الذات بنوع من القسوة حتى لا أقول الظلم. لكن، يا عزيزتي (يا لهذه اللفظة السخيفة!) دعيني أوضح مرة أخرى، وأرجو أن لا تضجري.

قبل أن أتصل بك للمرة الأولى كنت أعلم، لكن ربما أقل من الآن، أنني بحاجة إلى إنسان. بحاجة إلى إنسان يتناسب، في ذكائه وإحساسه وطاقاته جميعاً، الإيجابية منها والسلبية، مع ما أنا فيه، وما سأصير فيه. وفكرت طويلاً. ورفضتُ، شيئاً بعد شيء، كل الحلول التي مرّت بفكري. ورفضت كل الأشخاص، ممّن أعرفهم وممّن لا أعرفهم، الذين استعرضتهم. وعندما اتصلت بك للمرة الأولى كنتِ ما تزالين مجرد إمكانية غامضة، لكن قوية. وظلّت هذه الإمكانية غامضة عندما قابلتك للمرة الأولى. وظلّت غامضة أيضاً عندما قابلتك في المرة الثانية، لكنها ازدادت قوة. وفي ما بعد، أصبحتِ أنت التجسيد للإنسان الذي أنا بحاجة مصيرية ملحّة وعميقة وعظيمة ورهيبة إليه. أصبحتِ أنتِ هذا الإنسان لا لأنني أنا صنعتُه منكِ، فحسب، بل لأنك كنتِ أهلاً لذلك. كنتِ أهلاً لذلك رغم أنّك ما تزالين، بالنسبة لي، منغلقة على نفسك ترفضين الخروج إليّ بالعري الذي أشتهيه وأريد أن أتحمّل وزره.

هل حدث هذا التجسيد بسرعة؟ أتتّهمينه بأنه مسلوق سلقاً؟ بأنه من تصوير خيال مريض؟ بأنه إسقاط نفسي؟ بأنه انتهازي ووصولي؟ لا يا غادة. السرعة التي تتصورينها ليست في الحقيقة، سرعة. ربما كانت كذلك بالنسبة لمتفرّج من الخارج لا يعرف شيئاً عن الدوافع البعيدة والمخفية واللامباشرة. أؤكد لكِ أن العملية تمّت، على العكس، ببطء. نعم ببطء. وأعتقد أنني بذلتُ حتى الآن جهوداً جبارة لكي أستطيع الصمود أمام عدم تصديقك وأمام تريّثك وأمام انغلاقك وأمام رفضك وصمتك وابتساماتك التي تظنين أنني لا أدرك مغزاها العميق. بذلتُ جهوداً عنيفة لكي لا أنهار ولكي أحتفظ أمامك بشيء من الاستمرار والقناعة. ولو نفذتِ إلى اعماقي لهالك المنظر: منظر القتل والتقتيل والموت.

بحاجة، إذن، إليكِ.

لا، لستِ مجرد خشبة إنقاذ بالنسبة لي. عندما أقول أنا بحاجة عظيمة إليكِ فمعناه أنني، كذلك، بحاجة إلى من يكون بحاجة، عظيمة، وربما أعظم بكثير من حاجتي، إليّ… إن لجوئي إليكِ ليس لجوء إنسان إلى شيء، بل لجوء إنسان إلى إنسان آخر. إنه رغبة في الارتباط. وإذا كنتُ أريد أن أتخطى وضعي فيكِ فإنني أريد، كذلك، أن تتخطّي وضعكِ فيّ. ليس مثلي من يدرك معنى الكلمات يا غادة: معناها العميق، الحقيقي، الثقيل، المُلزِم، والمحرِّر أيضاً. ليس مثلي من يدرك معنى صرخة: أحبك.

لقد ذكرتُ لكِ، فوق، كلمة جريمة. لماذا؟ لا أعرف. أريدك أن تساعديني على تحديد هذا الشعور، وعلى معرفة أمور كثيرة غيره. أريدك أن تكوني معي. أن تكوني لي. أريد، أكثر من ذلك، أن أكون لكِ.

سأتوقف الآن عن الحكي. الساعة الرابعة والربع صباحاً. لا أعرف إذا كان الخط سيكون سيئاً اليوم أيضاً وأُخطئك. الويل لي إذا لم أستطع أن أراك اليوم. هل تنامين؟ هل تحلمين بشيء جميل؟ الويل لي إذا لم أرك. ماذا سأفعل الآن؟ أنام؟ مستحيل. بلى. يجب. قليل من الشجاعة أيها الجبان.

2/12/1963

غادة

أظن أنني كنتُ أحس بأنك منذورة لي. وكلما كنت أطالع خبراً عنك كان يتولاني شعور واضح بالغيرة والضيق والخوف. كنتُ أغار عليك من العالم. إنني أذكرك بلهجتي عندما كلمتك للمرة الأولى بالهاتف وكنتِ في دمشق. ألم تشعري بنبرات صوتي المليئة باللهفة؟ أم أنك نسبتها إلى المجاملة، أو إلى عادة كل رجل في التودد؟ على كل حال لم يكن هناك لديك أي سبب معقول لتفكري في أي شيء.

وحين رأيتُك للمرة الأولى ألم تلاحظي أنني لم أكن أقابل امرأة غريبة لا أعرفها وإنما امرأة كأنني عرفتها من عهد بعيد؟ ربما لم تلاحظي. أو لعلك لاحظتِ ولم تفكري في شيء.

(أفكر الآن أنك قد تكونين مريضة اليوم فلا أراك. أمس أيضاً لم أرك. أفكر ماذا سأفعل. هل ستكونين مريضة اليوم؟ هناك شيء رهيب يتآمر علي في الخفاء. إنني مصاب بسرطان الزمن والخيبة).

أين كنت؟ كفى… يخيّل إلي أنني سأخسر معركتي الأخيرة. ومهما قلتُ فلك أقول شيئاً مما أريد. اخرس إذن. اخرس أيها المسكين. لقد أُعطيتَ أن تتعلم دروساً كثيرة لكنك لم تتعلم شيئاً. إلى أين ما تزال تمشي؟ إلى أين ما تزال تأمل؟ إنك تنتفض كالديك المذبوح. هذا هو كل شيء. انزف بقية دمك وأنتهِ.

أحقاً؟ رغم كل شيء ما تزال عندي القوة التي تمكّنني من المطالبة بأملي الأخير. إنني أرفض أن أستسلم قبل الدخول في هذا القَدَر. أريد أن أعرف للمرة الأخيرة، وبكل قواي، مَنْ مِن الاثنين أشدّ ظلماً وقسوة ولا معقولية: أنا أم العالم؟

أريد أن أنتزع الجواب، أن أنتزع الجواب بأسناني. لن أذهب قبل أن أعرف.

ليتك تعلمين كم أنتِ أساسية وخطيرة وحساسة. ليتك تعلمين كم أنتِ حيوية ولا غنى عنك. ليتك تعلمين كم أنتِ كل شيء في صيرورتي. ليتك تعلمين كم أنتِ مسؤولة الآن؟

لو تعلمين إلى أي درجة أنتِ مسؤولة عن مصيري الآن لارتجفتِ من الرعب. لقد اخترتكِ. وأنتِ مسؤولة عني شئتِ أم أبيتِ. لقد وضعتُ لعنتي الحرة عليك.

هل يجب أن أعتذر إليكِ عن هذا الاختيار؟ لا أعتقد. في النهاية، لن تعرفي أجمل من حبي. قد لا أكون واثقاً من شيء ثقتي بهذا الشيء. لا يمكن أن تعرفي أجمل من حبي.

وأنتِ؟ هل أظل أتحدّث إليك دون حوار؟

لا. لا. لا يمكن أن يكون العالم قد أقفر إلى هذا الحد من الحنان. لا يمكن أن يكون العالم قد خلا هكذا دفعة واحدة من الحب.

يمكن؟

فليخلُ. فلينتهِ الحب من الأرض وليذهب الناس إلى الجحيم. سأبقى وحدي أطبع حبّي على الحجارة. سأحب وحدي الموت والأشباح. وسأحب النهار أيضاً. وسأحب انقراض نفسي العاشقة في هذا العالم القبر. وسأحبك. ولن أقول شيئاً غير هذا.

3-4-12-1963

غادة

مر النهار؟ إنما العبرة في الليل. لكن الحقيقة أنني طماع، فلو كان الليل قد مر لكنتُ قلت: مر الليل؟ إنما العبرة في النهار. وإذا كان من حقيقة أخرى (والحقائق تُخترع لتغذية الحديث) فهي أن لا ليل هناك ولا نهار وإنما وقت للمجابهة ووقت للهرب. والمرتاحون هم الذين نظموا هذه المناصفة وجعلوا التعاقب مرتباً. بالنسبة لي، مثلاً، اختلط وقت المجابهة بوقت الهرب فصرتُ أجابه وأهرب في وقت واحد وتفرّع هذا الوقت نفسه إلى أجزاء كل جزء منها يتنازعه الهرب والمجابهة إلخ… وليس صحيحاً أنني أخاف الليل أكثر من النهار وإنما أنا أخاف أن أكون وحدي، معزولاً عما يهمني، عما أهجس به وأحبه ولا أصدقه، مقطوعاً عن العالم الذي أتهمه بأنه يخدعني دائماً وخصوصاً في غيابي. فكم أشتهي أن أُباغت العالم وأفضحه وهو يخدعني، هذا الذي يدعي الإخلاص لي، ويدعي العذاب من أجلي، ويدعي العزلة والوحشة والوفاء!

أهلاً بك يا غادة. الساعة الآن شيء ما بعد نصف الليل، لعلك نائمة.

تُرى ماذا يشغل فكرك الآخر؟ أقصد فكرك المخفي وراء الوجه الآخر للقمر؟ كم أحب أن أعرف ماذا دار وماذا يدور في رأسك! وكم تخطئين في وصف هذه الرغبة بالفضول! لأنها ليست أكثر من شهوة عارمة عظيمة إلى تصفيتك من غربتكِ وضمك إلى قلبي وأفكاري وحياتي. أريد، ولا شيء أكثر الآن، أن أتّحد بك.

هل أمضيتِ نهاراً حلواً أمس؟ وسهرة السبت؟ والدروس، كيف الدروس؟ والكتابة؟ ماذا كتبتِ هذه الأيام؟ لم تُقرئيني شيئاً بعد. كأنك تعتبرين ذلك مُستهلكاً سلفاً، أو سراً بينك وبين نفسك وحدها، أو فضيحة للكتمان.

الكتمان! هذه هي الكلمة. أريد أن أمزق الكتمان عنكِ. لماذا يخيّل إلي أنك تخافين مني؟ أقصد تخافين مني خوف عَدَم الثقة لا خوف الجبن. لماذا؟ هل تعتقدين حقاً أنني شرير ومغامر وممثل أو طالب قصة عابرة؟

هل ضايقك هذا الكلام؟ يجب أن لا تتضايقي. لا أعرف شخصاً سواكِ أتحدث إليه. صرتِ كل شيء. أعرفُكِ وتعرفينني منذ البداية. أنتِ أُختي وحبيبتي. بلى، بلى. محوتُ عن شفتيكِ جلاد الابتسامة الهازئة ونفختُ فيكِ إيماني بكِ. ولا أريد أن أعترف بشيء آخر عدا أنكِ هنا، وأنني هنا، وأننا سنبقى معاً، وأنك ستبكين وتضحكين من قلبك وقلبي، وأن مجهولك أضاء في خلايا كياني وانتشر كماء العشق في أحلامي وبدّد جسورك وجسوري وصرنا نهراً واحداً. ولن أدعكِ تتراجعين. ولن أدعك تتركينني أتراجع. لن أدعك تقترفين الجريمة…

… ثم، لماذا يخيّل إلي أنني، في كل ما أقوله لك، أصرخ في واد؟ وأن حواري معك حوار طرشان؟ وأنك لا تقدرين أهميتك بالنسبة لي؟

هل صحيح هذا؟ يا إلهي! ماذا أفعل!…

* * *

غادة

صدري امتلأ بالدخان. أشعر بحاجة لا توصف، لا يصدقها العقل، إليكِ. أشعر بجوع إلى صدرك. بنهم إلى وجهك ويديكِ ودفئك وفمك وعنقك، إلى عينيك. بنَهَم إليك. أشعر بجوع وحشي إلى أخذك. إلى احتضانك واعتصارك وإعطائك كل ما فيّ من حاجة إلى أخذ الرعشة الإلهية وإعطائها. كياني كله تحفز إليك. إنك تُخيّلين على أفكاري وتلتهمينني. هل أكمل يا غادة؟ هل أكمل محاولة وصف ما بي؟ أم أنك لا تبالين؟ أم أنك ستقولين لي أنك معتادة على هذا الهذيان؟ وأنه هذيان مؤقت؟ وأن الصحو الذي يعقبه يفضحه؟ أم أنك ستظلين تتسلحين بالهدوء والحكمة والصبر والتصبر والانتظار والدرس؟ ألا يكفيك؟ ألا ترين؟ ألا ترين؟ هل صُنعَت عيناك الرائعتان لتكونا رائعتين فقط لمن ينظر إليهما؟

* * *

لا شيء يبرّر عذابي الآن إلا صدقي، إذا سلّمنا أن الصدق لا بد أن يكون دائماً شهيداً.

أنتِ تعتقدين أن التجارب التي مرت بك تضطرك إلى التزام موقف الحَذَر الشديد والحيطة والتنبُّه والشك والرفض والسخرية الذي التزمتِه معي حتى الآن. أنا أفهم تفكيرك جيداً…

ولماذا، لماذا يخيّل إلي أنك تعرفين أنني صادق، ولكنك ترفضين أن تنساقي مع هذه المعرفة؟ ولماذا لماذا لماذا قلتِ لي ذلك المساء أننا لن نلتقي أبداً ولن نفترق أبداً؟ هل تدركين معنى هذا الجزم؟ هل تدركين مدى تأثيره عليّ لو تيقنتُ نهائياً أنه صحيح؟ ألا تعلمين أنني… ألا تعلمين أنكِ، بهذا الحكم الذي يعني أننا كالخطّين المتوازيين كل منا بجانب الآخر وليس لواحد منا أن يصبّ في الآخر – إنك بهذا الحكم تصدرين بحقي حكم الإعدام؟ ألا تعلمين أنني شحنتُ كل قواي من أجل هذا اللقاء؟ وأن عدم تحقّقه سيقتلني؟ أم أنك واثقة من أنه لن يتم؟ لا يا غادة! لستِ واثقة. كنتِ تتكلمين بمعاني الماضي وأنا لستُ ماضيك. إنني أرد ماضيك على أعقابه. أنا لستُ مثل أحد. لا شيء أفعله مثلما يفعلونه. لا أحد يحب مثلي. لا أحد يحب بقوة ما أحب، بجمال ما أحب، بروعة حبّي وعظمته ونقائه. لم يعد غيري من يحب في العالم. كل ما في هذا العصر من رجال، آلات وجلود وأشباه بهائم. وقد يعرفون كل شيء، إلا الحب. وقد يفهمون كل شيء، إلا المرأة. وقد يميتهم ويحييهم أي شيء إلا الحب وامرأة. لستُ مثل أحد. إنني آتٍ من حيث لا وقت إلا للحب، وها أنا أعيش عصري باحتقاره وضربه على نافوخه، فهو عصرُ المعلّبات والخدع الرهيبة، إنه عصرُ زوال الحب. أعيشه؟ بل أعلّقه على الحائط. إنه نملة شاسعة أدوسها كل لحظة لأقطع منها جزءاً. إنني أجملُ وأفضلُ وأعلى من عصري. إن عصري هو عاري. إنه عاهتي ولحمي الميت، وأنا أخجل به وأكرهه وأفلّت عليه أفكاري القاتلة. وأكثر ما يقتل هذا العصر السافل أنني أعرف كيف أحب، وأنني أحب، وأنني لا أكف عن الحب، وأنني لن أكف عن الحب. إنني أعظم مجرم معاصر. صدقيني. ولا أعرف كيف سيكون أو هل سيكون العصر المقبل؟ غير أنني لا أرى سبباً واحداً للتفاؤل. والواقع أن ذلك لا يهمني. إنني أحب لا نكايةً بالعصر وإنما لأنني عاجز عن العكس. إنني أتحمل حبي.
___________
*الحياة

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *