الثقافة السمعية والإعاقة القرائية

خاص- ثقافات

*محمود الباتع

كان لغياب التوثيق الخطي لملحمتي “الإلياذة” و”الأوديسا” أكبر الأثر في إثارة جدل واسع لم يتم حسمه بعد بين مفكري عصر النهضة الأوروبية حول صدقية أصول هاتين المرويتين، ومدى صحةانتسابهما إلى الشاعر الإغريقي “هوميروس”، وقد اعتمد المجادلون في ذلك على ما اعتقدته طائفة منهم من أن “هوميروس” كان شخصاً أمياً لم يكن يعرف القراءة والكتابة حاله كحال معاصريه من قدماء الإغريقيين وفق ما ذهب إليه “جان داك روسو” مثلاً، كون أشعار الملحمتين ذائعتي الصيت ليست سوى جمع لنصوص أو مقتطفات من قصائد تراثية ربما يعود بعضها لـ “هوميروس” في حين  نتج الباقي عن جهد شعبي جماعي على امتداد عصور، فكان أن اختلط بعضها ببعض ضمن الذاكرة الجماعية التي حفظتها كأغنيات ومرويات محكية تواترتها الأجيال تباعاً، ما أدى في كثير من الأحيان إلى تعرضها (أو أجزاء منها) للزيادة أو النقصان إما بفعل النسيان وإما بسبب أعمال الحذف والإضافة تبعا لتبدل الأمزجة مع اختلاف الزمن. وعليه فقد وجب العمل على جمعها وتدوينها كملاحم شعرية بعد مرور نحو خمسمائة عام من إطلاقها.

1540322_10152294501146605_1225997303_o

غير أن هناك من ذهب إلى أبعد من ذلك بحيث أنكرت بعض الآراء وجود الشاعر “هوميروس” أصلاً ناهيك عن أشعاره، ملقين بذلك سحباً من الشك على صدقية نصوص “الإلياذة” و”الأوديسا” كقصائد حقيقية، وقد يرجع ذلك الإنكار إلى أسباب دينية ولاهوتية بذريعة تنافي أو تضارب بعض السياقات الواردة في الملحمتين مع مقتضيات الأنساق الإيمانية التي استجدت حينذاك وقدمت مسوغاً عقائدياً لازدراء تلك النصوص وصاحبها توطئة إلى إنكار وجودها أساساً.

بالإمكان رصد هذا النهج الإنكاري إزاء “هوميروس” وقصائده في أوروبا، في منهجية الدكتور “طه حسين” عندما أنكر وجود الشعر الجاهلي بصورته التي وصلنا عليها، حيث طعن “طه حسين” كما هو معروف في صحة انتساب كثير من ذلك الشعر إلى أسماء شعراء عرفناه نسبته إليهم، مرجعاً هذا الالتباس في النسب إلى ظاهرة الانتحال الشعري التي شاعت إبان العصر الجاهلي، وتسببت في صعوبة إن لم يكن استحالة التحقق من أصالة وصحة نسبة الكثير من الأشعار.

إلى هنا ووفقاً لذلك، فقد ظل مصير الشعر الجاهلي شبيها بمصير الإلياذة والأوديسة من حيث شبهات الحسم (علمياً على الأقل)، رغم أن الباحث الآرامي السوري الجنسية “فاضل مطانيوس مباركة” قد ادعى وصوله إلى القطع بالنفي لوجود أي شعراء عرب في الحقبة الجاهلية، حيث ذهب بعيداً عندما توسع في دائرة النفي والإنكار لتشمل ليس الشعر والشعراء العرب الجاهليين ولكن لتشمل سوق عكاظ هو الآخر، مؤكداً أن أشعار امرئ القيس والخنساء وسواهما ما هي إلا ترجمات ركيكة لقصائد ومراثي آرامية أطلقها مسيحيون آراميون فروا من اضطهاد طغاة اليمن الوثنيين آنذاك، وأن تسمية سوق عكاظ ليست إلا تحريفاً عربياً للاسم الآرامي “عكوس” والذي يعني “الأحزان”.

أيا كان من أمر فإن الأكيد هو أن الأمم لم تكن لتحيا ذكراها بعد اندثار أزمنتها بغير تلك التدوينات التي من شأنها دون غيرها تخليد سيرها وحفظ ما تذكر به من سمات حضارية، وبغير الكتابة لم نكن بالتأكيد لنعرف شيئا عمّن سبقونا شرقاً كان أو غرباً، ولننظر معاً في ما أحدثته تدوينة حجر رشيد في مصر من انقلاب معرفي هائل أدى إلى سبر أغوار الحضارة الفرعونية القديمة والكشف عن الكثير من تفاصيلها يعد أن ظلت لغزاً غامضاً عصياً على الحل لقرون، إلى أن جاء “شامبليون” وتمكن من فك طلاسم اللغة الهيروغليفية نقلاً عن الحجر الرشيدي، فاتحاً الباب واسعاً لاستحداث علم المصريات على اتساعه.

فالكتابة إذن سمة من سمات الأمم المتحضرة ودلالة على مدى رقيها وعلو شأنها، كونها في حد ذاتها مؤشراً على تطور إنساني ما أدى إلى إخراج الكلمة من الفضاء الصوتي العالم المرئي والمحسوس، في حين تشكل الهيمنة الشفاهية علامة بدائية ومؤشراً من مؤشرات الطفولة الحضارية. وفضلاً عن أن كون التوثيق الكتابي ضمانة لحفظ ولاستمرار ثقافة بعينها بعد غياب أهلها، فإنه يتيح مؤهلات الفهم صحيح أو شبه الصحيح عن تلك الثقافة لفائدة كل باحث عن الحقيقة لم يكتب له أن يعاصرها.

فالوثيقة المكتوبة هي سفير ثقافي متجول عبر الزمان والمكان، فإذا كانت آلة “جيمس وات” البخارية قد فجرت الثورة الصناعية الحديثة فإن اختراع “يوهان غوتنبرغ” لآلة الطباعة قد فجر ثورة المعلومات التي أوصلت البشرية إلى هذا الواقع المعلوماتي المذهل، وكانت حدثاً خلق فصلاً جديداً وغير مسبوق من فصول الحضارة الإنسانية. ولكن ما قيمة الكتابة إن لم يكن هناك من يقرأ ؟ وهل كان من الضروري إيراد ما تقدم لبيان  أهمية الفراءة والكتابة لصقل الوعي الفردي والجماعي لدى الجمهور؟

يخلص من هذا إلى أن الثقافة الشفاهية المؤسسة سماعياً ليست إلا تسمية أخرى للبدائية والتخلف، فزيادة عدد المطبوعات في بيئة ما تدل بالضرورة على ارتفاع أعداد القراء، وبالتالي على مستوى الوعي المعرفي واتساع النطاق الإدراكي عند شعب من الشعوب.

تعالوا نتأمل في الأرقام التي تتيحها المصادر المعلوماتية لنلمس مدى عمق واتساع الفجوة المعرفية المخيفة بين العالم العربي والعوالم الأخرى (ولا نخص المتقدمة منها). يكفي أن نعرف كتاباً واحداً يصدر سنوياً لكل اثني عشر ألف مواطن في العالم العربي بأكمله، بينما تصدر بريطانيا وحدها كتاباً لكل خمسمائة مواطن، بما يفيد بأن معدل القراءة عند العرب لا يتجاوز الأربعة في المائة (4%) منها عند الإنكليز. ويكفي أن نعرف أن اسبانيا وحدها تترجم حالياً نجو عشرة آلاف كتاب سنوياً، وهو رقم يكافئ ما ترجم إلى العربية منذ عصر الخليفة المأمون حتى اليوم (!) وبمقاربة بسيطة لقانون العرض والطلب ندرك أن العزوف عن السلعة هو أهم موجيات كسادها.

كثيرة هي عوامل العزوف عن القراءة، بدءاً من  اتساع نطاق الأمية، وصولاً القصور المادي والعجز عن مواكبة تكاليف الطباعة والنشر، وما بينهما من واقع ثقافي مأزوم ينحو بفعل القراءة إلى مصاف الترف والكماليات التي يجدر الاستغناء عنها. وفي الوقت الذي نجحت فيه مجتمعات العالم المتقدم في غرس الثقافة القرائية لدى ناشئتها، نجد أنه وبعد أكثر من قرن على بداية عصر التنوير العربي لا يزال الفرد العربي للأسف خارج نطاق التغطية فيما يخص هذه القضية، ليس فقط بسبب ذلك العدد الصادم من الأميين العرب ولا بفعل القصور المادي لدى شرائح واسعة من المجتمعات العربية، ولكن حتى بين من أفاء الله عليهم بكلتا الحسنيين العلم والغنى، تجد أن ارتكاب جنحة القراءة على الأغلب هو عمل من لا عمل له، حيث لا يقدم عليه إلا عاطل أو مريض، وحتى هذا فإن قراءاته غالباً ما تقف عند بعض عناوين الجرائد والمجلات جل محتواها مواد ترفيهية بغرض قتل الوقت، وبالرغم هذا الكم من الكتاب والمواد المكتوبة والذي قد يظنه البعض كبيراً، إلا أن سوق الكلمة المكتوبة لا يزال يعاني كساداً كبيراً، بينما يستحوذ المرئي والمسموع على متابعة معظم الجمهور، وعلى ما يبدو أن زمن الخطب وحواديت الحكواتي قد استوطنت الجينات العربية وعششت في وجدان أمة اقرأ، فنشأت على ذلك أجيال من السمّيعة ممن يجيدون التمييز تماماً بين صوت الفرس وصوت الحصان، بينما تختلط عليهم ألوان الحمائم والغربان، وعليه فإن الإقبال الطاغي على برامج التوك شو” التماساً للمعرفة على حساب الكتب والمطبوعات ليس إلا ظاهرة مرضية ترسخ الإعاقة القرائية وتحول دون ولادة عماد فكري حقيقي للشخصية الواعية التي نريد.

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *