مرايا الزمن القاسمي

خاص- ثقافات

تحتمل مفارقات وغرائبية الحكم القاسمي في العراق الخروج من كتب التاريخ والسياسة المثقلة بنظرية المؤامرة واجتهادات حل ألغاز واحدة من أكثر مراحل التاريخ الحديث تأرجحا  إلى رحابة فضاءات الرواية.

 ففي استعادة أحداث ذلك الزمن وتفاصيل حياة الذين عاشوه بأعمال روائية تحفيز للخيال واقتراب من أجواء إثارة والتقاط دلالات تغيب في العادة عن مناخات التنظير والرصانة العلمية المفترضة.

قد تكون رواية الكاتب التشيلي خوسيه ميجيل باراس “بريد بغداد” ذات الجرعة العالية من السخرية  الأكثر حضورا بين الأعمال التي تناولت تلك المرحلة الجدلية من تاريخ دائم التقلبات.

من خلال رسائل “هويركيو” الفنان التشكيلي التشيلي الذي ينتمي لأقلية المابوتشي ويعيش في العراق يمعن  باراس الحائز على أرفع الجوائز الأدبية في بلاده في رسم صورة كاريكاتورية للقاء وحيد مع عبدالكريم قاسم كان كافيا لتأطير حالة الارتباك التي يمر بها ذلك النظام وتحديد النقطة التي يمكن من خلالها التشعب في تفاصيل تغطي القضايا المفصلية أو ما يصفه الروائي بالعملية الهائلة من التناقضات.

تتسع عوالم الرواية التي تحاول  الربط بين إطاحة أوغستو بينوشيت بحكم سلفادور الليندي وإعدام عبدالكريم قاسم في مقر الإذاعة لمجمل هذه التناقضات بدءا بترنح العلاقة الملتبسة مع الشيوعيين بين التحالف والشروع بحملة اغتيالات وفشل الإصلاح الزراعي الذي يجد مظاهره في هروب الفلاحين من رصاص الحاميات العسكرية للنوم في شوارع بغداد والأساليب المتبعة في إعادة الإعمار مرورا بمنعطفات المسألة الكردية التي يتعاطف معها الرسام “هويركيو” وتبتلعه في نهاية المطاف.

لدى توقفها عند الزمن القاسمي لا تبتعد رواية العراقي جنان جاسم حلاوي “أماكن حارة” عن أجواء محاولة ضبط عناصر معادلة السخرية المريرة والنقد الحاد والاحتفاظ بنبض المعاناة الإنسانية التي بقيت هاجس خوسيه ميجيل باراس وهو يفرد رسائل المختفي “هويركيو” ويتقصى عنه في بريد بغداد.

يبدأ تقويم نهاية العهد الملكي وبداية الزمن القاسمي في رواية حلاوي التي تؤرخ لتحولات السياسة والمجتمع العراقيين منذ الحكم العثماني بمظاهر السحل في شوارع  البصرة التي حولتها الأحداث إلى مسرح للكوميديا السوداء.

في هذه الأجواء تتعدد التقاطات شخصيات الرواية وردود أفعالها ليلتقي رعب مريم بعد أن شاهدت الهراوات والمطارق تهوي على جثة المسحول مع سخرية ابنها بدر من الناس والحوادث وتعامل ابنتها سلمي مع المظاهرات باعتبارها مادة للفرجة والتسلية.

خلال وصفها لمظاهر الحياة اليومية تشير الرواية إلى تظاهرات صاخبة كل صباح تهتف “ماكو زعيم الا كريم” وزعيق الجنود الثائرين “المخبولين” بخطابات زعيم البلاد الأوحد الزاعق بالويل والثبور والجثث المعلقة على أعمدة الكهرباء .

إظهار الولاء للزعيم الأوحد لم يقتصر على المشاركة في التظاهرات فقد ظهرت أشكال أخرى من الطقوس والاستعراضات بينها ارتداء مدراء الدوائر الحكومية ربطات عنق حمراء وإبراز مؤلفات لينين على مكاتبهم للتماهي مع العهد الجديد.

النزعات الثأرية كانت حاضرة أيضا في الزمن القاسمي حيث تم طرد المعلم حمدان من وظيفته لتخليه عن الحزب الشيوعي حين كان معتقلا في زمن العهد الملكي الذي كان يلاحق الشيوعيين.

ويسدل الراوي الستار على الزمن القاسمي بالتقاط أوجه شبه نهايته مع طريقة وصوله للسلطة  حيث مارس انقلابيو عام 1963 أساليب أكثر دموية وعنفا حين استولوا على الحكم.

في روايته غير الخيالية “نص اللاجئ” يقرأ الروائي الفلسطيني محمد الاسعد مفارقات الزمن القاسمي من زوايا رؤية اللاجئين الفلسطينيين الذين جاءت بهم شاحنات الجيش العراقي من بلادهم إلى العراق بعد النكبة الأولى.

يتناول الأسعد في روايته تضخم حضور ” الزعيم ” في ذهنية عامة العراقيين  حيث تستغرب إحدى الجارات عدم وجود صور لعبد الكريم قاسم على جدران الغرف التي كان يسكنها لاجئون فلسطينيون.

التعليقات التي تدلل على تعلق العامة بالزعيم الأوحد ومن بينها تعليق الجارة اوصلت الراوي لاعتقاد بان انصار قاسم من العامة يعتقدون بان زعامة الزعيم لا تقتصر على العراقيين وحدهم فهو زعيم للاجئين أيضا وربما لكل الكون لكن هذا الاعتقاد لم يكن صحيحا بأي حال من الأحوال لا سيما وأن غالبية اللاجئين الفلسطينيين في العراق كانت ترى في الوحدة مع مصر الناصرية ضمانة لاستعادة فلسطين.

كان لغياب الثقة بين أنصار الزعيم واللاجئين تبعاته وإفرازاته التي ألقت بظلالها على علاقة الطرفين ببعضهما حيث كان اللاجئ الفلسطيني يتجنب الأماكن العامة كي لا يصطدم بالمجاميع المتحمسة لقاسم وانقلابه واضطر اللاجئون الفلسطينيون للاختباء في بيوتهم بعد تعرض  قاسم لمحاولة اغتيال عام 1959 لا سيما وأن الشائعات التي جرى تداولها في ذلك الوقت تفيد بأن الفلسطينيين كانوا وراء المحاولة .

بعد وصفه لمشهد “السحل” الذي كانت تنفذه حشود الغوغاء المدججة بالسكاكين والحبال يحاول الأسعد تحديد الاسباب التي تدفع انصار الزعيم لممارسة العنف ويصل إلى أن الضربات التي كان يضربها هؤلاء الصارخين أو المزمجرين تعبر عن رغبة في الانتقام لجراح عميقة ربما أصابتهم في زمان ما ومكان آخر وعلى يد آخرين.

ويجد الراوي في ذلك مقدمة مناسبة للحديث حول ظاهرة “الشقاوات” في الأحزاب العراقية  التي ارتبطت بداياتها بتاريخ ما بعد تموز 1958 لتفرخ ظواهر شبيهة في بلاد عربية أخرى أخذت تسميات “الزعران” و “الفتوات” و “القبضايات” الذين استطاع بعضهم التسلل إلى واجهة بعض الأحزاب العربية.

لا يبتعد الروائي الكويتي اسماعيل فهد اسماعيل عن هذه الأجواء وهو يتناول في روايته “يحدث أمس” التجاوزات التي كان يمارسها تشكيل “أمن الثورة” غداة انقلاب عبدالكريم قاسم على العهد الملكي.

فقد دخل الراوي إلى تفاصيل المرحلة التي تحول فيها الشعب العراقي إلى “كافل” و “مكفول” من خلال بطله سليمان يوسف الذي يتم اعتقاله على الشبهة خلال عودته  من الكويت إلى قريته الواقعة في محيط البصرة ويبقى معتقلا لمدة عام دون معرفة تهمته أو جهة اعتقاله.

تاخذ غرائبية تلك المرحلة عددا من المظاهر في الرواية حيث تتسع المسافة بين الوقائع وكيفية تفسيرها ويطفو على السطح الفشل في إيجاد الحد الأدنى من لغة الحوار بين المعتقل ومعتقليه وتتحول القسوة والكراهية العمياء إلى سؤال معلق وتظهر الحاجة إلى السلوك غير المعقول للتعامل مع حالة اللامعقول.

 عوالم الغرابة تكتمل بفيض من التفاصيل حيث يتحول المقامر الهارب من التجنيد إلى بطل ثوري وسرعان ما ينتهي به الحال إلى الاعدام ويتم ترفيع الراسبين في المدارس لتوكل اليهم مهمة التدريس وتجمع احدى الشخصيات بين التبعيتين الايرانية والعراقية في زمن العداء بين البلدين.

حافظ اكتمال الشرط الإنساني في الكتابات الروائية التي تناولت الزمن القاسمي من زوايا معاناة الناس وانفاعالاتهم على إيقاع الحياة و توسع الفضاء الزمني الذي لم يتجاوز خمسة أعوام من صخب الصراع على السلطة، وساهم في تفكيك شيفرات التباسات تلك المرحلة التي اختلف حولها الكتاب واختلطت على أجيال من القراء، لتعود إلى الأذهان مقولات يعتقد أصحابها بجدوى قراءة الرواية للتعرف على ما لم يتم تدوينه في كتب التاريخ.

____

  • كاتب من الأردن

 

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *