رايمون كارفر.. تشيخوف الأميركي

*حسونة المصباحي

عن دار «لوليفييه» الفرنسيّة صدرت ترجمة لكتاب: «رايمون كارفر– حياة كاتب» المخصصة لسيرة واحد من أعظم كتاب القصة القصيرة في النصف الثاني من القرن العشرين، أعني بذلك الأميركي رايمون كارفر (1938-1988) الذي يتفق جميع النّقّاد على أنه الوريث الشّرعيّ لكلّ من أرنست همنغواي، وأنطون تشيكوف. ومثلهما هو يجسّد عبقريّة الإيجاز في جلّ القصص القصيرة التي كتبها، والتي ترك منها الكثير لكي يذيع صيته لا في بلاده فقط، وإنما في جميع أنحاء العالم.

ولد رايمون كارفر في العام 1938 في«ياكيما»، وهي مدينة صغيرة في الجزء الشرقيّ من ولاية واشنطن. وكان والده عاملا في مَنْجرة محلّيّة. أمّا والدته فقد كانت مهتمّة بشؤون البيت. فقط بين وقت وآخر كانت تعمل بائعة في أحد المحلاّت التّجاريّة، أو نادلة في مقهى، لكن لوقت محدود. واصفا المناخ العائليّ، يقول رايمون كارفر: «البيت الأوّل الذي أتذكّر أني عشت فيه كان قائماً على حافّة ميدان المعرض في ياكيما. وكانت (التواليت) في الحديقة. كان ذلك في أواخر الأربعينات. وكنت بين الثامنة والعاشرة من عمري. كلّ يوم، عند ساعة الخروج من العمل، كنت أذهب لملاقاة والدي في موقف الباص. في الأيّام العادية، كان دائما منضبطا في مواعيده. لكن بعد كلّ أسبوعين تقريبا، لم يكن يأتي في الباص المعتاد. وكنت أنتظر الباص الآخر وأنا على يقين أنه لن يأت فيه أيضا. وعندما يحدث ذلك، يكون واضحا أنه ذهب مع أصدقائه ليمضي معهم وقتا طويلا في الشراب. وأنا لا زلت أتذكّر جوّ اليأس، والمرارة الذي يخيّم على البيت في اللّيالي التي نجلس فيها وحيدين أمام طاولة العشاء، أمي، وأخي الصّغير، وأنا».

أثر الأب

كان والد رايمون كارفر يروي لابنه الصّغير حكايات كثيرة تتناول مواضيع مختلفة، بعضها تتحدّث عن وقائع الحرب الأهليّة التي عرفتها الولايات المتّحدة الأمريكيّة خلال القرن التاسع عشر. وكان جدّ رايمون قد شارك في تلك الحرب، وقاتل على الجبهتين. في البداية، كان مع الجنوبييّن. ولمّا عاين أنهم على وشك أن ينهزموا، انتقل إلى الجبهة المعادية ليقاتل في صفوف الشمالييّن. وكان الوالد يضحك كثيرا عندما يروي لابنه هذه الحكاية. ويقول رايمون كارفر: كنت أحبّ ان أكون مع والدي. والحكايات التي كان يرويها لي، كانت تعجبني، وتسعدني كثيرا. وكان يقرأ لي بصوت عال مقطعا من كتاب كان بصدد قراءته، ولم يكن يقرأ غير كتب عن رعاة البقر كان يكتبها وان غراي. وكانت تلك الكتب هي الأولى في حياتي.

ويواصل رايمون كارفر حديثه قائلا: مع مرور الوقت، تبيّن لي أن والدي يمتلك حديقة سرّيّة. وهو أمر لم يكن باستطاعتي أن أدرك كنهه، أو أن أفهمه. وكان ذلك في الأوقات التي أكون فيها مستغرقا في القراءة. ومبكّرا عشق الصّبيّ الصّيد. ومرّة كتب قصّة قصيرة عن سمكة اصطادها غير أنها فرّت منه. وقد قبلت والدته أن تكتبها له بالآلة الكاتبة، ثمّ أرسلتها إلى إحدى الصّحف المتخصّصة في الصّيد. ورغم أنّ القصّة أعيدت له عقب بضعة أسابيع، فإنّ الطفل شعر بسعادة كبيرة إذ أن أناسا آخرين، إضافة إلى والدته، قرأوا القصّة، وأبدوا حولها ملاحظات راقت له.

حياة صعبة

لم يكن رايمون كارفر ميّالا إلى الدراسة. وكان أمله أن يعمل ذات يوم في المنجرة مثل والده. وقد عمل فيها بالفعل لمدّة سنتين، ثمّ غادرها غير آسف إذ اكتشف أنه ليس مؤهّلا للقيام بمثل ذلك العمل الشّاقّ. ولم تكن فترة الشّباب أقلّ شقاء من فترة الطفولة. فقد تزوّج رايمون كارفر وهو في سنّ الثامنة عشرة من فتاة تصغره بعامين تدعى ماريان كان قد أحبها وهو في الرابعة عشرة من عمره. وكان عليه أن يعمل في اللّيل. وفي النّهار، يذهب للدراسة. وكانت زوجته تقوم هي أيضا بأعمال شاقّة. وقد ازدادت الأوضاع تعقيدا عندما أنجب الزّوجان الشّابّان طفلين. عندئذ وجدا نفسيهما مضطرّين إلى السّفر إلى كاليفورنيا بحثا عن عمل أفضل. وهناك عمل كارفر حارسا ليليّا في أحد المستشفيات. وفي النّهار، كان يستمع إلى المحاضرات في الجامعة. وذات يوم قبلت إحدى المجلاّت الأدبيّة نشر قصّة له، وبعضا من القصائد. وقد سعد رايمون كارفر بذلك كثيرا حتى أنه طاف بصحبة زوجته في المقاهي التي كان يرتادها في (ساكر مانتو) حيث كان يقيم، ويعمل، عارضا المجلّة على أصدقائه، ومعارفه. ومنذ ذلك الحين، اختار أن يكون كاتب قصّة قصيرة. ومفسّرا اختياره، يقول: في تلك السنوات التي كنت فيها أكتب، وكنت مضطراً في الآن نفسه إلى القيام بأعمال شاقّة، ومهينة، أدركت أن عليّ أن أكتب أشياء قصيرة لا تأخذ منّي الكثير من الوقت. إنّ كتابة روايات تتطلّب عاما أو عامين، إن لم يكن أكثر من ذلك. لذا قرّرت أن أكتب فقط قصصا قصيرة، وقصائد.

وبسبب الأوضاع المادّية الصّعبة، أخذ رايمون كارفر يكثر من الشراب حتى أنّ القنّينة أصبحت مركز حياته، كما كان يحلو له أن يقول. وبسبب ذلك، كان عليه أن يمضي بعض الوقت في مصحّة دي فيت التي تستقبل المصابين بالأمراض العقليّة، وعتاة المجرمين الذين يصابون بالجنون. وعن تلك الفترة الصّعبة من حياته، يقول: بسبب الإدمان على الكحول، أصبحت شخصا محطّما، ومهدّما تماما. وبدأت أنسى ما كنت قد قلت، أو فعلت. وكان بإمكاني مثلا أن أقود سيّارة، أو أن أقرأ قصصا أمام الجمهور، أو ألتقي بشخص أعرفه.. غير أني أنسى كلّ هذا بعد ذلك.

ضجر وخيبة

مطلع الثمانينات، بدأ رايمون كارفر يعرف الشّهرة، وأخذت المجلاّت الأدبيّة المرموقة تنشر قصصه، وأشعاره. كما اهتمّّ به النّقّاد، وعنه شرعوا يكتبون مقالات تنوّه بكتاباته، وبطريقته الآسرة في تناول المواضيع المتّصلة بالحياة الأمريكيّة الجديدة من خلال تفاصيلها وجزئياتها البسيطة، والتي لا تلفت انتباه الآخرين. وأغلب شخصيات هذه القصص موظفون صغار يعانون من ضجر الحياة اليومية، ومن رتابتها، ومن خيبات في الحب، وفي مجالات أخرى. وراصدا مواصفات ما كتب من قصص في تلك الفترة، يقول كارفر: إنّ شكل القصص الذي يستثيرني شخصيّا هو ذلك الذي يحتفظ بصلات وثيقة مع الواقع، مع العلم أن جميع الأشياء التي رويتها في قصصي لم تحدث أبدا غير أنها تحتوي دائما على عنصر من عناصر الواقع مثل جملة سمعتها، أو مشهد حضرته، أو شيء من هذا القبيل. ويكون ذلك نقطة الانطلاق بالنسبة للقصّة التي أنوي كتابتها. والكتابة القصصيّة، والروائيّة التي تهمّني أكثر من غيرها سواء كان الأمر متعلّقا بتولستوي، أو تشيخوف، أو هيمنغواي، أو اسحاق بابل هي تلك التي تحتوي على بعض العناصر من السّيرة الذّاتيّة للكاتب أو تلك التي تحيلنا إلى بعض الوقائع المعيّنة التي لا يمكن أن تولّد رواية طويلة كانت أم قصيرة من الفراغ.

ويضيف كارفر قائلا: في القصص التي أكتبها، أحبّ أن يكون هناك خطر ما غير ملموس لكن يمكن أن نستشعره وهو يطوف حولنا ليحدث ما يمكن أن يصيبنا بشر ما. لا بدّ أن يكون هناك توتر في الهواء. وقد أعجب المخرج السينمائي الكبير روبرت ألتمان بقصص رايمون كارفر. لذلك مزج بعضها لتكون موضوعا لفيلمه الشهير: Short Cuts.

أثر الابن

وعن التّأثيرات التي فعلت فيه يضيف كارفر قائلا:عليّ أن أقول أيضا إن من بين التّأثيرات التي فعلت في حياتي بشكل حاسم كانت تأثيرات ابني البكر. فعندما ولد، كنت قد بلغت سنّ العشرين. وعلى مدى سنوات طويلة، عشنا تحت نفس السّقف. وتأثيرات تلك الفترة الثّقيلة، والمضرّة أحيانا شملت جميع جوانب حياتي.

وقد كتب رايمون الشعر. ومن بين القصائد الأثيرة إلى نفسه تلك التي كتبها عن موت والده، مستعيدا صورته عندما كان في سنّ العشرين. وفي مطلعها يقول:

أكتوبر. في هذا المطبخ الرطب، الأليف قليلا،

أتأمل الوجه الخجول والشاب لوالدي

مبتسما بارتباك

يمسك بيد خيطا تتدلى منه ثلاث سمكات نهريّة

وبالأخرى زجاجة غالسباغ.

الحاجة أمّ القَصّ

يقول رايمون كارم مفسراً اختياره أن يكون كاتب قصّة قصيرة: «في تلك السنوات التي كنت فيها أكتب، وكنت مضطراً في الآن نفسه إلى القيام بأعمال شاقّة، ومهينة، أدركت أن عليّ أن أكتب أشياء قصيرة لا تأخذ منّي الكثير من الوقت. إنّ كتابة روايات تتطلّب عاما أو عامين، إن لم يكن أكثر من ذلك. لذا قرّرت أن أكتب فقط قصصا قصيرة، وقصائد».

أثرهم فيه

عن الكتّاب الذين أثّروا فيه، يقول رايمون كارفار: «هناك همنغواي، خصوصاً قصصه الأولى. وهناك تشيكوف الذي يعجبني أكثر من غيره من الكتّاب. لذا كتبت قصّة مستوحاة من احتضاره في مستشفى ألمانيّ بحضور زوجته عنوانها «ثلاث زهرات صفراء». وما أظنّ أن هناك أحداً في العالم لا يحبّ تشيخوف. أنا أتحدّث هنا عن قصصه، وليس عن مسرحيّاته التي لا أحبّها كثيراً. أنا شديد الإعجاب بجميع الروايات، والقصص القصيرة التي كتبها تولستوي: .»أنّا كارينا»، و»الحرب والسّلم» طويلتان. أمّا «موت ايفان ايليتش «، و«السّيد والخادم» فهما عملان عظيمان. وهناك اسحاق بابل الذي لم يكتب غير قصص قصيرة مثلي. وعليّ ألاّ أنسى «أناس من دبلن» لجيمس جويس، وقصص كونراد، و«مدام بوفاري» لفلوبير.
_______
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *