«الجبل الصغير».. بيروت بلا رائحة

*مدحت صفوت

مثلما أدت هزيمة يونيو/حزيران 1967 إلى قطيعة فنية ومعرفية من كُتاب الرواية مع أسس ومعمار الرواية العربية التي انتسبت إلى نجيب محفوظ، أدت الحرب الأهلية اللبنانية «1975-1990» إلى تغيرات كبيرة في الشكل والرؤية التي استقرت في الرواية الكلاسيكية، فجاءت الكتابات الروائية متأملة للحدث الدموي الذي عرى واقعنا العربي، بما فيها أدوات وتقنيات الكتابة السردية.

تتنوع الأعمال الروائية التي تتمحور أحداثها حول الحرب الأهلية اللبنانية، وتتعدد أسماء الكتاب الذين راحوا يتأملون صراعاً دموياً دام أكثر من خمسة عشر عاماً وسبعة شهور، وشاركت فيه الطوائف والإثنيات اللبنانية، فضلاً عن عناصر فلسطينية وسورية وصهيونية. وأبرز هؤلاء الكتاب صنع الله إبراهيم في «بيروت بيروت»، وغادة السمان «كوابيس بيروت»، ورضوى عاشور «الطنطورية»، ولنا عبد الرحمن «أغنية لمارغريت»، وربيع جابر «الاعترافات»، وإلياس خوري في «الجبل الصغير».

خوري، المولود في بيروت «1948»، روائي وكاتب مسرحي وناقد وأستاذ جامعي، له 12 رواية، منها الجبل الصغير، والوجوه البيضاء، وباب الشمس، وترجمت مؤلفاته إلى أكثر من عشر لغات منها العبرية. وشغل مناصب عدة، من بينها رئيس تحرير «مجلة الدراسات الفلسطينية».
تتألف «الجبل الصغير» من خمس قصص، أو لوحات قصصية، تتناول حكايات متباينة تربط بينها مشاهد انفجار الحرب الأهلية، وتأثيراتها في الشخوص والأماكن، وتمثل الحرب نقطة مركزية للنص السردي، التي تلقي بظلالها على كل شيء، فيحتفي الخطاب بالأماكن والأحداث أكثر من احتفائه بالشخوص، ويتصدر المكان المشهد القصصي ويصبح معادلاً موضوعياً لنفسية الشخصيات، وما تمر به من حوادث «عظيمة»، وأبرز هذه الأماكن «الجبل الصغير»، أو الأشرفية، والكنيسة، وساحة الملك.
وتأكيداً لإبراز الأماكن ومركزيتها، يعنون المؤلف لوحاته السردية بعناوين «مكانية» في أغلبها، حيث حملت الفصول/ الحكايات الخمس عناوين «الجبل الصغير»، «الكنيسة»، «الاحتمال الأخير»، «الدرج» و«ساحة الملك». وتبدأ الرواية ب«الجبل الصغير» ممهدة لاندلاع الحرب، ويمستخدم الراوي فيها آليات التذكر للعودة إلى المراحل الطفولية، وكيف سُمي الجبل الصغير بهذا الاسم «يسمونه الجبل الصغير، وكنا نسميه بهذا الاسم، وكان يمتطي الحقول الواسعة، إلى شجيرات الصبير المنتشرة في أنحائه. كانت النخلة التي أمام بيتنا تنحني من ثقل جذعها إلى اليسار، أو كنا نخاف أن تلامس الأرض أو ترتطم بها فاقترحنا ربطها بحبل من حديد، وشدها إلى نافذة بيتنا. لكن المنزل كان يتهاوى بحجره الرملي السميك، وسقفه الخشبي. فخفنا أن تسقط النخلة بالبيت حين تسقط، تركناها تنحني يوماً بعد يوم، وفي كل يوم أمسكها من جذعها المتشقق، وأرسم عليها صورتي». ويتسع المكان وتفاصيله حتى إن كانت محاولات التذكر «غير مجدية» فيقول «تلة واحدة أو مجموعة تلال. لم أعد أذكر، ولم يعد أحد يذكر».

في اللوحة الأولى «الجبل الصغير» يبدو السارد مشغولاً بإبراز محورين رئيسيين، الأول الأشرفية التي تنمو، والآخر الحرب التي تنفجر «جاء خمسة رجال يقفزون من سيارة جيب شبه عسكرية، يحملون البنادق في أيديهم. خمسة رجال يلبسون قبعات كبيرة سوداء. يتدلى من رقابهم صليب أسود كبير الحجم. يطوقون المنزل. يقرعون أجراس الكنائس. ويطرقون الباب. خمسة صلبان طويلة سوداء تتدلى أمام أمي وهي تفتح الباب. تتمتم بعبارات غير مسموعة. تغلق الباب في وجوههم وتبكي. خمسة رجال يكسرون الباب، ويسألون عني. لم أكن هناك. اكتشفوا كتاباً على غلافه الخلفي صورة عبد الناصر. لم أكن هناك. أمي كانت هناك. ترتجف بالحزن والحقد والخوف. أمي كانت هناك. جلست على كرسي في المدخل تحرس بيتها/وهم في الداخل يبحثون عن الفلسطينيين وعبد الناصر والشيوعية الدولية. جلستْ على كرسي في المدخل تحرس بيتها. وهم في الداخل يمزقون الأوراق والذكريات».

يشي المقتبس السابق بنوع من التداخل السردي، وهي تقنية يعتمدها خوري في كتاباته، فيتعدد الرواة، وتختلط الأزمنة، وتتداخل الضمائر، ما يحمل الخطاب الروائي بوجهات نظر متعددة ومتباينة أحياناً، وهو ما دعا إدوارد سعيد في مقدمته للطبعة الإنجليزية للرواية إلى القول «في كتابة إلياس خوري نعثر على إحساس عام باللارسمية. كما أن فرادة روايته المذهلة هي في تجنبها الميلودراما والمألوف؛ فخوري يحْبِك الفصول من غير نسيج أو نسق يمكن التنبؤ به. وتمثل كتابته أيام البحث والتجربة الصعبة التي يُعبَر عنها الآن في المشرق العربي بالانتفاضة الفلسطينية، حيث تتخطى الطاقات الجديدة مستودع العادة والحياة المحلية، وتتفجر عصياناً مدنياً عارماً. خوري، جنباً إلى جنب مع محمود درويش، فنان يعطي صوتاً للمنافي ذات الجذور ولمصيبة اللاجئين الواقعين في الشرك، للحدود المتلاشية والهويات المتغيرة، للمطالب الجذرية وللغات الجديدة. من هذا المنظور يودع إنتاجه نجيب محفوظ وداعاً محتوماً، وإن يكن وداعاً عميق الاحترام».

وبما أن الدين شكل الجانب الأبرز في الصراع اللبناني، فيبدو الجنود كأنهم جنود محاكم تفتيش، ما يعنيهم صورة ناصر أو كتاب شيوعي، ويطاردون منشورات عن إنجازات ستالين والبولشفيك. وهم أيضاً – الجنود – رُسل الكنيسة، التي تبدأ منها الحرب، وليست مجانية أن تحمل اللوحة التي تحكي عن انفجار الصراع عنوان «الكنيسة»، ففي «التاسعة ليلاً، مطر خفيف وأصوات طلقات تقترب كلما اقتربنا. ونحن نركض حذرين، البندقية بيد والحلم بيد أخرى. نقفز وسط شارع طويل اسمه شارع فرنسا، لنصل في نهايته إلى موقعنا الجديد: الكنيسة». وهي الكنيسة ذاتها التي خسرت ملامحها وفقدت رائحة بخورها «المجموعة الثانية تقفز. ظلام، ننتشر، ثم يتقدم الجميع، يوزع آمر الفصيل المجموعات. نغلق المداخل، ننظر من النافذة: ظلام، طلقات، ولا أحد. توزع نوبات الحراسة وتؤمن الكمائن. بطرس يمشي يبحث عن الكنيسة. – نحن في الكنيسة يا بطرس. – لكني لا أرى شيئاً».

لم تعد الكنيسة في الحرب مقراً للصلاة، بل باتت ساحة للصراع وللتقاتل السياسي، ف«المقاعد الخشبية صودر بعضها، جاء كثيرون وملأوا حيطان الكنيسة بالشعارات». وحال بيروت كمصير الكنيسة، كلتاهما في الحرب فقدت رائحتها، ففي «الدرج» لم يعد كامل أبو مهدي يفهم. «أصبح يقول إن الصحف لا لون لها، لكنه يقرأ مثل الجميع، ويستمع مثل الجميع، ويستمع إلى الراديو مثل الجميع. وكانت بيروت تتلألأ مثل سفينة مطفأة الأنوار داخل البحر المظلم. الجميع نائم، هدوء يشبه القبور».. وبعد أن يتوقف إطلاق النار وتعود الكهرباء ومعها يعود الماء لا ينهض أبو مهدي لمساعدة زوجته في تعبئة الأواني، فهو «يريد أن يستمتع بالكهرباء حتى النهاية، يريد أن يشم رائحة بيروت التي قالوا إنها ماتت».

في الحرب، ومع تساوي الأشياء، يظل حلم التطلع إلى الحياة «بؤرة» يتمحور حولها الإنسان، فيتطلع الجميع إلى الغد حتى وإن كان غداً ملطخاً بدماء الأمس، ولأن الواقع مأساوي، والحلم لم يتحقق بعد، تلجأ الشخوص إلى الماضي تلوذ به وتحتمي بالذكريات، ليحكي الراوي في «ساحة الملك» عن صديقه «برجيس بهرا»، وعن حواره مع حبيبته، وعن الحل لعدم تكرار الأزمة «كنا نسير، يدها في يدي، والحزن الذي يصفع وجه المدينة، يصفع وجهينا. وكان الرجل الذي شنقوه حزيناً. في المرة المقبلة يجب ألا نكتفي بسرقة الحبل، بل يجب تمزيقه. في المرة المقبلة يجب ألا نكتفي باحتلال الساحات والأبنية، بل يجب تدميرها. الأساسي أنه يجب أن تكون هناك مرة مقبلة».

______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *