الكتابة الشبحية

*أمير تاج السر

■ منذ حوالي ستة عشر عاما تقريبا، كتب أحد كتاب القصة المخضرمين عن رواية لي، من نصوص البدايات التي كنت أكتبها وأنا أرتدي عباءة الشعر ما أزال، وتبدو أشبه بالقصائد الطــــــويلة، أن هذه رواية شـــبح، لا تمسك بمعالم سردية لها، وتعطي أضـــواء متقطـــــعة، لكن لا وجود لأي ضوء فعلي، وأولى بكاتبها أن يمارس مهنته التي درسها، بدلا من غزو عوالم لا يعرف كيفية غزوها.
أذكر جيدا، أن هذه الفقرة كانت من الفقرات المؤلمة في مسيرتي التي كانت في بدايتها فعلا، لكن أتطلع بشغف لأمضي وألتقط في كل يوم عصا جديدة أتوكأ عليها، وأحيانا أحس بأنني لا أحتاج لعصي، فأسرع في الخطى. هكذا قرأت مقال القاص المخضرم باهتمام كبير وألم، أخبرت أصدقاء عديدين يتابعونني عنه، وودت لو أنه كان إيجابيا، أو فيه فقرة إيجابية على الأقل، لكنت حسنت وضعي السردي بلا شك، وتساءلت بعد ذلك بيني وبين نفسي:
ما هي شروط الكتابة التي لا تغدو كتابة شبحية؟ كيف يمكن أن تعاد الثقة لقلم كان يظن نفسه متميزا، والآن لا شيء؟
في الحقيقة، ظللت سنوات لا أستطيع العثور على إجابة ما، فكل من يكتب نصا، يبذل فيه مجهودا كبيرا، ويملأه بالأحداث والشخصيات، والحيل، يظن بأنه كتب نصا كاملا أو يقترب من الكمال، بينما نصوص الآخرين ما هي إلا خطرفات، أو كتابات نيئة، بحاجة لمزيد من النار حتى تنضج، وربما لو جئت بنص قديم لكاتب ما، نسيه ونسبته لآخر، وسألته عن رأيه، لاستغرب أن تكون هذه كتابة، ولانتقدها بشدة.
وكنا نجلس في المقاهي، ونتحدث عن الإبداع والمبدعين، ويدعي معظم من كانوا جالسين بأنهم أهم المبدعين، وتسأل أحدهم عن تجربته، فتستمع إلى أشياء مدهشة عن قراءاته، ومطاردته للجمل الموحية، والسهر وتأرجح النوم، من أجل أن ينجز نصه هذا، وتقرأ النص ولا تجد فيه أكثر من نص عادي، كان يمكن أن يكتب بلا سهر وحمى وثقافة، وأي شيء آخر له علاقة بالإبداع، ويصادف كثيرا أن يتحدثوا عن كتب معينة، نالت حظا من الشهرة والمجد، باعتبارها كتبا سخيفة، ولا تستحق، وأخرى لم تنل حظا ولن تناله، باعتبارها أعظم الإنجازات في مجال الإبداع.
أنا كنت متأثرا بتلك الأجواء آنذاك، واعتدت على الصداقات التي كانت تشجع السير في الدرب، من دون أن تضيء مصباحا، أو تمنح حذاء يرتديه سالك الدرب، وكانت في حوزتي مقالات شتى عن تلك الرواية بالذات، كتبها أشخاص أعرفهم، تحدثت عنها بإيجابية. ورأي من كاتب رحل الآن، كنت صادقته في بداياتي، يقول بأنها من أعظم الأعمال، لكن في الحقيقة، كان كل ما كتب يحوم حول النص من بعيد، ولا يقترب منه، بمعنى ألا أحد تحدث عن بناء الرواية، وتسلسل حكايتها، وشخوصها أبدا، وهنا تكمن الشبحية التي فر من ذكرها الأصدقاء، وجاء من يؤطرها، ويصيبني بالألم، ولكن ليؤكد حقيقة، أن على الكاتب المبتدئ، أن يظل مبتدئا لزمن طويل، قبل أن يضع ساقا على ساق في المقاهي، والتجمعات الثقافية، ويتحدث عن تجربته، قبل أن يسافر ويجيء، ويبتسم بعمق، ويكتب عن تجارب الآخرين، وينصح هذا بالالتفات إلى نقص ما، وآخر، بالاختزال في الكتابة، وعدم الحشو والإطالة.. هكذا.
تلك الأيام، بحثت عن قصص الكاتب المخضرم الذي ظننته أساء لروايتي، وشكوته لطوب الأرض، قرأتها بعمق واكتشفت بأنه كاتب حقيقي، له وزن في الكتابة الإبداعية، على الرغم من أنه لم ينل شهرة كبرى، ولا أعتقد أنه كان أصلا مهتما بالشهرة، وهناك كثيرون كتبوا نصوصا غاية في العذوبة والتميز، ولم يسعوا للشهرة، وقطعا أداروا وجوههم عن أي غزل من شهرة كانت تريدهم.
أعدت قراءة روايتي الشبحية، وفوجئت بأنني كتبت قصيدة ملحمية، غاصة بالجمل القصيرة الموحية، والعبارات شبه الموزونة عروضيا، وأن هناك حكايات كثيرة داخل النص، لكنها أخفقت في أن ترتبط ببعضها بعضا وتكون حكاية واحدة، يخرج منها القارئ ظافرا ويحكيها لغيره، أو ربما يصفها لآخرين ويشجعهم على قراءة الرواية. اكتشفت أن الغرائبية التي ما زلت أكتب بها حتى الآن، كانت قد ولدت في ذلك النص، لكنها ما تزال بحاجة لتربية، حتى تخرج من حيز الطفولة لحيز النضج. باختصار أعدت القراءة مرات، وكانت روايتي شبحية بالفعل، ولو وضعت في ميدان السرد، فلن يلتفت إليها إلا الشعراء وقراء الشعر الذين قد تعجبهم جملة هنا وصورة شعرية هناك، وسط ذلك المكان الغاص بالحكايات غير المترابطة.
ابتهجت كثيرا حين اكتشفت كل ذلك، وبدأت في التأقلم على كوني كاتبا مبتدئا حتى إشعار آخر، لم أكتب لسنوات بعد ذلك، وكثفت من قراءاتي بصورة كبيرة، بحيث غدا سريري مكتبة، وعربتي مكتبة، وكل ما حولي يبدو كتابا بحاجة لمطالعته. أردت أن أنتفض من رماد الشعر، أنزع عباءته التي أرتديها منذ تعلمت القراءة والكتابة، وأغرب شيء أنني لم أحبط، أي لم أنسق لعبارة: «الاكتفاء بما درسه، والخروج من عوالم لا يعرفها»، لقد أردت معرفة تلك العوالم.
تذكرت تلك القصة عن الرواية الشبحية، ووهم البدايات، فقط حين أبديت ملاحظات لكاتب مبتدئ، عن نص أرسله لي وأصر على أن أكتب ملاحظاتي، ولم تعجبه تلك الملاحظات، كان غاضبا، وكنت في قمة المرح وأخبرته بأنني تزحزحت قليلا عن مقعد البدايات، الذي فصله لي كاتب مخضرم منذ زمن، وعليه أن يجلس على ذلك المقعد زمنا، إن أراد أن يتزحزح يوما، ثم سألته فجأة: هل قرأت لي شيئا؟
قال: لا.. كنت بصدد القراءة لك، والآن لن أفعل.
هذا بالضبط عكس ما فعلته، حين قرأت عن شبحية نصي، لأبحث عن كتابات من انتقدني، وكنت أتمنى لو فعل طالب النصح مثلما فعلت.

_____
*القدس العربي

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *