التفكير الثقافي خارج أفق الانتظار

*محمد العباس

منذ أن أُعلن عن تأسيس الهيئة العامة للثقافة في السعودية، بمرسوم ملكي في السابع من مايو/أيار لهذا العام، ضمن مشروع رؤية 2030 بدأ المثقفون يفكرون في شكلها وإدارتها وصلاحياتها ومفاعيلها.
ليس كل المثقفين بطبيعة الحال، بل تلك الفئة التي تعودت الانتظار، الفئة التي لا تفرق ما بين مهمة المثقف المتمثلة في إنتاج الخطابات وتحريك القضايا وتوليد المعاني، وبين واجب المؤسسة في تجهيز المباني وإعداد الهياكل والتشريعات، وهكذا أضيفت حالة انتظار أخرى في قائمة الانتظارات الطويلة والمزمنة التي يصطف المثقفون فيها ترقباً لما ستجود به المؤسسة، فهم ما زالوا ينتظرون انتهاء حالة التمديد لمجالس الأندية الأدبية وتفعيل ملف الانتخابات، أو تحويل كل الهياكل الأدبية والفنية إلى مراكز ثقافية.
وما زالوا يحلمون بمجلس أعلى للثقافة بموجب الوعود الإعلامية المتكررة، كما يترقبون اللحظة التي يُسمح فيها بتشكيل رابطة أو اتحاد للكُتّاب لإدارة الشأن الثقافي وتمثّل الحضور في اتحاد الكُتّاب العرب.
هذا هو مختصر العلاقة بين المثقف والمؤسسة الثقافية في السعودية، فهو تاريخ طويل من الانتظارات، وهذا هو ما يفسر تبرمهم الدائم من كون الثقافة مجرد حالة هامشية مستلحقة بوزارة الإعلام، حيث اعتاد المثقفون أن تخطط المؤسسة، لدرجة أن بعضهم تماهى مع الطريقة التي تفكر بها المؤسسة، فصار يهاجم النخب بلا هوادة ويطالب بفتح المجال للشباب، وهو ما يعني طرد أصحاب الخبرة والمعرفة من موقع صنع القرار الثقافي، وتسليم مقاليد الثقافة إلى فصيل من الهواة الذين يجيدون التعامل مع شكل الثقافة، ولا يتقنون التماس مع جوهرها. كما يأتي ذلك الاستبدال الثقافي على إيقاع هجوم مبرمج وكاسح ضد الليبرالية، باعتبارها أحد الشرور التي تحذر منها المؤسسة التعليمية وتحاربها المنابر الدينية، وستكمل المؤسسة الثقافية الإجهاز عليها من خلال مثقفين لا تفصلهم أي مسافة فكرية أو جمالية عن المؤسسة.
تفترض رؤية 2030 تأسيس عشرات المنظمات غير الربحية، بما في ذلك التجمعات المعنية بالشأن الثقافي، ولكن حتى هذه اللحظة لا توجد أي خطوة في هذا الاتجاه، وتلك نتيجة طبيعية متأتية من قناعة المثقفين بأن التشريعات والقوانين المتعلقة بإنشاء الروابط والاتحادات لن تقر في المنظور القريب، وأن لجنة الشؤون الثقافية في مجلس الشورى ليست في وارد التسريع بسد هذه الثغرة التشريعية، وبمقتضى ذلك الجمود التشريعي يفضل معظم المثقفين انتظار اللحظة التي ستعلن فيها المؤسسة عن تصورها الجديد للثقافة، خصوصاً أن الوعود هذه المرة تأتي ضمن خطة بعيدة المدى، ولا يمكن لها أن تتحقق على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، بدون أن يكون لها مهادها على المستوى الثقافي، الكفيل بالتعامل مع فكرة إعادة تأهيل الإنسان.
فترة الانتظار السلبي هذه التي تعيشها النخب، بالإضافة إلى انصراف المؤسسة الثقافية عن استشارتهم، دفعتهم إلى مغادرة مواقعهم التنظيرية المتمثلة في إنتاج الخطاب، باتجاه مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تُلاحظ تلك الهجرة الجماعية من مختبرات الثقافة ومراكز إنتاج المعرفة إلى محرقة المناوشات اليومية في مواقع التواصل الاجتماعي، المحروثة بقضايا هامشية مدّبرة، المزدحمة بمخلوقات لا تتحدث بعبارات وأفكار ثقافية بقدر ما تحضر مدفوعة بحسّها التبسيطي للوجود، ونعراتها العنصرية والطائفية، حيث صار المثقف ضحية خياراته الجماهيرية السهلة، وبالتالي فقد لياقة التفكير خارج مبتغيات القارئ النسقي المقيم داخل غرائزه.
يتحدث المتفائلون عن خطة ذكية لتطوير أداء الوزارة من حيث تحويل التراخيص والطلبات إلى نظام الخدمات والتطبيقات الإلكترونية، حيث ستشكل تلك الإجراءات نقلة نوعية في أداء المؤسسة، كما ستسمح الخطة باستخراج تراخيص المطبوعات والنشر بسرعة قياسية دون الاضطرار إلى مراجعة المكاتب، كاستجابة لمتطلبات الحكومة الإلكترونية، وهذه إجراءات مبشّرة وواعدة، ولكن لا أحد يتحدث عن الثقافة ذاتها، أي طبيعة الفكر الذي يُراد له أن يحضر ضمن هذه الرؤية التي تشكل الثقافة ركيزتها الأساسية، خصوصاً أنها – أي هيئة الثقافة – تنطرح كتوأمة لهيئة الترفيه، في ما يشبه التلازم البنيوي بين الهيئتين، وهو طرح يعد بحالة استبدال ثقافي أشبه ما تكون بالانقلاب بعد عقود من الجمود والمحرمات والتحفظات.
هناك حالة من التململ والارتباك وعدم الحماس والتردد إزاء ما يمكن أن تكون عليه هيئة الثقافة، إذ يمكن أن تكون من نصيب مجموعة من البيروقراطيين والمنتفعين، أو قد تسلّم إلى مجموعة من نجوم الميديا الذين تراهن المؤسسة على جماهيريتهم، وربما يُعاد إنتاج بعض الوجوه التقليدية التي لا تبتعد عن مرئيات المؤسسة بأي مسافة، وبالتالي يتم استبعاد الخبراء المجددين في الشأن الثقافي، وهو خوف له ما يبرره، حيث لم تتطابق وعود المؤسسة مع ما يتوق إليه المثقف في أي مرحلة من المراحل، وكل حالات الانتظار السابقة أكدت للمثقفين بأنهم خارج ما تفكر فيه المؤسسة وما تريده، مع قناعة أكيدة عند الجميع بأن خطاب الظل على درجة من الضعف والبهوت مقارنة بما تؤديه المؤسسة.
هكذا صار الانتظار حالة مرضية مزمنة، إذ لم تتجرأ حتى الآن، بل لم تفكر أي جهة بتقديم طروحاتها حول ما ينبغي، أو ما يمكن أن تكون عليه هيئة الثقافة، لا الأندية الأدبية جادلت الفكرة ولا جمعيات الثقافة والفنون ولا الجامعات ولا الصالونات والملتقيات الأهلية، لأن لا أحد من كل تلك المنابر يمتلك التصور الممكن لتشكّلها ووظائفها، أو ربما بسبب رسوخ الرأي بأنه لن يُسمح لأي جهة بالتفكير في هذا الموضوع الحيوي، وكل ما يمتلكه كل هؤلاء هو الانتظار، انتظار الإعلان عن شكل ومضمون وهيكليات ومقاصد الهيئة، لأن المؤسسة الثقافية لم ترسل أي إشارة باتجاه تحفيز المثقفين على التفكير معها في هذا الشأن، لأنها لا تريد أن تُشركهم فيه، فهم خارج وعيها.
هناك مسافة شاسعة ما بين لحظة الإعلان عن تشكيل الأندية الأدبية قبل أربعة عقود، وهذه اللحظة المزدحمة بالمتغيرات الثقافية والحضارية والاجتماعية والتاريخية، وهي مساحة وعي ينبغي أن تؤخذ في الحسبان، ليس من قبل المؤسسة التي تحتكر التخطيط الثقافي وحسب، بل من قبل المثقف أيضاً، الذي ينبغي عليه أن يتخلى عن سلبيته ويطرح ما يؤكد قدرته على التفكير والتخطيط والاستعداد لمرحلة لا يكون فيها الانتظار هو قدره ومنتهاه الثقافي، أي أن يعود كل مثقف إلى قواعده الفكرية ولا ينساق إلى ما تطالبه به قواعده الجماهيرية، وهو أمر ممكن بالنظر إلى ظهور جيل متخفف من الوصايا، وعلى درجة من التواصل مع العالم الجديد، وهو جيل قادر على تفسير ما يعنيه رئيس مجلس إدارة الهيئة الوزير عادل الطريفي بقوله «إن إنشاء الهيئة العامة للثقافة سيمنح العمل الثقافي والأدبي والفني مزيدا من الحضور الوطني والعربي والدولي» أي تقديم الآليات والهياكل والمقاصد والاستراتيجيات الكفيلة بإنعاش الثقافة وذلك خارج أفق الانتظار.
___
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *