عَصرُ المَّوت المَّنقول

خاص- ثقافات

*سيومي خليل

وَجه الريمُوند كنْترول إلى أَي قَناة إخبارية ، وخُّذ صحنَا من الفُّشار ، أَو الفَواكه الجَّافة ، و اكتفي بكأس شَاي سَاخن ، أَو قَهوة سوداء ، واستمتع ، فَلم يَعد هُنَاك فَرق بَين قَنَاة إخبَارية تبثُّ آخر الإنفجَارات ، والأَشلاء ، والجثث ، ويَين قَناة َتبث الأفلام الرُّومانسية ،وقَنوات الطرب والأغاني المُّملة، وقنوات الرياضة ، والقنوات البورنوغرافية .
مَاذا وَقَع ؟؟؟؟
مَا الذي جعل المُّشَاهد يَتفاعل بهذا الغباء الشَّديد ، وهَذا الجفاف مَع مشاهد العنف ،والمَوت التي تحدث في العَالم ؟؟؟
في المقهَى يُمكنك أن تَجد أعينَ الكَثيرين تُشَاهد لقطة حمل أشلاَء صبي ، و لقطَة تَفجير موكب من العُّباد ،ولقطة تفجير مسرح كان قد شهد للتو حماسة الحيَاة… دُون أن تَشعر بالفعل أن الأعين تُشاهد هَذه اللقطات ، فلاَ انفعال يحدث على الإطلاَق ،عَكس ما يُمكن انْ تُشاهده من انفعال نَتيجة تَسجيل هَدف مِنْ قدم ميسي أو رُولاندو، أَو لمصَارعي كَاتش وهما يَضربان بعضَهما بعضا … يَظل المُّشاهد مُراقبا لمشهد الموت دوُن أن يَعيش المشهد على الإطلاق ، يَستمر في تحديقه ، وحديثه مَعَ صاحبه ، وأحيانَا يَضحك ملء شَدقيه عَلَى نُّكتة سَمجة سمعهَا مِن صَديقه . يَنتقَل الخَبر إلى مَشْهد عُنف آخر ، ونَتَوقع أنَّ تَراكم المّوت المنقول على الشَّاشة يُمكنه أَنْ يُحول من المُشاهد إلى مُنفعل ، لكن هَذا ما لاَ يحدثُ على الإطلاق .
إنَّ ما وقع هو تَحويل الموت من أَمر هَامشي وإنْ كانَ يَوميا ويَديهيا إلى حَالَة مَركَزية ، بَل حَالة منقولَة كَأي بضاعَة يتم استيرادهَا ،وكأي اشهار يَجوبُ العالم في نفس اللحظة .
هنا يُمكنني أَنْ أتَسَاءَل :
ألم يَصر التَّفاعل مع الإشهَار حول معجون الأسنَان مثلا هُو نَفسه أو دونه التَّفاعل مَع أخبار الموت المنقول ؟؟؟؟
في بغداد والمَوصل ، والرقة ، وباريس ، وتُونس العاصمة ، ومالي …لا يُحدث الخَبر القادم من شوارعها ، وحافلاتها ، ومَسَارحها ،أَي فَارق في قيمَة الموت ، فما يُزعجنا أكثَر لَيسَ هُو المَوت المُّفاجئ والعنيف ،بل هُو ضَربة دَاعش تحديدا ، هو الهُّجوم نَفسه ، لذَا يتَمَّ نسيان بشكل سريع جدا الأَموات ، وتَحويلهم إلى مُّجرد أَرقام ، وأَحيانا يَتم نسيان الأرقام ، ومُنَاقََشة سياسات داعش ، وتجلياتها وأسبابها .
لنَصطلح عَلى الأَمر حَالة تَنميط الإحسَاس بالموت ، فمثلمَا نجح الإعلاَم في تنمط الذَّائقة المُّوسيقية ، والفنية ، ومثلما جعل الرّداءة أمرا غير مستهجن ،وفَرض على الجميع قبول فَن مخصُوص ودُون المستوى ، فَقد نجح أيضا في جعل حَالات المَّوت الجماعي ، وصور الجثَث المَّرمية على أرصفة الطرق ، وعَلى مَقاعد الحافلات ، خالية من كل دلالة إيثيقية ، واكتفى بأَن جَعلها سلسلة من صور ولقطات الأخبَار التي على الصَّحفي أن ينقُلها للمُّشاهد .
تصير اللقطات النَّاقلة للموت خالية من أَي دَعوة للتأسي والتَّأسف ، وليس فيها أي تَلميح عَن ضرورة التذمر للإنهيار الذي يَذهب إليه الإنْسَان ، إنَّها تدرج كأي لقطات استطيقية آخرى ، إنَّها تَصيرُ بِفعل التَّنميط الذِّهني لمن يَتَلقاها شبيهة بلقطات فنية وجمَالية ليس فيهَا أي إشَارة للمَوت ، فمادَام المُّتلقي قدْ تَلقى مَجموعة من اللقطات والصُّور في ظَرف وجيز ، والتي تَحمل المعنَى ونَقسه ، فَهو لا شَّك ، وبَعد مدة إدمَان علَى المشَّاهدة ، سَيَتعامل معها بنفس الإحساس كأنَّها صُّور من نفس الدلالَة ،وأَكيد أنَّه لن يفَكر في التَّوقف عن لحظات القَتل المَّجاني التي تقوم بها السَّحَالي ضد الإنسان ،فالإنسَان يحاول ما أمكنهَ أن يَبتعد عمَّا يشعره بالألم .
الأَكيد أَنَّ اعادة بَث لقَطات المَّوت المنقُول بِشَكل مّتَسارع جعَلت الموت بدُون أَي دَلالة ، ولا يحمل أي إدانة لوجودنا، لكن الخَوف ، هُو أن تَستَنفذ هَذه الصّور والفيديوهات ما نحمله من مشَاعر ، وتُفرغ دلالة الموت ، ودلالة الضحة / الميت ، ولا تبقى إلاّ دلالة المجرم / القاتل ، كداعش ، وباقي الخفافش

 

شاهد أيضاً

رِسَالةُ ودٍّ إلى شَاعِرٍ صَديقٍ وَدُود

(ثقافات)   رِسَالةُ ودٍّ إلى شَاعِرٍ صَديقٍ وَدُود د. محمّد محمّد الخطّابي *   أيها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *