الكتابة القادمة من عالم الإلهام*

يحيى القيسي**

شهدت فترة الخمسينات والستينات في مصر تحديدا انتشار ظاهرة الجمعيات الروحية، وجلسات تحضير الأرواح، ونشط أساتذة جامعات وأدباء كبار في هذه الحلقات، وتعميق الاهتمامات بما وراء عالم المادة، ويكفي أن نذكر مثلا الأديب والمفكر الإسلامي د. مصطفى محمود الذي قدم بعض الاعترافات في هذا الاتجاه، وقد نشرت في عدد من مجلة ‘لوتس’ الثقافية المصرية قبل أشهر قريبة، ومن خلال تجربته نتعرف على استشارات ومساعدات روحانية كان يقدمها لشخصيات إبداعية مثل إحسان عبدالقدوس ومحمد عبدالوهاب وغيرهم، أما د. رؤوف عبيد أستاذ الحقوق والباحث الشهير في الباراسايكولجي فقد انشغل طويلا في تتبع الظواهر الغريبة، ومن كتبه المعروفة ‘الإنسان روح لا جسد’ في جزأين، ولكن كتابه الأكثر غرابة هو ‘في الإلهام والاختبار الصوفي’ الذي صدر عام 1986، وفيه رصد معمق لما يدعى حالة ‘الإملاء’ أي أن تملي روح شاعر راحل أو أديب أشعارها او نصوصها عبر وسيط روحاني إلينا نحن الأحياء، والكتاب ينشغل أساسا بأمير الشعراء شوقي الذي رحل عام 1932 وكيف تم الاتصال بروحه بعد وفاته بسنوات طويلة ليملي عددا كبيرا من قصائده الجديدة..!

قد يظن بعض القراء أنني أتحدث هنا عن حالة من الشعوذة أو التخريف، ولكن الأمر جدي، وتم عرض القصائد الجديدة التي تشبه تماما قصائده التي كتبها في حياته على عدد كبير من الأدباء والنقاد الذين يعرفون تماما طبيعة تجربته وخصوصية لغته، وكانت المطابقة إلى حد الإدهاش، وإذا أخذنا حالة أخرى من التراث الصوفي الإسلامي وهي كتابات الشيخ الأكبر ابن عربي، لاكتشفنا أن الرجل كان يعترف بأنه (يملى عليه) ولم يأت بالأربعمئة مجلد من نفسه، ولعل كتابه الشهير ‘فصوص الحكم’ الشاهد الأكثر وضوحا على ذلك إذ اعترف بأنه إملاء مباشر من رسول الله صلى الله عليه وآله وبارك، ومؤخرا التقيت في عمان بكاتبة أمريكية روحانية اسمها باتريشا كوري وهي مؤلفة لعدد من الكتب حول حضارة الأطلانطيس الغارقة أثناء الطوفان الشهير، وقالت لي بأن كتبها أمليت عليها كلمة كلمة من أرواح سامية من السريان الذين كانوا يعيشون على الأرض قبل آلاف السنين، وأنها تسجل ما يأتيها من هواتف داخلية أو نداءات من هذه الأرواح في ساعات معينة، وإذا ما انتقلنا إلى التحليلات الأدبية النقدية فإن هناك من يؤمن بالإلهام الشعري والأدبي، ولنا في ‘وادي عبقر’ كفكرة متخلية مثال ساطع، والكثير من الأدباء الكبار اعترفوا بأن كتاباتهم تدفقت عليهم في لحظات معينة، وأنهم انتبهوا إلى إنهائها دون وعي تام، وكأنهم كانوا تحت تأثير ما يشبه النوم، وإذا أردنا أن نفسر حالة ‘الإلهام’ من ناحية دينية وعلمية لنقربها إلى أولئك النفر من النقاد والأدباء الذين لا يؤمنون بها، لاحتجنا إلى صفحات كثيرة ، غير أن أفضل شيء في هذا المقام الذي تتسع فيه الرؤية وتضيق العبارة، أن نقول بأن الإنسان كائن بيولوجي الكترومغناطيسي ، أي مكون من مادة وهالات من الطاقة حوله، وإذا كان شفافا، وصافي الذهن، وله طبيعة استعدادية للتواصل مع من هو أعلى منه ترددا ولطافة، أي مع الأرواح السامية التي تملأ الكون، فإنه يستطيع أن يتلقى بعض الإشارات أو النصوص من عوالم عالية، وأننا إذا سلمنا بأن الجسد هو الذي يرحل وأن الروح باقية وتعيش في برزخها الخاص، فإن الاتصال بها ممكن علميا ومقبول من الدين أيضا، ولكننا بالطبع لا نريد القول هنا بأن كل كتابات الأدباء إلهام، بل بعضها فقط وفي حالات معينة، ولا نستطيع أيضا أن نقيس الأمر بالعلم العادي أو نثبته، ولا بقدرات العقل البشري المحدودة ، ولهذا يبدو الأمر نوعا من الخيال عند الكثيرين، ومثيرا للسخرية أيضا.

ما أود قوله في هذه العجالة أن علينا أن لا نغلق عقولنا عن التفكير، ولا خيالنا عن الجموح، فليس كل ما لا نعرفه غير موجود، وليس كل ما لا نعرف تفسيره أيضا حالة من الصدفة أو الغموض، ولعل على المدرسة التي لا تؤمن بالإلهام البتة أن تعيد النظر مجددا في طروحاتها بالنظر إلى التطور العلمي الهائل الذي أضاء لنا بعض الملامح، وإلى التقدم أيضا في الدراسات الروحانية، والتفسيرات الجديدة للديانات ونصوصها اعتمادا على ذلك.

___________

  • استعادة من القدس العربي ( 2008 )

** روائي أردني ومؤسس ” ثقافات “

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *