كاسترو والأدباء… سلطة الثقافة وثقافة السلطة

*محمد حجيري

في أكثر من مناسبة، قال الزعيم الكوبي الراحل فيدل كاسترو إنه تأثر برواية “لمن تقرع الأجراس” للكاتب الأميركي إرنست همنغواي وأُغرم بها، أيام كان ثائراً شاباً في معاقل المتمردين ضد نظام باتيستا. (رواية همنغواي، تأخذنا إلى إسبانيا بدايات القرن المنصرم لنعيش فيها ويلات الحرب الأهلية ونذوق مراراتها، التي امتدت لأكثر من ثلاث سنوات انقسم فيها الشعب الإسباني إلى معسكرين أساسين المعسكر القومي والمعسكر الجمهوري وذلك بعد الإنقلاب الذي قام به القوميون على الجمهوريين وانتهى الصراع إلى فوز القوميين بقيادة الجنرال فرانكو وبدء عهد دكتاتوريته).

435 (3)

همنغواي كان صديقاً لكاسترو الذي اهداه منزلاً في هافانا، غادر همنغواي كوبا بعد عام واحد من قيام الثورة الكاستروية- الغيفارية(1959)، وانتحر بعدها بأقل من عامين. لم يجاهر همنغواي بعد الثورة بتأييده لكاسترو، إلا أنه لم يتردّد في إطلاق تصريحات صحافية نارية وصف فيها الديكتاتور باتيستا بـ”ابن الزانية”. همنغواي ليس الا واحداً من الكثيرين الذين صنع كاسترو جزءاً من “اسطورته” من خلال علاقته بهم، بدءا بسارتر وغارسيا ماركيز والكاتب ريجيس دوبريه وسيمون دو بوفوار وغراهام غرين. كان كاسترو، محوراً في الثقافة بين من هو “ضده” ومن هو “معه” وهذا ما لاحظناه غداة موته ويذكرنا بروايات أميركا اللاتينية عن الدكتاتوريات، كثيرون ابنهروا به سرعان ما وجدوه خشبياً قمعياً. عرف “الرفيق فيدل” بعلاقات صداقة متينة مع الكبار منهم وفي الوقت نفسه قمع الثقافة التي تتناقض مع طروحاته وأحلامه. كاسترو النموذج الأبرز لسحر الثورة الخادع (ربما كل الثورات خادعة وتلتهم اولادها)، بعدما انتصرت ثورته، زاره سارتر وعشيقته سيمون دو بوفوار، وجالا في كوبا بين 22 فبراير/ شباط و21 مارس/ آذار 1960 فألهمت هذه الزيارة الفيلسوف الفرنسي مجموعة من المقالات نشرتها صحيفة “فرانس سوار” تحت عنوان “اعصار فوق السكر”، وجمعت بعد ذلك في كتيّب صدر في كوبا وفي ترجمات في دول اخرى. وساهم “إعصار” سارتر إلى حد بعيد في إضفاء الشعبية على نظام كاسترو بين المفكرين الفرنسيين والأجانب، غير أنه بعد أحد عشر عاما(1971) تبدلت نظرة سارتر للنظام الكوبي ووقع مع ستين مفكراً وكاتباً(بينهم سوزان سونتاغ ويوسا وألبرتو مورافيا) رسالة احتجاج على اعتقال الكاتب الكوبي أربرتو باديلا، ردّ كاسترو على الرسالة واصفاً موقعيها بأنهم “عملاء الـ”سي اي ايه” واجهزة التجسس “الامبريالية” ومنعهم من دخول الاراضي الكوبية. فالإضطهاد الذي تعرض له باديلا على يد السلطة الكوبية، والنقد الذاتي الذي أرغم على البوح به علناً أمام مجموعة من المثقفين الذين أصيبوا بالرعب، نال قسطاً وافراً من الإستنكار الشديد من قبل رفاق الدرب الثوري… كل الرفاق، باستثناء الروائيين كورتازار وماركيز، الذي راوغ في البداية، ولكنه انتهى مؤيداً لكاسترو.

435 (1)

ريجيس دوبريه

من المثقفين الذين وقعوا تحت تأثير كاسترو وثورته الفرنسي ريجيس دوبريه الذي عاش في كوبا سنوات وتوجّه بعدها إلى بوليفيا للالتحاق بمجموعة تشي غيفارا المنشقة عن كاسترو. وجسّد أطروحاته الثورية في كتابه الشهير الصادر عام 1967 تحت عنوان “الثورة في الثورة”، وقع دوبريه في شهر نيسان أبريل من عام 1967، في قبضة الجيش البوليفي النظامي. وصدر بحقه حكم بالإعدام خفف إلى السجن لمدّة ثلاثين سنة، بفضل مفاوضات شاقة وحملة فرنسية دولية لمساندته قادها سارتر. وفي المحصّلة، أمضى في السجن مدّة أربع سنوات فقط… والأكيد هو أن علاقات دوبريه مع كاسترو، تغيّرت كثيراً في ما بعد. رغم انه صاحب كتب “الكاستروية: مسيرة أميركا اللاتينية الطويلة”. لاحقا كتب “تربية أسيادنا” عن كاسترو وغيفارا وفرنسوا ميتران، قال فيه: “قسا التاريخ على كاسترو ولا يتوانى عن تصغيره في حين يعزز تشي(غيفارا). لكنني لست اكيداً من انني كنت سأحب العيش في دولة هو رئيسها”. وأصبح دوبريه من منتقدي كاسترو وأصدر كتاباً يعبِّر فيه عن خيبة أمله من “كاسترو والكاستروية”. وصدرت عنه آراء وتصريحات عديدة، مفادها أن نظام كاسترو في سنوات التسعينات من القرن الماضي، وما تلاها، لا علاقة له بكوبا الثورية في سنوات الستينات من القرن ذاته. وربما كان التغيّر في مواقفه وراء العديد من الشائعات التي سرت حول أنه كان وراء كشف السلطات البوليفية، للمكان الذي كان يوجد فيه غيفارا، والكثير من الآراء الشيوعية تتهمة بـ”الردة” الى ما هناك من تعابير معهودة.

ماركيز

يفهم المرء تقارب سارتر الحالم مع كاسترو الثائر، كذلك يفهم التحاق دوبريه الشاب والمتحمس بـ”حرب العصابات” ولكن علاقة ماركيز بكاسترو اشبه بـ”اللغز” ربما تشبه علاقة ماركيز بأبطال رواياته، بل أكثر من ذلك فذات مرة قال ماركيز للصحافي ايناسيو رامونيه انه يحسده لأنه التقى كاسترو عشرات الساعات خلال تسجيل سيرة حياته.. كان كاسترو غالباً القارئ الاول لمخطوطات روايات ماركيز وكان يبدي ملاحظاته عليها، واعترف الأخير انه صوب بعض اخطائه بشأن نوع من السلاح في روايته “الجنرال في متاهته” وسلمه مخطوطة مذكراته، وبعدما قرأها لم يستطع كاسترو كبح صوت المبدع في داخله واعترف إلى إحدى الصحف الكولومبية بأنه لو كان ثمة تناسخ ارواح لتمنى ان يكون كاتباً مثل صديقه ماركيز. يقول غابو(دلع ماركيز) انه اكتشف على الفور ما لا يعرفه الا قليلون، وهو أن كاسترو قارئ نهم محب للادب الجيد ومتابع له في كل وقت حتى في أصعب المراحل، وان الكتاب لا يفارقه في وقت الفراغ.

ظل ماركيز موالياً لكاسترو على الدوام حتى في الاوقات التي كانت فيها جموع المثقفين ودعاة الحرية في مناطق واسعة من العالم تنتقد النظام بسبب الرقابة وسوء معاملة المفكرين والفنانين وأصحاب الرأي، حتى أن الكاتب البيروفي فارغاس يوسا وصف ماركيز بأنه من حاشية الرئيس الكوبي. يعتبر منتقدون سياسيون للكاتب انه أضفى نوعا من الوقار على الثورة وان دفاعه عن الاشتراكية الكاريبية أفاده كثيرا في الفوز بجائزة نوبل ولم يتجاوز عمره الخمسين. يصر ماركيز على أن صداقته مع كاسترو تتجاوز السياسة وان قربه منه سمح له بإنقاذ عدد كبير من المنشقين بهدوء. ويقول في وصف كاسترو: “تعكس الكتب على نحو جيد مدى اتساع أذواقه(…) هو القارئ النهم ولا شيء يوضح كيف يكفيه الوقت ولا بأي طريقة يخدمه لهذا القدر من القراءة وبتلك السرعة الهائلة، على الرغم من أنه يصر على أنه ليس لديه أي أمر خاص”.

علاقة ماركيز بكاسترو إعتراها الكثير من الضجيج، في المقابل قل ما انتبه الكتاب إلى صداقة كاسترو بالروائي البريطاني غراهام غرين الذي كتب ماركيز عنه وعن علاقته بكوبا ووجوده فيها نصاً ادبياً خاصاً ووصفه بعد لقائه قائلا: “… غادر عائدا من حيث أتى. لم يكد يأكل سوى مرة واحدة خلال تلك الساعات العشرين، ملتقطا لقيمة من كل طبق، مثل عصفور مبلل، لكنه تناول وهو على المائدة دجاجة كاملة”. تعدّ رواية “رجلنا في هافانا” من الروايات الشهيرة التي كتبها غرين عام 1958 وتحكي عن الأحداث التي سبقت الثورة الشيوعية في كوبا.

كان كاسترو يحب ماركيز لكن علاقته بالشاعر التشيلي بابلو نيرودا فيها الكثير من الالتباس أيضا، ويصفه بأنه (“مومس” إيجاره أكثر ارتفاعا من أن يتمكن بلد فقير مثل بلدنا من دفعه). مع أن ماركيز يميل الى الشعارات الاشتراكية بهدوء بينما يجاهر نيرودا بشيوعيته وحتى مدحه جوزيف ستالين. فما السر في التنافر واللاكيمياء بين نيرودا وكاسترو؟ فذات يوم، اقُترحَ على كاسترو استضافة الشاعر التشيلي فرفض استقباله على أرض كوبا، قيل بسبب سجله الاستخباراتي الأميركي اولا والسوفياتي لاحقا إلى جانب تشعب علاقاته، وقيل ان الروائي الأميركي آرثر ميلر وجّه في العام 1966 دعوة إلى نيرودا، لحضور مؤتمر “نادي القلم العالمي”. وكان أعضاء النادي يعلمون مدى صعوبة إحضار نيرودا إلى نيويورك في خضم “الحرب الباردة”. لم يستطع الشاعر التشيلي دخول نيويورك وحسب، وإنما دارت أعمال المؤتمر حول نيرودا وأعماله، وسجل مواقفه… وفي طريق عودته توقف نيرودا في البيرو حيث منحه رئيسها اليميني فرناندو ميلاديدي وسام الاستحقاق الذهبي ذاك الرئيس كان قبلاً قد أعلن عن حربه ضد اليساريين في بلاده.

زيارة نيرودا إلى اميركا وقبوله وسام الاستحقاق من اليمين، دفع ثمنهما غالياً حين وجَّه إليه مئات الأدباء والفنانين الكوبيين رسالة اتهموه فيها بـ”التعامل مع الإمبريالية العالمية”. بعد تلك الرسالة لم تطأ قدم نيرودا أراضي الجزيرة الكوبية حتى مماته، ربما لهذا السبب اتهمه كاسترو بــ”المومس”. لكن، لا نعرف لماذا لم يكنّ كاسترو العداء لصديقه ماركيز الذي كان على صلة بالرئيس الأميركي بيل كلينتون والتقاه والتقط الصور معه…

حاول ماريو فارغاس يوسا أن يبرر هذه العلاقة الملتبسة في تأييد المثقفين للديكتاتوريات حين سئل عن ذلك في أحد حواراته فقال: “تذكر ما كتبه كامو أنّ الرجل الذكي جداً في بعض المجالات من الممكن أن يكون غبياً في مجالات أخرى، ففي السياسة كان المثقفون أغبياء في العديد بل الكثير من الحالات، فهم لا يحبون الرداءة، والديموقراطية هي قبول بالمستوى المتوسط، والديموقراطية هي أن تتقبل أنّ الكمال غير موجود في الواقع السياسي، كل فرد عليه أن يقدم تنازلات من أجل التعايش السلمي، ونتيجة ذلك هي الرداءة، وقد أثبت التاريخ أنّ هذه الرداءة هي الطريقة الأكثر سلما للتقدم والازدهار والحد من العنف، والمثقفون أكثر عرضة من غيرهم بكثير لهذه اليوتوبيا”.

كاسترو والكتاب، موضوع سبق ان كتبنا عنه أكثر من مرة، وفيه الكثير من التشويق تماما كما علاقات كاسترو بالنساء، ومن يراجع كتاب “الحرب الباردة الثقافية” لفرانسيس سوندرز سيفاجأ بقدرة الاستخبارات الأميركية والأنظمة عموماً على توريط الكتّاب في حروبها الصغيرة والكبيرة، وهذا لا يعني أن الأدباء والشعراء من جنس الملائكة.

 ______
*المدن

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *