شِعريّة التَّمويه والالتباس في حوارات “بريد السَّماء الافتراضيّ”

خاص- ثقافات

د. مازن أكثم سليمان

                                           

في مَنهجيّة المُقارَبة

تتعدَّدُ مُستويات التأليف في حوارات كتاب “بريد السَّماء الافتراضيّ” للشاعر أسعد الجبوري، وتتراكَبُ طبقات الخَلْق ودلالاتُها، وتتشكَّلُ شِعريَّتُها انطلاقاً من فَجوات تُقلِّصُ تارةً المَسافة بين المُحاوِر والمُحاوَر، وتوسِّعُها تارةً أُخرى، بما يُؤسِّسُ (هذه الشِّعرية) على حركيّة جدَليّة مَفتوحة الأبعاد ومُنغمِسة في مُناخات التّمويه والالتباس، وهيَ المسائل التي تفرضُ على القارئ المُتمعِّن اعتماد منهجٍ يستطيعُ عبرَهُ مُواكَبة آليّات انبساط أساليب الوجود الفنيّة وسَبر فضاءاتها الثرّة في هذا العمَل الإشكاليّ شكلاً ومضموناً.

وانطلاقاً من هذه الرؤية، اخترْتُ أنْ أُقارِبَ هذه الحوارات اعتماداً على منهجٍ كنتُ قد بنيْتُ معالمَهُ الأوّليّة خلال دراستي الأكاديميّة في مرحلتي الماجستير والدُّكتوراه، وبدأتُ منذ مُدّة باختبار أدواتِهِ ليسَ بوصفها أدوات مُنجَزة ونهائيّ؛ إنّما بوصفها قابلةً للمُراجَعة والتطوير تطبيقياً، وهوَ ما حاولْتُ تجريبَهُ في غير دراسة، ذلكَ أنَّ منهجي هذا الذي أدعوهُ “التَّخارُجيّة النِّسْيَاقيّة”، بقدر ما أُحاولُ فيه تحاشيَ مُصادَرة العوالم النّصّيّة بسُلطة مُسَبّقات نظرية أو أدوات نقدية يتمُّ إسقاطُها عليها من الخارج وليُّ أعناقها الفنيّة الجَماليّة، أحرصُ عبرَهُ أيضاً بما ينطوي عليه من أجهزة مفاهيمية على الارتقاء إلى مُستوى حُرّيّة انفتاح العوالم النّصّيّة أيّاً كانتْ طبيعتُها بما يُحافِظُ على خُصوصيَّتها من ناحية، ويضمَنُ لها من ناحية ثانية استقلاليَّتها النسبيّة إن عن ذات المُؤلِّف، أو عن ذات المُؤوِّل الدّارس لها.

وعلى هذا النحو، تبدو لي النصوص عوالم وجوديّة تنطوي على كُلّ ما ينطوي عليه العالم الوقائعي من حركيّة أحداث وصراع إرادات قوى وتناحُر أفكار وخطابات، ومن دلالات تتشظّى باستمرار بين قصديّة وجود ذات المُؤلِّف في فضاءاته النّصّيّة بين ما هوَ قَبْليّ وما هوَ إبداعيّ، وهيَ المسألة التي تلغي إلى حدٍّ ما الفاصِلَ الحدِّيَّ بين الذات والموضوع، وتُوحِّد بين الذات واللغة والوجود في بِنية حركيّة تبسطُ عالماً جديداً لا ماهيّةَ مُسَبَّقة له، ولم يكُنْ على هذا النحو من قبل، ولا سيما أنَّ هذا الفضاء الوجودي المُغايِر لا يكُفُّ عن الانفتاح _نحوَ_ المُجاوَزة والتّباعُد والاختلاف، واضِعاً فعلَ التّقليب التأويليّ أمامَ تحدٍّ إجرائيّ ينبغي أنْ لا يقعَ في فخّ إغلاق الدّلالة، بل أن يرتقي إلى مُستوى حُرّية عالم الكتابة بتقديم قراءة لا تتوقَّفُ من جهتها عن مُمارَسة حركيّة دوريّة تبسطُ الفَهمَ في نسبيّة الأسئلة المَفتوحة، أكثر من سجنِهِ في انغلاق الأجوبة الحاسِمة.

التَّخارُج في لسان العرب ( يُنظَر ابن منظور، مادّة خَرَجَ) تفاعُلٌ من الخروج، كأنهُ يخرجُ كُلُّ واحد من شركته عن ملكه إلى صاحبه بالبيع. قال ورواه الثّوريّ بسنده عن ابن عبّاس في شريكين: “لا بأس أنْ يتخارَجا” يعني العيْن والدَّين. وقال عبد الرحمن بن مهدي: “التَّخارُجُ أنْ يأخُذَ بعضهُم الدار وبعضهُم الأرض. وتخارَجَ السَّفْرُ أخرجوا نفقاتهم. وخارَجَ فلانٌ غلامَهُ إذا اتفقا على ضريبة يردُّها العبدُ على سيِّدِهِ كُلَّ شهرٍ ويكونُ مُخلّاً بينَهُ وبينَ عملِهِ فيُقال: “عبدٌ مُخارَج”.

إنَّ مُصطلح “التَّخارُج Exteriorization” مُشتقٌّ من (الخارج)؛ أي الموجود خارج الشعور في العالم الخارجيّ، والخارجيُّ هوَ الواقعيُّ المَحسوسُ في العالم؛ أي المَعروض في الخارج، والخارجيّة صفةُ ما هوَ خارجيٌّ، ومعروض في الخارج (يُنظَر عدنان بن ذريل: الفكر الوجوديّ عبر مُصطلحه، 111_112).

وهكذا أُعرِّفُ بناءً على ما سبَقَ مفهوم “التَّخارُج” بأنَّهُ: الحركيّة القصديّة المُحايثة التي تبسطُ بها الذات المُتَّجهة نحوَ العالم أساليبَ وجودها فيه، أو بلُغة ثانية، هوَ اتّجاهُ الأنا نحوَ العالم الخارجيّ، ليتعيَّنَ بوصفِهِ ذاتاً موجودةً في هذا العالم، ذلكَ أنَّ القصديّة ليسَتْ سوى قصديّة تخارُجيّة لأساليب الوجود البصَريّة التي تُعيِّنُ بها الذاتُ ماهيَّتَها المَفتوحة على التحوُّل والتغايُر والاختلاف، وهذه الذات بهذا المعنى هيَ “دازين   Dasein”، وهوَ مُصطلح ألمانيّ اشتققتُهُ عربيّاً على وزن فاعِل، وأطلَقْتُ عليه الـ (الدّازِن) الذي يعني وجود الموجود البشري المُتخارِج في العالم، وذلكَ لكون مُشكلة الوجود الخارجيّ وعلاقة الذات به مُشكلة زائفة إذا نُظِرَ إلى هذه العلاقة بوصفها تنطوي على ضربٍ من الانفصال الحدِّيّ بينهُما، فالدّازن بطبيعتِهِ الأوّليّة موجودٌ في ذلكَ الخارج، وقصديَّتُهُ التّخارُجيّة هيَ فعلُ مُحايَثةٍ يبسطُ أساليبَ وجودِهِ الكيانيّة في العالم.

وبنقل هذا الفَهم إلى عالم النصوص يكونُ تخارُج الذات المُؤلِّفة هوَ قصديّة بسط هذه الذات بوصفها دازِناً أساليبَ وجودها المختلفة في عوالم النصوص، وهذه الأساليب التَّخارُجيّة بزعمي بما هيَ انفتاحُ فَجوةِ وجودِ الدّازِن في عالم اللغة، تقومُ على آليّة فَصْمٍ لـِ (الدّازِن _ المُؤلِّف)، تنهَضُ على مُحايَثة وجودية تخارُجيّة تتراكَبُ جدَليّاً بينَ قصديّة الذات المُؤلِّفة الموجودة _في_ العالم الوقائعيّ، وقصديّة الذات المُؤلِّفة الموجودة _في_ عالم النصّ الافتراضيّ، وقد طبَّقتُ هذا التّوجُّه على عالم الشعر فميَّزْتُ عبر هذا الفَصْم الجدَليّ بين الذات الشاعرة الوقائعيّة، والذات الشعريّة الافتراضيّة، لتكون مُحصِّلةُ هذه التّخارُجيّة المُنفصِمة بين القصديَّتيْن المُتجادلتيْن للدّازِن المُبدِع فتحَ أساليبَ وجودٍ جديدة في عالم النصّ بما هوَ يُمثِّلُ ما اصطلحْتُ عليه بعالم “النِّسْيَاق”.

أحتكِمُ في المنهج “التَّخارُجيّ النِّسْيَاقيّ” إلى آليّات مُقارَبة وقراءة وتحليل تسعى إلى حدٍّ كبير إلى تعزيز سمة الاستقلاليّة النسبيّة للنصّ عن مُؤلِّفِهِ، وعن عالمه الوقائعيّ، من دون أنْ يُلغِيَ ذلكَ صلة النصّ معهُما القائمة على جُملة تراكُبات انزياحيّة تنفتِحُ عبر حركيّة الخَلْق الإبداعيّ المُحايِثة في عالم “نسْيَاق” النصّ بوصفه عالماً ينهضُ على مُجاوَزة ثنائيّة (سُلطة المؤلِّف _ موت المُؤلِّف) بما هيَ ثنائيّة مُؤسَّسة على الفَهم الحدِّي التَّقابُلي والميتافيزيقي لثنائية (الخارِج/القراءة السِّياقيّة)، و(الدّاخِل/القراءة النَّسَقيّة)، ليحُلَّ محلَّهُما “عالمُ النِّسْيَاق” بما هوَ عالمُ انبساط أساليب وجود الدّازِن المُتخارِج الذي يُخلِّف في فعلِهِ التَّخارُجيّ المُنفصِم تلكَ الرُّؤى التي تفصل اللغة عن الوجود، فترى عالمَ النص إمّا بوصفِهِ فعلاً تعبيريّاً أنجزَتْهُ ذاتٌ وقائعيّة (سياقيّة) واعية ومُتحكِّمة به تحكُّماً مُسَبَّقاً ومُتعالياً عبر (سُلطة المؤلِّف: مركزيّة المُؤلِّف)، أو بوصفِهِ بِنية (نسَقيّة) لُغويّة لا شعوريّة مُتماسِكة، ومُكتفية بذاتِها، ومُنفصِلة عن المُؤلِّف، ومُتعالية على الوجود في العالم (موت المُؤلِّف: محو المُؤلِّف).

وهكذا، تنبثِقُ المنهجيّة التَّخارُجيّة النِّسْيَاقيّة، وتُمارِسُ مُقارَباتِها النّصِّيّة عبرَ آليّات استنطاق تأويليّة حثيثة تُقلِّبُ بلا هوادة عالم النِّسْيَاق بوصفه عالماً يطوي في أساليب وجوده المُتراكِبة تشابُكاً جدَليّاً مُعقّداً بين (السِّياق والنَّسَق) في آنٍ معاً، بحيث يحاولُ هذا المنهج قدر المُستطاع أنْ يُفكِّكَ في القراءة مدى سيادة الطغيان الميتافيزيقي القائم إمّا على تسلُّط شمولي لمركزية الذات المُؤلِّفة، أو على محوٍ شمولي لوجود تلكَ الذات محواً تاماً، وهوَ بهذه الآليّة يستطيع أنْ يلِجَ منطقةً إبداعيّة شديدة التكثيف والغموض في عوالم النصوص، وذلكَ لتتبُّعِ مَسارات الخَلْق النِّسْيَاقي للدّازِن التَّخارُجيّ المُنفصِم، والذي يُفترَضُ أنَّهُ كابَدَ في فعل الكتابة صراعاً جدَليّاً ضارياً بين شهوة حُضور سُلطة الذات المُؤلِّفة الوقائعيّة، وشهوة انقلاب سُلطة الذات المُؤلِّفة الافتراضيّة عليها.

في الرُّؤية العامّة للحوارات

تُشكِّلُ عتبة العنوان في هذا الكتاب: “بريد السَّماء الافتراضيّ” علامة دلاليّة بالغة الغِنى، فإذا كانَ المؤلِّف أسعد الجبوري يُؤسِّسُ تجربتِهِ اللّافتة هذه على جنس “الحوارات”، فإنَّ هذه الحوارات تُقامُ مع شعراء راحلين، وهُنا تبسطُ عتبةُ العنوان فَجوتَها الدّلاليّة الأُولى مُنطويةً على مسافة توتُّر إيحائيّ خصب بينَ أن يكون الحوار مع إنسان (شاعر) حيّ بالمعنى الطبيعي الاعتيادي، وأن يُجرَى هذا الحوار مع إنسان ميت، ولذلكَ تأتي مفردة “السّماء” لتفتحَ أفق الفَهم على معاني الغياب والمجهول والاحتمالي غير اليقيني، ولا سيما عندما يُسنِدُ المؤلِّف مفردةَ “بريد” إليها، فالسَّماء مُضافة إلى البريد، والبريد يعني وظيفيّاً فعلَ إيصال الرسائل، والرسائل تعني وجود موضوعات مُحدَّدة يتمُّ إرسالُها، غيرَ أنَّ هذا البريد الآتي من الغيب يميلُ إلى تشويش الجوانب الإبلاغيّة، وتمويه الأفكار والرموز، وتوليدها على حاملٍ زائغ ومُلتبس يميل إلى إرجاء المَعاني، وخلخلة استقرارها ووَحدتها المُتماسِكة، ما دامَ خطابُ (الحوارات _ الرسائل) ناهضاً على البُعد “الافتراضيّ”، فهذا الافتراضيُّ ليس في عوالم هذه النصوص سوى رقصة تلقيح المُسَبَّقات المعرفيّة والثقافيّة الخاصّة بأولئكَ الشعراء الموتى بتعدُّد الدَّلالات على حلبة المَجاز والتخييل والخَلْق والابتكار والتشويه والتزوير (ولا أستخدمُ في هذه المُقارَبة مفردتي التشويه والتزوير بمَعنى حُكْم القيمة الأخلاقي؛ إنَّما بدلالتهما المُرتبطة بالمَجاز والاستعارة والاختلاف)، فالفضاء الافتراضيّ المقصود نسياقيّاً في هذا الموضِع ليسَ سوى تحرير العلامات في حركيّة لعبٍ حُرٍّ لها يتجاوز الثنائيّة الميتافيزيقيّة التقليدية القائمة بين (الحقيقي _ وغير الحقيقي)، ذلكَ أنَّ هذه الافتراضيّة تفتَحُ المعاني على طبقات مُتراكِبة تتداخلُ في تخليقها جُملة باذخة من العناصر والمُستويات النظرية والرُّؤى المُتصارعة والمُتجادِلة تخارُجيّاً ائتلافاً واختلافاً، والتي تتوزَّعُ أساليبُ وجودها المُنفتِحة في نسْيَاقات الحوارات بين ما هو مُتكئ على الصوَر النمطية السائدة والشائعة لسِيَر الشعراء الراحلين ذواتاً وقائعيّة وذواتاً شعرية نصّيّة، وما هو مُتكئ على التدخُّل الإبداعي الفنتازي والغرائبي لدازِن المُؤلِّف المُنفصِم جدَليّاً عبر إعادة تشييد تلك الصور بآليّات تتصارَعُ فيها الهُوِيّات النمطيّة المُسَبَّقة من ناحية، وشهوة الاختلاف التي تحاول في مناطق كثيرة أن تخلخل البِنى المركزية المُتعالية لتلكَ الهُوِيّات، وأن تعيد تشييدَها براغماتيّاً من جديد، وهيَ المسألة التي تبثُّ شِعرية التمويه والالتباس في هذه النصوص بالتعاقد العميق مع حُضور مُخيّلة (الدّازِن _ المُؤلِّف)، واستنطاقها المعرفي والثقافي للقَبْليّات الدنيوية الشخصية والإبداعية لهؤلاء الشعراء الموتى، مع الإشارة الحاسِمة في هذا المضمار إلى مُمارَسة المُؤلِّف الدَّؤوبة لأفعال التقليب التأويليّ التي يقوم عبرها بمخض غيابهم في فرن مخيِّلته بحيث يستنكهُ معالمَ وجودِهم بمُحاوَلة إزاحتِها من عالمهم الوقائعيّ الماضي، ومن عالمهم الأُخروي المَجهول، إلى الحُضور الجديد في عوالم الحوارات التي تبسطُ أساليبَ وجودٍ لم تكُن على هذا النحو من قبل.

يقومُ مفهوم “الحوار” بما هو مادّة أخبارية في معناه المُتداوَل على تحصيل مجموعة من الأخبار والمعلومات والرؤى الخاصّة بمن يُجرَى معه هذا الحوار، وهو فعلٌ يتمُّ لدى أسعد الجبوري عبر تلاقٍ بين قصديَّتيْن مُضاعفتيْن ومُتفاعلتيْن في بُؤرة نسياقاتِهِ المُنفتِحة أمام القارئ، وذلكَ بغيةَ توليد كينونة وجودية تُحضِرُ ذاتية الشاعر الوقائعية والنصية بما هو إحضارٌ يتنقّلُ بلا هوادة بين المركزيات التقليدية المُسَبَّقة والمُطابِقة نسبيّاً لتلك (الأيقونات _ الذوات المُبدعة)، وآليّة تفتيت تلكَ المركزيات من داخلها في فعلٍ تأويليٍّ يبسطُ الدّلالات بوصفها حركيّة تشتُّت وتبعثُر ومُباعَدة اختلافيّة، إذ ينهَضُ هذا الفعل التأويلي تخارُجيّاً على انصهارٍ للآفاق بين دازِن المُؤلِّف المُنفصِم جدَلياً بين ذاته الوقائعيّة وذاته النّصّيّة من ناحية، وذوات الشعراء الموتى بين ماضيهم الوقائعي ونتاجهم الشعري من ناحية ثانية، وهي المسألة التي تُفضي إلى بثِّ فضاءاتٍ حيوية من التجربة والتجريب والتحوُّل والمفارَقات الإدهاشيّة التي لا تتورَّع في مواضِع كثيرة عن هتك التابوهات، والخوض في أسئلة المسكوت عنه وغير المُفكَّر فيه، مع الحفاظ على جماليات الخطأ والشذوذ وسوء الفَهم التي تُبقي الحوارات قابلة للتنقيح التأويليّ المَفتوح، وللقَبول والرّفض من قبَل المُتلقّي بما تسوقه من معانٍ وأفكارٍ و ترميزاتٍ تسعى إلى أنْ تظلَّ مُرجأةَ الأحكام قدر المُستطاع، ولا سيما عبر انفتاح أساليب وجودها خارج الفصل الحدّي للثنائية الميتافيزيقية (المُتحجِّب _ غير المُتحجِّب أو المُنكشِف).

إنَّ تنبُّه المؤلِّف إلى خطورة سقوط الحوارات في فخّ الوثيقة التاريخية، دفعَهُ إلى العمل على تخليق وجودي جَمالي يرتقي بالحوارات إلى مُستوى الوثيقة الفنيّة المُتجدّدة في كُلّ قراءة جديدة، والتي يُنقِذُ التمويهُ والالتباسُ شِعريتَها من قبضة الاستحواذ التملُّكي لسلطة الذات المُؤلِّفة لدى أسعد الجبوري، حيث تتوالَدُ مشهديّة النصوص بصَرياً عبر الالتحاق بالحركيّة الدّورية للفَهم والتأويل التي تقوم في مناطق نسْيَاقيّة واسعة على فكرة عدم حسم المعنى، حيث تبسطُ منطقها البديل لمنطق الحوارات الاعتيادية ذات الخطاب المؤسَّس على مركزية وعي المُحاوِر والمُحاوَر وتحكُّمهما الكُلِّي بالدَّلالة وعوالم الحوارات، وعبر هذا التوجُّهِ يُمارِسُ (الدّازِنُ _ المؤلِّفُ) بالتحالف غير المُباشَر بين الأسئلة والأجوبة عُنفاً مُنظَّماً بحقّ الوجود الاعتيادي الذي ائتلَفَ بعدَ موت الشعراء، واختلفَ، مع الوجود الغيبي، وهذا الأمرُ يُمكِنُ أن يُلاحَظَ في الطريقة الصِّدامية والاستفزازية لعدد غير قليل من الأسئلة، والتي لا تتوانى عن نكأ جراح الشعراء، أو مُحاوَلة فقأ دمامل حيواتهم وتجاربهم النصية ورؤاهم النظرية للشعر، لتجيءَ أجوبتُهُم مُشبَعةً بروح الارتياب، ومُعمِّقةً لمُناخ المَشكوك فيه، وهيَ المسألة التي تتعزَّزُ عبر تعدُّد مستويات الخطاب في نسْيَاقات الحوارات، إذ ينهَضُ الغموض والتشويش والزيَغان في أسئلةٍ وأجوبة كثيرة على تبادُل المَواقِع بين المُحاوِر والمُحاوَر، بما يبسطُ فضاءً دلالياً يبثُّ روحَهُ الشِّعريّة في النصوص اتكاءً على ألاعيب المَجاز المُوحي والسائح بين التمويه والالتباس، وهذا ما يمنَحُ الحوارات طزاجةً حُرّة وحيويّةً تنطوي على حنكة وذكاء “السَّبق الصّحفيّ” الذي يُبقِي المُتلقّي في حركيّة لُهاث فوق زمني (عابِر للأزمنة) وهوَ يمخرُ عُباب المَعاني المُضمَّخة بالشطحات الفنتازية والغرائبية والسريالية.

لعلَّ حُضور فكرة “السَّبق الصحفي” مُشبعةً بالروح الشعرية في هذه الحوارات، تتحقَّقُ في جانبٍ منها انطلاقاً من التشابُك التَّخارُجيّ البِنائيّ “التّجنيسيّ” بين فنّ الحوار من جانبٍ أوّل، وانطوائه من جانبٍ ثانٍ على فنّ “السِّيرة الذاتية _ الشعرية”، فالمُؤلِّف يطوي في السطح البصَري الظاهريّ لنِسْيَاقات الحوارات جوانبَ من سِيَرِ أولئكَ الشعراء الموتى، أو بالأحرى يُضمِرُها في السطح البصَري العميق لتكون مادةً تُفجِّرُ الدّلالات عبر تعرية المُفارَقات الخفيّة، وعبر الإعلاء من شأن صدمة القارئ الناهِضة على خَلْق مسافات توتُّر تُشوِّش في كثيرٍ من المَواضِعَ المَعانيَ، وتنزعُ ألفةَ أساليب وجود الشعراء بين ذواتهم الشاعرة الوقائعيّة وذواتهم الشعرية الافتراضية في قصائدهم، وتغدرُ بأفق توقُّع المُتلقّي، وهو الأمر الذي يُحبَكُ بإحكامٍ بواسطة مُخطَّطٍ تسلسليّ تراكُميّ للأسئلة والأجوبة، لا يأخذ بعين الاعتبار منطق العلّة السَّببيّ، بقدر ما يقوم على انزياحات كثيفة لا تكادُ تسدُّ فَجوةً في مكان حتّى تفتحَ فَجوةً في مكانٍ آخَر، بما يُموِّهُ الحوارات بوَحدة انصهار حدَثيّة أوّليّة، أو بآلية استعادة حكائية نثرية للسِّيَر المُتناوَلة، لا تلبَثُ أن تزيغَ وتلتبسَ هذه الاستعادة بفعل القوّة الحدْسية والتخييلية التي تُعيد تشييدَ السِّيَرِ نسياقياً عبر تخارُجيّة الخَلْق والابتكار والتشويه والتزوير وبثّ سوء الفَهم مَجازيّاً وإيحائيّاً، وهي المسائل التي تحمي النصوص من فقدان جدَّتها الإبداعية بفعل التوازن المَحبوك بين قصدية سُلطة (الدّازِن _ المُؤلِّف)، وسُلطة المُسَبَّقات السِّيَريّة لدَوازِن الشعراء.

لعلَّ الارتماء الحُرّ لأسعد الجبوري في الفَجوات النِّسْيَاقيّة لنصوصه عبرَ التحاقِهِ بحركيّة تشتيت الدلالة في الإطار الكُلِّي مهما غلَّفتْها في الإطار الجزئي تمويهات التطابُق مع المُسَبَّقات أو المَعاني اليقينيّة، هوَ ما منحَ وثائقَهُ (الحواريّة _ السِّيَريّة) فنّيّتها الجماليّة التي لطالما استحوزَتْ عليها رغبة خلخلة الصوَر القَبْليّة النمطيّة السائدة عن حياة الشعراء المُحاوَرين وعن شعرهم ونظرياتهم الشعرية، ولهذا اتّكَأَ المُؤلِّفُ في مَواضِعَ كثيرة على أقنعة (الاعترافات)، بما هيَ ميلٌ إلى الكشف المُفاجِئ والصّادِم لأفق توقُّع المُتلقّي، فالتَّخارُجُ النِّسْيَاقيُّ في هذه النصوص لا يهدفُ إلى بناء حركيّة (الحوارات السِّيَرِيّة) على إحضار الماضي وإخضاعِهِ ومُطابَقتِهِ، بقدر ما يهدفُ إلى إعادة إحياء الماضي بوصفِهِ حاضِراً حيّاً ينبسطُ عبر أساليب الوجود المُتنوِّعة في النصوص، حيث يتمُّ تخليقُ العوالم التّخارُجيّة انطلاقاً من جدَلٍ مُضاعَفٍ يتشارَكُ في آليّاتِهِ كُلٌّ من دازِن المُؤلِّف المُنفصِم ودَوازِن الشعراء الموتى، ولهذا تتأسَّسُ عمليّة تخليق النِّسْيَاقات في هذه الحوارات على أقانيمَ ثلاثة:

1_ دازِن المُؤلِّف بين قصديّة ذاتِهِ الوقائعيّة وقصديّة ذاتِهِ الافتراضيّة النّصّيّة.

2_ قصديّات الذّوات الشّاعِرة التي كانتْ موجودة في عوالمها الوقائعيّة.

3_ قصديّات الذّوات الشِّعريّة الافتراضيّة التي ما تزالُ موجودة في عوالمها النّصّيّة (أي في عوالم قصائد هؤلاء الشعراء).

وعلى هذا النحو، يتحقَّقُ الفعلُ التَّخارُجيّ نسْيَاقيّاً على حركيّات مُتراكِبة تضجُّ بالحيوية والتجربة والتجريب والتغايُر والمُفارَقات الشعرية المُشبَعة بالتمويه والالتباس بين الحقيقي الذي يبدو مُنكشِفاً، وغير الحقيقي الذي يبدو مُتحجِّباً، لتكون المُحصِّلةُ التَّخارُجيّة في مَواضِعَ نسْيَاقيّة كثيرة عميقةَ الاحتفاء بسوء الفَهم الذي يحفَظُ حوارات “بريد السَّماء الافتراضيّ” من الانغلاق دلاليّاً، وليبقى الناقِصُ والمَحذوفُ أُسَّ شِعريّة الحوارات التي لا تتعمَّدُ القبضَ على شعرائها الموتى، بقدر ما تطلقُ سراحَهُم كي يُقلِقوا راحةَ العالم الأرضيّ من جديد، لكنْ هذه المرّة من عوالمهم الأُخرويّة المَجهولة.

 

عن جدَليّة خَلْق النِّسْيَاقات بينَ دازِن المُؤلِّف المُنفصِم وذوات الشعراء الوقائعيّة

تتأسَّسُ أُولى لبنات حوارات أسعد الجبوري عبر تخليق البِنية الافتراضيّة غرائبيّاً، وهوَ التَّشكيل الذي يُمكِنُ أن أُطلِقَ عليه تسمية: “فنتازيا الغيب”، حيث يعمد دازِنُ المُؤلِّف إلى البدء بفَتح نسْيَاقات النصوص انطلاقاً من تعشيق جدليّات ذاته المُنفصِمة مع جدَليّات ذوات الشعراء الموتى بنقل الصراع الوجوديّ الوقائعي القديم الذي عاشتهُ تلكَ الذوات إلى مُستوىً فوق زمنيّ، أو بالأحرى بإعادة المُؤلِّف تشكيلَ ذلكَ الصراع بجعل بُؤرة انبساط قصديّات التَّخارُج النِّسْيَاقيّ لـِ (الحوارات _ السِّيَريّة) نابعةً من عالم الغيب والمَجهول، وهوَ الأمر الذي يبدو بمنزلة مفتاح مَجازي إيحائي مُترامي الأطراف، وقابل للاستجابة التخييلية الحُرّة لأيّة مُحصِّلة تزويريّة أو تشويشيّة تتجاوَز بانسيابيّة عالية ثنائية (الحقيقي _ غير الحقيقي)، حيث تنصهِرُ بهذا المعنى الديناميّات التَّخارُجيّة، وتنبسطُ نسْيَاقيّاً عبر تقليبٍ تأويليٍّ تفاعليٍّ أكثر منهُ تقليباً ذهنيّاً تصوُّريّاً مُسَبَّقاً، وهيَ المسألة التي تمنَحُ عوالم الحوارات جِدَّتَها الحيويّة وطزاجتها بوصفها ابنة شرعية لفَجوات المسافات الزمنيّة، وابنة مشكوك في نسبها _نسبيّاً_ بما يخصُّ أيَّ توجُّهٍ يقينيّ نهائيّ في مُحاوَرة هؤلاء الشعراء الموتى.

وهكذا، يُقدِّمُ المُؤلِّفُ مُعظم حواراتِهِ بمَداخِلَ غرائبيّة أو فنتازيّة وهوَ يصعدُ إلى عالم الغيب باحِثاً عن أماكن إقامة أولئكَ الشعراء، وواصفاً بسحريةٍ عاليةٍ المُناخَ المحيطَ بكُلٍّ منهم في ذلكَ الفضاء الغامض الغريب، فهاهو ذا يستندُ مثلاً في هذا المَنحى على موضوعة المُشكلة الهوميرية الشهيرة والمُتعلِّقة بالشكّ في حقيقة مُؤلِّف المَلاحِم، مُباغِتاً منذ البداية أفقَ توقُّع المُتلقّي عبر تخليق شِعرية تتلاعَبُ بالمُستوى الزمكاني للنِّسْيَاق بتشتيت حركية التَّخارُج بين تمويه المُسَبَّقات، وبسط عناصِر الالتباسات، حيث يقول دازِنُ المُؤلِّف في مُقدِّمة حواره مع هوميروس:

“كُنّا على وشك الفشل في مهمّة البحث عنه بين صحائف السّموات وطبقاتِها الواسِعة. لكنَّ لحظةً فاعِلة من تلكَ المواقيت الإلهية، أنقذتنا بالوصول إلى الهدف. وهكذا عثرنا  عليه جاثِماً على رُكبتيهِ أمامَ لجنة من المُحلَّفين. كانَ السُّكْرُ قد تَعْتَعَهُ، فجعَلَ منه شخصاً مُتردِّداً في الكلامِ أمامَ قُضاةِ تلكَ المحكمة التي نُصِبَتْ للتَّحقيق في هُوِيَّتِهِ التي طالما شابَها الغموض على امتداد تواريخ السجلّات الإغريقيّة”.

وبهذا المَنحى، يولِّدُ الجدَلُ التراكُبيُّ بين دازِن المُؤلِّف المُنفصِم، وذوات الشعراء التي يتشابَكُ في حُضورها المُستوى الوقائعيّ الأرضيّ (الماضي)، وفنتازيا الغيب، شِعريّةً نسْيَاقيّة تتحرَّكُ بين التمويه والالتباس، مُستندةً على آليّات قصديّة تخارُجيّة تنطلِقُ في أحيانٍ كثيرة من الصُّوَر النّمطيّة الاسترداديّة لأولئكَ الشعراء الرّاحلين، لتُؤسَّسَ بناءً على تأويلٍ ارتيابيّ رموزاً دلاليّة تنزعُ ألفةَ أساليب الوجود البصَرية المُنبسِطة في عوالم الحوارات، وتُرجِئُ في مَواضِعَ كثيرة القدرةَ الحاسِمة على انتخاب المَعنى المُطمَئنّ والمُستقرّ، ما دامَ التَّخارُجُ قادراً باستمرار على أنْ يمتَحَ من ضجيج الحركيّة الحيوي والمُتحوِّل والقادِر على انتزاع الدّهشة من القارئ المُتمعِّن، فها هو ذا (الدّازِنُ _ المُؤلِّف) يسرد لنا مَشهداً مَحبوكاً بروحٍ تقنيّة سينمائيّة عندما يكتبُ في مُقدِّمة حواره مع الشاعر علي الجندي:

“في أوّل مرّة نراهُ فيها هُناك، لم نصدِّقْ وجودَهُ على ظَهْرِ بعيرٍ بنِّيّ اللّون بسنامين، وهوَ يُحاوِلُ الانطلاق نحوَ البرزخ الصّحراويّ المَوصول بنهاية العالم السُّفليّ. كانَتْ صورتُهُ غريبة ومُستفزّة. فأنْ ترى شاعراً مدَنيّاً بثياب البدو، فتلكَ لقطة مُثيرة للجدَل. لكنْ، وما أنْ استوقفناهُ من أجلِ هذا الحوار، حتّى صاحَ بنا مُتألِّماً: أريدُ العودة إلى الربع الخالي”.

 إنَّ التوظيف اللافت لمسألة تعدُّد مُستويات الانتماء الزمكانية عند الشعراء الموتى، يقود إلى تسيير المعاني في حركيّات مُتشابكة ذهاباً وإياباً بين عالمنا الوقائعي وعالم الغيب الأُخروي، بما يفتح الطريق عريضاً لوضع كثير من القضايا الإشكالية والأسئلة الوجودية في حياة البشر تحت مجهر المُراجَعة التخييلية المُتّكئة على آليّات بسط تخارُجيّة نسْيَاقيّة تضخُّ فيها الروحُ الفنتازية الغرائبية أساليبَ وجودٍ بصَريّة مُلتبِسة، وهو الأمر الذي يُموِّهُ العلاقة القصديّة الجدَلية بين دازِن المُؤلِّف المُنفصِم والذوات الوقائعيّة عند الشعراء المُحاوَرين، ويُوسِّعُ الهُوّةَ الدّلاليّة القائمة على تخليق مسافة توتُّر نسْيَاقيّة تنقلُ في مَناطِقَ كثيرة الصراع الوجوديَّ الأرضيَّ إلى السَّماء، ثُمَّ تعودُ به بحُلّة جديدة إلى لحظة انكشاف عوالم (الحوارات _ السِّيَريّة) الراهن، فها هوَ ذا المُؤلِّف يسألُ الشاعر لوركا السؤالَ الآتيَ: “ماذا يعمَلُ لوركا الآن؟”، ليجيبَهُ قائلاً:

“نحنُ نقومُ بالبحث عن جهنّم، عسى أنْ نجِدَ لها أثراً من بقايا تنّور، لنُخلِّصَ البشر من عُقدتِها الأسطوريّة. بعدَ ذلكَ سنقومُ بترتيب الأوضاع في تلكَ المنطقة، لجعلها مسرحاً لعُموم المُضطّهدين القادمين من أهل الأرض”.

وفي هذا المَنحى، يُعمِّقُ دازِنُ المُؤلِّف عبر جدَليّتِهِ الذاتيّة المُنفصِمة محوَ المسافات الفاصِلة بينها وبين ذوات الشعراء الموتى الوقائعية، وهوَ الأمر الذي يتمُّ بتمويهٍ مُحكَم لمُستويات الخطاب المُنفتِحة عبر حركيّة الأسئلة والأجوبة، إذ إنَّ تقليبَ الصِّلة التراتبية السببية بين هذه الأسئلة والأجوبة يُظهِرُ للقارئ خيطاً مجازياً مُلتبساً وشديد الشفافية بين ضمير المُتكلِّم السائل، بما هو ضمير الدّازِن الحاضِر للمُؤلِّف، وضمير المُخاطَب المُجيب، بما هو ضمير المُتكلِّم الذي ينهَضُ عليه صوت الشاعر الغائب، وهيَ المسألة الحركية التي تكسر مبدأ العلة السببيّة، وتنزعُ الألفة التراتبية، وتسمَحُ للمُتلقّي بإبدال المَواقِع في كثير من مناطق الحوارات بين أسئلة المُحاوِر وأجوبة المُحاوَر، حيث تنزاحُ بناءً على هذه اللعبة الدلالية الجُمَل _ العلامات (حسب ريكور الذي يعدُّ أنَّ الجُملة لا المُفردة هيَ وَحدة العلامة الأساسيّة)، لتنفتحَ آفاق المعاني على أكثر من مُستوىً وجوديّ مُؤسِّس لشِعريّة النِّسْيَاقات المُتخارِجة في هذه النصوص. ويبدو أنَّ هذه الآليّات تظهَرُ بجلاء في الطريقة التي يتمُّ عبرها تخليق العلاقة الزمكانية بين العالم الوقائعي السابق لذوات الشعراء الموتى، والعالم الغيبي الحالي، لتنبسطَ فَجوات (الحوارات _ السِّيَريّة) مُشبَعةً بحيوية الحدَث الراهن بوصفه الحدَث فوق الزمني (او العابِر للأزمنة) الذي تُمثِّلُهُ المُحصِّلة الخاصّة بأساليب الوجود الجديدة، والناجمة عن تزاحُم البِنى الجدَلية بين دازِن المُؤلِّف المُنفصِم والالتباس الدلالي  بين ذوات الشعراء المُوزّعة بين انتمائها لعالمها الوقائعي الراحل، وعالمها الأُخروي الغامض، وهيَ المسألة التي تستفذُّ لدى القارئ فُضولَهُ العريض، وتوقِظُ أسئلته الوجودية عن المصير والموت والغيب في كثير من عوالم النصوص، ولا سيما عندما تنطوي مثل هذه العوالم على ترميزات تُعزِّز الشكوك أكثر ممّا تُقدِّم الأجوبة اليقينية، حيث تنفتحُ شِعريّة الفَجوات على قراءات قلِقة ومُستمرّة، ما دامَ تأويلُ الارتياب المُشوَّش هو الذي يبسط سُلطتَهُ على المُتلقّي طارداً بضراوة في مَواضِعَ كثيرة تأويلَ الاسترداد المُطمَئنّ. ولنقرأ في هذا الإطار هذا الجزء من مُحاوَرة المُؤلِّف مع الشاعر يوسف الخال:

“س: ألا تشكو أحداً، ليُنقذكَ ممّا أنتَ عليه في هذا التيه؟

ج: ليسَ من مُخلِّص في مثل هذه الأمكنة كما يبدو.

س: حتّى سيِّدكَ الذي أغرَقْتَ نفسكَ فيه شِعراً وكياناً إلى درجة الذوبان؟

ج: السيِّد المسيح تقصد؟

س: نعم. ألَمْ يرفع عنكَ أسوار هذه العُزلة، ليُخرجكَ إلى النور؟

ج: سيدي يسوع جزء من النور. وحيث يكون قلبي، يكون هو. لكنَّ خلاصاً حقيقياً، لم يتحقَّق. كأنَّ ما كانَ معمولاً به على الأرض، مشغولٌ به هُنا أيضاً”.

وهكذا، يُمعِنُ دازِنُ المُؤلِّف المُنفصِم في إغراق صوَر ذوات الشعراء الموتى بألاعيب التمويه والالتباس الشعرية، موظِّفاً إلى أقصى الحدود فنتازيا الغيب لصالح خلخلة العلاقة بين العالم الدنيوي والعالم الأُخروي، وهو بهذه الآلية يحمي نسْيَاقاتِهِ الحوارية من سلطة ذاته التمركزية الاستحواذية، تاركاً ذوات الشعراء المُوزَّعة بين عالمين (أرضيٌّ غائبٌ/حاضِر، وسماويٌّ حاضِرٌ/غائِب)، تفتتِحُ أساليبَ وجود تُوقِعُ المُتلقِّين في اللّذة الناجِمة عن قوّة المُتخيَّل بوصفه في هذه الحوارات حركيّة التَّخارُج لبثّ سوء الفَهم الفنتازي والغرائبي، حيث لا يكفُّ المَجازيُّ عن تخليق الرمزيّ الذي يُخلخِلُ الأفكارَ اليقينية لأهل الأرض، ولا سيما إذا كان الأمر يتعلَّق بتفسيرات سائدة حولَ الميتافيزيقي الماورائي. وفي هذا المَنحى يقوم الدّازِنُ المُؤلِّف بحقن النِّسْيَاقات التّخارُجيّة بالنّقص الجَمالي في المَعنى عبر قصديات جدَلية تحتفي بـِ (فنّ الحذف)، والذي يتواشَجُ بحنكة ارتيابية مع ألاعيب فتح الدّلالات غير المحدودة على شِعرية التمويه والالتباس المُتّكئة على جدَليات سؤال (الوجود _ العدم)، بوصفه سؤالاً مُتحرِّراً من قبضة ثنائية (الحقيقي _ غير الحقيقي)، وهذا ما يُمكِن تلمُّسُهُ بعناية في الجزء الآتي من حوار المُؤلِّف مع الشاعر أحمد بركات:

“س: كيفَ هيَ لُغة ما بعدَ العدم التي يشعرُ بها أحمد بركات الآن؟

ج: هيَ اللُّغة التي لا تُكتَبُ ولا تقبَلُ التّشكيلَ في النّحو والصرف. لأنَّنا غير قابلين للإعراب في هذه المَناطِق المَفتوحة على الآخِرة.

س: وثمّةَ آخِرة أُخرى غير هذي التي أنتَ فيها؟

ج: أجل. فالسّماء مثل اللُّغة، كُلّما وصلْتَ إلى آخِرَتِها، سرعان ما تكشفُ أنَّ آخِرةً تقَعُ وراءَ الآخِرة الأُولى. وهكذا تستمرّ اللُّعبة”.

إنَّ إتقان أسعد الجبوري ألاعيب التمويه والالتباس عبرَ بسط أساليب وجود نسْيَاقيّة فنتازية وغرائبيّة، يُؤكِّدُ كما ذكرْتُ من قبل، تحاشيهِ لفخّ الاستحواذ التملُّكي الذي ينطوي على شهوة حُضور سُلطة دازِن المُؤلِّف المُنفصِم على حساب الذات الوقائعية للشعراء، والتي تتوزَّعُ أسئلتُها الوجودية بين عالم الماضي الراحل، وعالم الغيب الحالي، لذلك تُؤدّي هذه المُعادَلة التَّخارُجيّة إلى نقل الصراع الوجودي الوقائعي الذي عاشَهُ أولئكَ الشعراء إلى نسْيَاقات النصوص، لكنْ بعدَ تحريرها من سطوة اليقين بفعل التحوُّلات التي يُفترَضُ أنَّ ذوات الشعراء الموتى قد اكتسبتها في عالم الغيب؛ أي بوصفها تحوُّلات تنطوي على مُراجَعة تأمُّليّة من قِبَل هؤلاء الشعراء لتجاربِهِم الدّنيوية، وللخيبات التي أصابَتْهُم إمّا في حياتهِم أو حتّى بعدَ مماتهِم، مع التأكيد على أنَّ هذه المُراجَعة القائمة على جدَليات الخَلْق النِّسْيَاقية المُتراكِبة لا تقوم على إغلاق الدَّلالات، بقدر ما تتركُها مفتوحةً أمام التقليب التأويليّ الارتيابيّ المُؤسَّس على فنّ الحذف، وهذا ما يُمكِن أن نلاحظَهُ في إرجاء تفسير سبب عدم تنفيذ وصية الشاعر عبد الوهاب البياتي، وتعليق دلالات الخيبة الناجِمة عن ذلك عبر التلميح، والاكتفاء بفعل عملية القفز هذه بتعويم الصورة النّمطية لأيقونة الشاعر اتّكاءً على حُضور الفنتازيا المُستفيدة من جديد من الصلة الميتافيزيقية الغامضة بين العالم الأرضي والعالم السّماوي:

“س: بعدَ موتكَ.. لم يُنفِّذ أحدٌ وصيتكَ بدفن جسدكَ إلى جوار قبر معروف الكرخي، أحد كبار مُتصوِّفة بغداد، ولا قرب ضريح محي الدين بن عربي في سفح جبل قاسيون. لماذا حاولْتَ دائماً الانتماء إلى أضرحة المُتصوِّفة؟

ج: لأنَّني كنتُ أُريد أنْ أشحذَ من طاقاتِهِم الصوفيّة قوّة لشِعري بعدَ الموت. أمّا عن عدم دفني بجوارهم، فلا. لم أندم على ذلك. فأنا ما زلتُ مُداوِماً على زيارة الشيخ محي الدين في كُلِّ ثلاثاء من الأسبوع. فما أنْ يهبِطَ الظلامُ على دمشق، حتّى آخُذَ طريقي مُتسلِّلاً إليه”.

وعلى هذا النّحو، يفتتِحُ دازِنُ المُؤلِّف المُنفصِم بين عالمه الوقائعي الراهن وعالم نصوصه أسئلةً تتعلَّقُ بالحياة الوقائعيّة لأولئكَ الشعراء، وبقضايا تخصُّهُم سياسياً أو اجتماعياً، ويُفترَضُ أن يكونوا قد قاموا بإجراء مُراجَعاتٍ تأمُّليّة بخصوصِها في عالم الغيب، لكنَّ مُحصِّلة الاستراتيجيّات القصديّة للتَّخارُج في نسْيَاقات هذه (الحوارات _ السِّيَريّة) تظلُّ حريصةً كُلَّ الحرص على عدم حسم المَعنى، إذ تقومُ بالاتّكاء في بسط هذا المعنى على أوّليّات مُسَبَّقة، ثُمَّ لا تلبثُ أساليبُ الوجود البصَريّة المُنبسِطة في النصوص على تفتيت شُبهة التّطابُق مع تلكَ المُسَبّقات عبرَ فنِّ الحذف الذي يحتفظُ بطاقة ترميزيّة مُحكَمة تنطوي على المسكوت عنه في كثير من المَواضِع، حيث لا يكاد دازِنُ المُؤلِّف المُنفصِم أنْ يدَّعِيَ سدَّ فَجوة وجودية وقائعيّة، حتّى يفتتِحَ مَجازياً فَجوةً جديدة مُموَّهة ومُلتبِسة، وهو الأمر الذي يمنَحُ شِعرية الحوارات قدرتَها المُتجدِّدة، ويقودُ القارئ إلى فِخاخ الدَّلالات المَفتوحة بشغفٍ تفاعليٍّ حُرّ، ما دامَتْ حركيّة أساليب الوجود النِّسْيَاقيّة حركيّة تشابُكيّة ذهاباً وإيّاباً بين العالم الوقائعي الماضي والعالم الأُخروي الحاضر. ولنتتبَّع هذه القضايا في الجزء الآتي من حوار المُؤلِّف مع غازي القصيبي:

“س: ماذا تعملُ مع طائر الرخ هُنا؟

ج: نستكملُ مرحلة جديدة من البَحث عن النفط بين الجبال السّماوية. ربّما تضحَكُ أو تتهكَّمُ. ولكنْ تلكَ هيَ الحقيقة. نريد أنْ نعرف إنْ كانت ثمّةَ آبار للبترول هُنا أم لا.

س: وماذا يفعلُ هذا الرخ؟ أهوَ مُهندس جيولوجيا مُختصّ بالتّنقيب عن تلكَ الآبار مثلاً؟؟!

ج: نعم. فهذا الطائر قادر على معرفة وجود النفط في باطن الجبال.

س: كأنَّ ما كانَ في المملكة هوَ النّفط ليسَ إلّا؟

ج: كلا. ولكنَّني مُجبَرٌ على فعل هذا هُنا. فثمّةَ من يُواصِلُ الضّغط عليَّ ليحصَلَ على مَنابِعَ جديدة للطاقة في هذه السّموات.

س: لمَ لا تُوضِّح أكثر؟

ج: قد ينفعُني التّكتُّم. فهُناك من يُراقبُني بواسطة أولاد الإبليس الأحمَر من بعيد”.

وفي المضمار نفسه، يستنطقُ دازِنُ المُؤلِّف المُنفصِم الحياة الوقائعيّة الخاصّة والشخصية للشعراء الراحلين، مُوظِّفاً فنتازيا الغيب لتخليق أساليب وجود مُغايرة لا بوصفها أساليب تبسط الحقيقة اليقينية، إنّما بوصفها تُغني الأسئلة الوقائعية القديمة عبر بثّها على حامل التزاوج الزمكاني مع العالم الأُخروي، وهو الأمر الذي يفتَحُ الدَّلالات دائماً على قراءات مُزدوَجة وغنيّة لكلا العالمين، إذ تأتي دائماً لعبة سدّ الفَجوات مُتشابِكةً مجازيّاً مع لعبة فَتح فَجوات جديدة تُخلخِلُ كثيراً من الصّوَر النّمطيّة الوقائعيّة السائدة حول أولئكَ الشعراء، بمعنى أنَّ النِّسْيَاقات وإن لم تخُنْ تماماً تلكَ الصوَر الأيقونيّة، لكنَّها باتّكائها على إحياء بعض المُسَبَّقات القديمة الشائعة، تفتَحُ أبواب المُراجَعة والتّنقيح إمّا للحياة السياسية أو الاجتماعية لذوات الشعراء الوقائعية، وهو ما يتعمَّقُ في مَواضِعَ كثيرة عبر إغناء تلكَ المُراجَعة وذلكَ التّنقيح ببسط أساليب وجود تزويرية أو تشويهية تنزاحُ بالتَّخارُج النِّسْيَاقي عن المَعنى اليقيني بفعل مَشاهِدَ بصَريّة تستمدُّ غرائبيّتها ليس فقط من انتمائها المُزدوَج لعالمين، بل أيضاً من قدرتها على بثِّ شِعريةِ التمويه والالتباس بما هيَ شِعرية استدعاء ما هو مسكوتٌ عنه أو غير مُفكَّر فيه في كثير من الأحيان، وهذا ما ينطوي عليه بجلاء الجزء الآتي من حوار المُؤلِّف مع الشاعرة سنيّة صالح:

“س: بعدَ انتقالكِ إلى السموات، هل اجتمعتِ بالزوج الماغوط؟

ج: أجل. اجتمعتُ به، ولكنَّهُ فضَّلَ عدم التَّعرُّف عليَّ مُتنكِّراً حصولَ زواج بيني وبينه. وعندما حاولتُ تذكيره بابنتيه (شام وسلاف) قال عنهُما: إنَّهُما نجمتان يهديانه لقراءة ما على الأرض من ياسمين وحوادث وشعر حديث.

س: ولمْ يقُم بلمِّ شملكِ زوجةً كانت له، أو يدعوكِ إلى فنجان قهوة أو كأس في أحد هذه الأمكنة الفاخرة؟

ج: بالعكس. تكلَّمَ معي بلُغة تُرابيّة باردة، وأخبرَني بأنَّهُ خرَجَ من سجنين كانا في حياته في سورية: سجن المزة وسجن سنيّة. بعدَها أطلَقَ ضحكة لم أعهَدْها عندَهُ من قبل، ثُمَّ اختفى بينَ الأعشاب التي كانت في ذلكَ السّاحل.

س: أشعرُ بأنَّكِ تُحاولينَ الانتقامَ من البعل القديم؟

ج: لا. فبقدر ما حطَّمَني في الزمن القديم، فأنا لا أملكُ الرّغبة بتحطيم تمثالِهِ هُنا أو هُناك. ولا بعبادتِهِ كقدّيس خالٍ من الذنوب والخطايا”.

عَنِ التَّقليب التَّأويليّ للأسئلة المُهيمِنة على ذوات الشعراء الوقائعيّة في نِسْيَاقات الحوارات

يَستجيبُ دازِنُ المُؤلِّف المُنفصِم في حركيّته الجدَليّة التَّخارُجيّة مع ذوات الشعراء الوقائعيّة للأفكار والأحاسيس والرُّؤى التي لطالما هيمنَتْ على حياتهم الدنيويّة، وانتقلَتْ ندوبُها وهواجسُها ومَخاضاتُها في كثير من الحالات لتقُضَّ مَضاجِعَهُم أو لتكونَ عَوامِل مُؤرِّقة لهُم حتّى في عالم الغيب، حيثُ يلتحِقُ المُؤلِّفُ إلى حدٍّ ملحوظ في نسْيَاقاتِهِ المَفتوحة على المَجاز والاستعارة والرمز بأساليب الوجود التي تشغَلُ بالَ أولئكَ الشعراء الذينَ غادروا عوالمهُم الوقائعيّة نحوَ العالم الأُخرويّ، ولم تُغادرْ ذواتهُم السَّماوية تلكَ الحيوات الماضية، كأنَّ لعنةً أبديّةً تنكَأُ باستمرار جراحَهُم أو آلامَهُم القديمة، وتُنغِّصُ عليهِم عوالمهم العُلويّة، وهوَ المَنفذ المُحكَمُ الذي يتسلَّلُ عبره التّقليبُ التأويليّ لدازِن المُؤلِّف ليبسطَ مسافات توتُّر جديدة تفتَحُ البابَ من ناحيةٍ أُولى لإضاءة تفاصيل الشعراء القديمة، وربّما المسكوت عنها، أو غير المُفكَّر فيها، وتضخُّ في هذه الإضاءة من ناحية ثانية كثيراً من التمويه والالتباس وتعليق الأحكام وإرجاء المَعاني، بما يضمَنُ لشعرية (الحوارات _ السِّيَريّة) نسْيَاقات مُتعدِّدة الطّبقات الدَّلالية.

في حوار المُؤلِّف مع جبران خليل جبران تبدو الأسئلة كأنَّها تحقيق سُلطوي تملُّكي واستحواذي مُتعالٍ من قِبَل دازِن المُحاوِر، لكنَّ نجاة هذا الحوار من فخّ الحقيقة اليقينية المُغلَقة يتمُّ عبرَ نقل أساليب وجود الصراع الوقائعي الأرضي الذي نغَّصَ حياة ذات جبران خليل جبران إلى فضاء مُوارِب ومُشوَّش يستنطِقُ بتفاصيلِهِ أيقونة الشاعر باستحضار المسكوت عنه، وتخليق تمويه تخارُجيّ نسْيَاقيّ مُتكِئ على مَجازيّة مُشبَعة بفنّ الحذف، حيث تبدو الذات الوقائعية للوهلة الأُولى كأنَّها تُجيبُ على الأسئلة التّقليبيّة التأويليّة للجوانب الوقائعيّة التي هيمَنَتْ على تشكيل الذات المُبدِعة للمُحاوَر في الحياة الماضية إجابات مُباشرَة وسلِسة وواضحة، لكنَّ تعمُّقَ القارئ في تحليل تلكَ الإجابات يكشفُ أنَّ المُضمَرَ في السّطح البصَريّ العميق أخطَر من المكشوف عنه في السّطح البصَريّ الظاهريّ، وهذه حكمة فنية شِعريّة تسِمُ تخارُجيّة النِّسْيَاقات في مَواضِعَ كثيرة، إذ إنَّ الحركيّة الجدَليّة التبادُليّة زمكانيّاً بين شُروخ الذات الوقائعية الماضية، وانتقال هذه الشُّروخ إلى عالم الغيب بما يُضفيهِ عليها من رُؤىً تأمُّليّة، أو مُراجَعات قد تكون تصالُحيّة، أو قد تؤدّي في الأغلب إلى زيادة الشُّروخ تأزُّماً، وإغراقِها بالقلَق المُزمِن والعسير بالمعنى التثبيتي في علم النَّفْس، ليحفظُ كُلُّ ذلكَ صورةَ جبران خليل جبران في هذا الحوار من السقوط في فخّ مُطابَقة الأبعاد الاسترداديّة للعوامل الوجودية المُهيمنة عليه في عالمه الرّاحِل، والاحتفاء النِّسْيَاقيّ بتشتُّت تلكَ العوامل وتبعثُرِها مَجازيّاً عبر مسحة ارتيابيّة تُبقِي دلالات الحوار مَفتوحة باستمرار:

“س: هل تجد بأنَّ السُّلطتين العائليّة والعُثمانيّة، قد ضغطتا عليكَ، لتنموَ أو تنفجِرَ تأليفاً في بوتقة التّمرُّد الأدبيّ؟

ج: أنا وُلِدْتُ مُشتَّتاً بالمعنى الوجودي: أمٌّ مارونيّة بثلاثةٍ من الأزواج، مع كُلّ ما يترتَّبُ على ذلكَ الواقع الاجتماعيّ من مَصائِبَ ومَشاكِلَ وكَوارِثَ. وأب مُنِحَ للخمر والقِمار والدّروب التي جلبَتْ للعائلة كُلّ الشقاء والمرض والحرمان والكآبة.

س: هل كانَ ذلكَ الوضع الكارثيّ للعائلة، هوَ الذي تسبَّبَ لكَ ببعض المَصائِب معَ رُموز بيئتِكَ  في (بشرِّي)؟

ج: ماذا تقصد؟

س: ثمَّةَ مُنغمِسونَ بالاعتداء الجنسيّ على من كانوا بأعمار جيلِكَ، حسبما يقولُ بعضُ المُؤرِّخينَ السِّرِّيِّينَ. ما صحّة ذلكَ برأيكَ؟

ج: هذا كلامٌ افتراضيّ، بُنِيَ ليكونَ صدىً سيِّئاً لأوضاعٍ، كانت مُزرية في وقتٍ عصيب، لم يستطِعْ الجسَد أثناءَها، تلمُّسَ الحقيقة بوضوحٍ كامِل. كانَ اغتصابُ بعض رجال الكنيسة للغير، لا يُعَدُّ من الذنوب الكُبرى. كانَ ذنباً بارداً عندَ الشعوب القديمة في لبنان، ولم تحُدّ منه بعض العقوبات الرّادِعة، لأنَّهُ تسلية دينيّة للتَّفريغ عن احتياجات قساوِسة مَحرومين فقط”.

إنَّ لعبة دفع الشعراء الموتى للسير على الخيط السري الرّفيع لخُصوصياتهم وهواجسهِم المسكوت عنها في حيواتهم الوقائعيّة، ليسَ سوى حفر تأويليّ في مَكنونات الهواجس المُهيمِنة عليهم والمسكوت عنها في الأغلب، أو التي يتمُّ عادةً تناسيها أمام طُغيان حُضورهِم بوصفهِم أيقونات ذات صوَر نمطيّة سائدة ومُستقرّة، في حين أنَّ هذه الهواجس المُهيمِنة تستمدُّ أهمَّيتها القصوى بوصفها العوامل الوجودية التي كوَّنتْ ذوات أولئكَ الشعراء الوقائعية والشعريّة النّصيّة، وربّما امتدَّتْ حتّى لتؤثِّرَ على نظرياتهِم الخاصّة بالشعر. وهذا التقليبُ التأويليُّ الذي ينكَأُ الجراحَ والآلام، ويقتحِمُ المَناطِقَ الحسّاسة في تلكَ الذوات يبثُّ في النِّسْيَاقات قوى جذب دلاليّة توقِعُ المُتلقّينَ في حبائلها، حينما يجدونَ أنفسهُم لاهثينَ وراء فِخاخ تكتسي بلَبوس تمويهي يدَّعي استرداد العالم الزمكاني الوقائعي للأيقونات الشعرية وكشف المَخبوء فيه، لكنَّ مُحصِّلة آليّات التَّخارُج لا تلبث أنْ تغدرَ بآفاق توقُّع المُتلقّين عندما يشعرونَ أنَّ الحوارات لا تسدُّ الفَجوات القديمة، بقدر ما تفتحُ فَجوات جديدة، وهُنا مكمَنُ الفرادة والمُفارَقة الشِّعريّة التي تموجُ بألاعيب التّمويه والالتباس، وتحتفي بالتشويه والتّزوير في مَواضِعَ كثيرة، وتنزعُ ألفة المَعاني عبر تعليقها مَجازيّاً بأنماط من قصديّات مُشبَعة بسوء الفهم وفنّ الحذف الذي يُخلخِلُ وَحدةَ الذات الوقائعيّة، ويجعَلُ الانزياح النِّسْيَاقيَّ نمَطاً من النَّوَسان الزّائِغ كأنَّهُ كرنفال للشكّ والخطأ لا للحقيقة واليقين، من دون أنْ نُغفِلَ اتّكاء هذه الآليّات من حيث المبدأ على الثغرات البِنيويّة الهشّة في تكوين الشعراء الراحلين. فلنقرأ الآن الجزء الآتي من حوار المُؤلِّف مع الشاعر نزار قباني، والذي يتضمَّن إشارات كثيرة تغمز من قدرة الشاعر الجنسية تحديداً

“س: ولكن لا نساء كما نرى، سوى الدُّمى هُنا. كيفَ يعيش نزار من دون تلكَ المخلوقات؟

ج: أنا في إجازة الآن. وثمَّةَ من يُحاوِلُ قتلَ فيروسات الأنوثة في أعماقي، لأستبدلَها بعبادة إناث الطير، والسقوط في تخت الدجاج البلدي.

س: هل هذا كُلّ ما يُمكِنُ أنْ تُجيبَنا عليه، أم وراء الإجازة ما يدعو للقلَق؟

ج: إذا أردْتَ أنْ تفتَحَ باباً في رأسي بحثاً عن الحقائق، فسأفتَحُ عليكَ بابَ الجحيم. لذلكَ سأختصِرُ القولَ، بأنَّني أمرُّ بمرحلة صعبة من العُزلة، وممنوعٌ من النساء. هُنا أهدوني قُطعاناً من الدُّمى الجميلة لأتسلّى بأحاديثها وأقضي بها على حالات التَّرمُّل العام في هذا المكان. لكن هذا لا يمنَعُ من التلصُّصِ على اللحوم البضّة من وراء تلكَ الأسيجة.

س: هل كانَ الشاعر نزار قباني حافِلاً بانتصارات لصالح بيولوجيّة الجسد جنسيّاً؟

ج: لا يُصدقنَ أحدٌ بأنَّني حقّقتُ ذات يوم انتصاراً في الجنس. كنتُ فقط، أقتحِمُ السريرَ اللُّغويّ، وألعَبُ بأثداء الكلمات. كُلُّ ذلكَ حدَثَ، من أجل أنْ تنتقِلَ حرارة تلكَ المَشاهِد إلى النساء، فيسقُطْنَ قرابينَ للشهوة التي تُفرِزُها القصائد في لُحومهنَّ وفساتينهنَّ وعطرهنَّ وآهاتهنَّ. كنتُ لاعباً ماهراً في تجنيس اللُّغة، ووضعِها  تحتَ تصرُّف المَشاعِر الثمِلة المُستعجِلة لمُمارسة الحُبّ بشكل لا بأسَ به. بعبارة أدقّ، أنا أوّل من ألبَسَ القصيدة بنطالَ جينز، وكسَرَ لها القُمقمَ لتنطلِقَ هائمةً على وجهِها في الشوارع”.

وعلى هذا النحو البراغماتي، تتلاعَبُ قصديّات التَّخارُج النِّسْيَاقيّة بالعلامات، مُمعِنةً في تحريرِها من سجن البُعد الأحادي عبرَ العبَث التراجيديّ _في الأغلب_ بالأرشيف السِّرِّي للشعراء الموتى، وهوَ الأمر الذي يُمعِنُ بواسطتِهِ دازِنُ المُؤلِّف المُنفصِم في تعويم مُناخات الارتياب الوقائعيّ التي لا تنجو من مُهيمناتِها حياة هؤلاء الشعراء حتَّى في عوالمهِم الغيبيّة، ولذلكَ تنبسِطُ أساليبُ الوجود مَشهديّاً انبساطاً يذخرُ بتشابُكات الصراعات الوجودية القديمة، وما تنطوي عليه من نقاط ضعف وهشاشة تُفتِّتُ وَحدةَ ذوات الشعراء الموتى انطلاقاً من ماضيهم الوقائعيّ الرّاحِل، وبهذا الشكل تتفاعَلُ فضاءات هذه الصراعات بصَريّاً لتهزَّ استقرار الشعراء بوصفهِم أيقونات مُنجَزة ومُطمَئِنّة بما تنطوي عليه صورهُم من نمطيّات مُسَبَّقة، يُؤدّي استنطاقُها في نسْيَاقات الحوارات المُتخارِجة في أحيانٍ كثيرة إلى استدراجهم من قِبَل دازِن المُؤلِّف المُنفصِم إلى زوايا يُحاصِرُهُم فيها، لا كي يتملَّكَهُم عبر سُلطة ذاتِهِ الاستحواذيّة والقَبْليّة، بل ليُتيحَ للحوارات أنْ تُخلخِلَ الماضيَ الراحلَ والغِيابَ الحالي في آنٍ معاً، عبرَ دفع ذوات هؤلاء الشعراء الوقائعيّة للجلوس في بعض المَواضِع على كراسي الاعتراف، مُتحرِّرينَ من هواجسِهِم التّكوينيّة، وممّا قد يُسيء إلى صوَرِهِم، بما يُشبِهُ الجلوس أمام طبيبٍ نفسيٍّ تنكأ أسئلتَهُ كُلَّ الجراح أو المَحظورات أو حتّى الفضائح، وذلكَ في أساليب وجود تخارُجيّة نسْيَاقيّة لا تخلو في مرّات عديدة من العُمق التراجيديّ الذي تنطوي عليه بعض جوانب الذوات الوقائعيّة لأولئكَ الشعراء. لنلاحِظ الجزء الآتي من حوار المُؤلِّف مع الشاعر أحمَد شوقي:

“س: كنتَ من أعلام المدّاحين للخديوي، ليسَ لكونِهِ عادِلاً أو ديمقراطيّاً، بل بتصوُّر أنَّهُ عثمانيّ يحملُ جينات الخلافة الإسلاميّة فقط. أليسَ كذلكَ؟

ج: لقد عشتُ في القاهرة ومدنٍ مصريّة بقصور عُثمانيّة الانتماء، ولكنَّها لم تنتمِ إلى الإسلام بشيء. كنتُ أُنشِدُ أشعاري على وقعِ كؤوس الخديوي وما يُسمَّى بخليفة المُسلمين، فكُنّا نغرقُ بكؤوس الخمر، وأرداف الرّاقصات ليالٍ لا يليها نهارٌ.

س: تعني أنَّ الخليفة خيطٌ من الإسلام الوهمي لخِداع الملايين من بُسطاء مصر؟

ج: بالضبط. ولم يستمرّ (تدبيج) المَدائِحِ على لساني بعدَ تلكَ الحقبة”.

وفي المَنحى نفسه، يُمكِنُ مُلاحظة الكيفيّة التي يتمُّ عبرَها استدراج الشعراء الموتى إلى كراسي الاعتراف الكاشِفة لهواجسهِم ونقاط ضعفهِم الفضائحيّة التي هيمَنَتْ جزئيّاً أو كُلّيّاً على ذواتهِم الشاعِرة والشِّعريّة، مُسهِمةً في تكوين بِنياتهِم الوجوديّة، ويبدو أنَّ هذا الاستدراج التَّخارُجيّ النِّسْيَاقيّ بتفخيخِهِ التراجيديّ لأيقونات بعض الشعراء يُولّدُ قوّة اللّذة الجاذِبة للقارِئ المُتلهِّف لالتقاط بعض الدّلالات الحاسِمة _ولَوْ لمرّة واحدة_ في فضاء رحب وجامِح من أساليب الوجود المُموَّهة والمُلتبِسة والزّائِغة على امتداد (الحوارات _ السِّيَريّة). ولنلاحِظ هُنا كيفَ يُخلخِل النِّسْيَاق التَّخارُجيّ بفجاجة صادِمة وفضائحيّة من جانبٍ أوّل، وذاخِرة بالدَّهشة من جانبٍ ثانٍ، صورةَ الشاعر عزرا باوند في هذا الجزء من حوار المُؤلِّف معه:

“س: هل كانَ سفرُكَ على إيطاليا مُرتبطاً بالمشروع الشِّعري وحده؟

ج: لا لم يكُن الأمر على تلكَ الصّورة بالضّبط. فعلى الرّغم من أنَّ الشِّعر كانَ بمثابة رغيف على طاولة عسكريّة مُشتعِلة بالنّيران، إلّا أنَّنا كُنّا نبحَثُ عن سنَدٍ سُلطويٍّ قويّ، يستطيعُ أنْ يجعَلَ الشِّعرَ طاقة غير معزولة عن حركة الكون.

س: ولكنَّ بعض النُّقّاد يقولونَ إنَّ عزرا باوند (ارتكَبَ أكبَرَ خطيئةٍ في حياتِهِ عندما اعتقَدَ أنَّ الدولة الفاشيّة التي أسَّسَها موسوليني في إيطاليا هيَ تجسيد لهذه الدولة المدَنيّة التي حَلُمَ بها كونفوشيوس). أليسَتْ تلكَ فكرة مأساوية: الجمعُ بينَ الكونفوشيوسيّة والفاشيّة؟

ج: لم تكُن الأمور بمثل ذلكَ السوء. فمثلما دمَّرَت الحرب العالميّة الثانيّة الحُدود بين الدول، دمَّرَت العقول، ولم تعُدْ تُنتِجُ أيّة حكمة إلّا من أفران جهنَّم. بعبارةٍ أعظَم، خلَقَتِ المدافِعُ رُموزَها، فمنهُم من سقَطَ في الهاوية ميتاً، ومنهُم من بقِيَ مُعلَّقاً في الهواء، وهوَ يقرضُ أناشيدَ النّصر المُميت”.

وفي الإطار نفسه الذي يُعرِّي الهواجس التكوينية بهشاشتها المُقلِقة لذوات الشعراء الوقائعيّة، تُمعِنُ قصديّات النِّسْيَاقات التَّخارُجيّة في مُمارَسة اللعب الحُر للعلامات، وفي تخليق مُناخات شِعريّة مُموَّهة ومُلتبِسة، لا تكفُّ عن مُباغَتة أفق المُتلقّي بكُلّ ما يُوقعُهُ هوَ نفسه في حَبائِلِ صدماتِ كراسي اعتراف الشعراء التي تمتَحُ من بحرٍ مجازيٍّ يُشوِّشُ الماضي الوقائعيّ ويُشتِّتُهُ أكثر ممّا يُطابقُه. فها هو ذا الشاعر تشارلز بوكافسكي يُستدرَجُ إلى هذا الفخّ الجَماليّ المُحكَم في الجزء الآتي من حوار المُؤلِّف معه:

“س: هل تمنيتَ لو كنتَ ألمانيّاً كما كانت سُلالة العائلة، ولم تكُن بمسقط رأس أمريكي؟

ج: أبداً. أنا وُلِدْتُ في الجحيم البارد، وذلكَ انتصارٌ لعقلي الذي وجدتْهُ مَسموماً وجاهِزاً بمُختلَفِ الذنوب والجرائم والتَّعسُّف والبغاء والوقاحة. فمنذ اليوم الأوّل لولادتي، وأنا أتمتَّعُ بتغريدِ غربانٍ تملأُ جميعَ ردهات جسمي الذي بقيَ مُواظِباً على تقديم الخدمات للكتابات التي تمَّ لي إنجازُها عبرَ الزمن.

س: وهل من أجلِ ذلكَ تمَّ إعفاؤكَ من الخدمة في الجيش الأمريكي بسبب وضعِكَ النَّفسيّ؟

ج: لا أعرف ما الذي اكتشفوهُ في رأسي أثناءَ تلكَ الاختبارات، ولكنَّني حزنتُ بالتأكيد لعدم مُشارَكتي في الحرب العالميّة الثانية. كنتُ توّاقاً لأنْ أكونَ طوربيداً حربيّاً خاصّاً بتفجير الغوّاصات المُعادِية. إلّا أنَّني تُرِكْتُ اعتباطاً للقتال في الفنادق الرّخيصة ومواخير الجنس والخمّارات التي شكَّلَت الجزء الأعظم من سيرتي الذاتيّة قبلَ الشعر وبعدَ القصص والروايات وزجاجات البوربون والويسكي الفارِغة”.

 لعلَّ استدراج الذات الوقائعيّة إلى كشف نقاط ضعفها التكوينيّة، أو اقتحام أسئلتِها الشاغلة الخفيّة والتي هيمنَتْ على أعماقها عبر التسلُّل من منافذ هشاشتها البِنيويّة التي انبسَطَتْ في أساليب وجود زمكانيَّتها الأرضيّة، يبلغُ ذروتَهُ الجَماليّة حينما يتَّكِئ هذا الاستدراج على مَشهديّة بصَريّة تنزَعُ ألفة النِّسْيَاقات عبر آليّات تخارُجيّة تقومُ بتخليق عالمٍ مَجازيٍّ رمزيٍّ يحتفي بشطحات فنتازيّة غرائبيّة في مَواضِعَ كثيرة، مُعزَّزاً بفنّ الحذف، وتشويش الدّلالات بالمُفارَقات الشعرية، وتعليق المعاني في فضاءات تفاضُليّة تتصارَعُ فيها التأويلات من دون حسمٍ يقينيّ، وهيَ المَسائِلُ التي لا تخلو أحياناً من لمسات سريالية تحتفي بالأخطاء والشذوذ والتزوير، وتمنَحُ المُتلقّي فرصاً ثمينة للارتماء في ألاعيب العمَل على محوري التركيب والاستبدال، لا للفوز بالمَعاني النّهائيّة المُتوَّجة على عرش هذه النِّسْيَاقات، إنَّما لمُواكبة عناصِر التّمويه والالتباس التَّخارُجيّة المُدهِشة، والتّلذُّذ في لُهاث التَّقليب التأويليّ بين الاسترداد والارتياب بما هوَ تقليبٌ تملَّصَتْ فيه الدوال عبرَ حركيّة التيه والضلال الحُرّة من سُجون مدلولاتِها في كثيرٍ من مَناطِق (الحوارات _ السِّيَريّة)، ومضى اللوغوس البصَريّ لأساليب الوجود المُنبسِطة نِسْيَاقيّاً ليُؤسِّسَ انبثاقاتٍ تراكُبيّةٍ مُعقّدة تسِمُ علاقة دازِن المُؤلِّف المُنفصِم مع ذوات الشعراء الوقائعيّة، وأسئلتِها التي تمدَّدَتْ هَيمنتُها من العالم الأرضيّ إلى العالم الأُخروي للشعراء الموتى. وأُقدِّمُ في هذا المضمار الشاهد الآتي المأخوذ من حوار المُؤلِّف مع الشاعر أندريه بريتون:

“س: يبدو أنَّكَ تحلمُ بالعودة لباريس. هل سبَقَ وأنْ تعرَّفْتَ على كلبٍ برفقةِ سيِّدةٍ تحتَ برج أيفل؟

ج: نعم. وكانَ ذلكَ الكلبُ سُؤالاً ضالاً مثل هذه اللّحظة التي تجري عقارِبُها بيني وبينكَ في هذا المكان.

س: وهل يظنُّ بريتون بأنَّ في السُّؤال نُباحاً مُلوَّناً يُؤثِّرُ على السَّمع أو الرُّؤية؟

ج: أبداً. فالنُّباح من عائلة، والكلب من عائلة أخرى. ولكنَّهُما ينحدِران من نسْلٍ واحدٍ كما أعتقدُ، وهوَ نسْلُ الصَّرخاتِ المُضمَرة داخِلَ اللُّغة”.

إنَّ حركيّة التَّخارج النِّسْيَاقيّة المُحتفِيّة بتقليب أسئلة الذوات الوقائعيّة الشاغِلة والمُهيمِنة على الشعراء، والتي لم تكفّ لحظةً عن استنطاق بُؤر صراعاتهِم الوجوديّة التي حمَلوها معهُم إلى عالم الغيب، لا تهدفُ فقط إلى تعرية المسكوت عنه، أو المَطوي والمُتناسَى والفضائحيّ في أرشيفات ذواتهِم السِّرِّيّة، إنّما تهدفُ أيضاً إلى كشف الأسئلة الوجوديّة الكُبرى بما هيَ أسئلة الحُضور والغِياب بين الحياة والموت؛ أي بما هيَ أسئلة المصير القلِقة التي لا تشغلُ الشعراء وحدهم، بل هيَ أصلاً أسئلةُ الإنسان في كُلّ زمان ومكان ما دامَ هوَ الكائن الوحيد القادر على استنطاق سُؤال الذات والوجود، وبهذا المعنى، تذخرُ أساليبُ الوجود البصَريّة في هذه (الحوارات _ السِّيَريّة) بتفتيق ليبيدو الذوات الشاعِرة والشِّعريّة في آنٍ معاً، بوصفِهِ ليبيدو مُواجَهة القلَق الناجم عن محوريّة الموت بين قطبي (الوجود والعدم)، لا بالنَّظر إليهما على أنَّهُما ثنائيّة تقابُليّة يُمكِنُ حصْرُ دلالاتِها في حدَّي (الحقيقة _ اللّاحقيقة)، لكنْ بالنّظَر إليهما على أنَّهُما فضاء صراعات إرادات القوى الكيانيّة لهؤلاء الشعراء في مواجَهة تهديد الموت والتَّعديم المُستمرّ، وفي تحجُّب المَعنى النّهائيّ الحاسِم أمام هذه المُعضلة الوجوديّة الكُبرى. ومن هُنا يستمدُّ التَّقليبُ التأويليُّ شرعيَّتَهُ الجَماليّة عبرَ اقتحام مَكامِن الخوف والقلَق الخاصّة بهذه المُعضِلة، وتوظيفِها لتخليق شِعريّة تحتفي دائماً بالمُموَّه والمُلتبس والزائغ. وهذا ما نجِدُ جانباً منه في الاعتراف الآتي من قبَل الشاعرة سيلفيا بلاث ردّاً على سُؤال دازِن المُؤلِّف المُنفصِم، والتي انتحرَتْ بالغاز:

“س: هل حدثَتْ لكِ بعض الاختلاطات أو التّناقُضات فيما يدعونَهُ بالهُوِيّة القوميّة أو الوطنيّة: أبٌ ألمانيٌّ. أُمٌّ من أُصولٍ نمساويّة. فيما مسقطُ رأسِكِ في بوسطن الأمريكيّة؟

ج: لا أعتقدُ بوجود مُشكِلة من ذلكَ النّوع. أنا حصَلْتُ على هُوِيّة العدَم بشكلٍ مُبكِّر، كما كنتُ أشعرُ بذلكَ، لذلكَ رحْتُ أتصرَّفُ على ضوءِ ذلكَ في مُختلَفِ المَراحِلِ التي تداخَلَ فيها الموتُ بالعشق بالكآبة بالخيانة بالكتابة بالاستشهاد الافتراضيّ الذي كانَ مُقدِّمة للانتحار”.

وعلى هذا النَّحو، تقتحِمُ أساليبُ وجود النِّسْيَاقات التَّخارُجيّة مَكامِنَ علاقة ذوات الشعراء مع موضوعة الموت الإشكاليّة، بتقليبها تأويليّاً تقليباً يتجاوَزُ البُعدَ الاسترداديَّ المُطابِقَ للحياة الوقائعيّة عبرَ ضخّ الروح الارتيابيّة الاستعاريّة في مَواضِعَ كثيرة، بتوظيف الانتماء الغامض للشعراء لعوالم الغيب المَجهولة من ناحية أُولى، وبتخليق طاقة تخييليّة مَجازيّة حارّة من ناحية ثانية يتجادَلُ في نِسْيَاقاتِها أولئكَ الشعراء فنتازيّاً وغرائبيّاً مع دوال الموت المُولِّدة لمدلولات حُرّة ومُؤرجَحة ونائِسة إلى حدٍّ قادر على توليد الشِّعريّة من الاحتواء الطّبيعي لسؤال الوجود والموت والمَصير على عناصِر التّمويه والالتباس والزّيَغان. فها هوَ ذا المُؤلِّف يُحاوِرُ الشاعر أمل دنقل على الشكل الآتي:

“س: هل يكبرُ المرءُ في الموت أو يَشيخ؟

ج: الموتُ في الميت نظرة مُطفَأة.

س: ماذا عن لحظة الصُّعود. هل ثمَّةَ إيقاع للحظة الغِياب يا أمل؟

ج: لقد وصلْتُ إلى غيابي عن نفْسي وعن الآخَرين بفعل تلكَ الإيقاعات الشِّعريّة الموزونة، وكأنَّها كانت بمثابة أذرُع لمَراوِح عملاقة، تستطيعُ دفعَ المخلوقات من دون استهلاكٍ لبطّاريّةٍ أو تفتُّتٍ لقُوّة، كانت رحلتي على أنين نفاذ. وكنتُ أرتفِعُ على طَرَبِ تلكَ اللّازِمة التي عادةً ما كُنّا نستخدِمُها في التّأليف الشِّعريّ.

س: هل تعتبرُ الموتَ مُصطلَحاً قاتِلاً؟

ج: لا أعتقِدُ ذلكَ. الموتُ دُميةٌ لكُلِّ الأعمار”.

ولا يقِفُ دازِنُ المُؤلِّف المُنفصِم في حركيَّتِهِ الجدَليّة التَّخارُجيّة المُتفاعِلة مع ذوات الشعراء الموتى عندَ حدود استنطاق موضوعة الموت المُقلِقة في صلتِها بالذوات الشاعِرة الوقائعيّة فحسب، إنَّما يمتدُّ التَّقليبُ التأويليُّ ليرصُدَ كيفيات حُضور هذا السؤال الكبير المُهيمِن لدى الذوات الشِّعريّة الافتراضيّة التي بسطَتْ أساليبَ وجودِها المتنوِّعة في نسْيَاقات عوالمها النَّصِّيّة. وهوَ الأمر الذي يُمكِنُ تلمُّسَهُ بجلاء في السؤال والجواب الآتيان من حوار المُؤلِّف مع الشاعر سركون بولص:

“س: أنتَ تمدَحُ الموت، كما لو أنَّهُ توأمٌ شِعريٌّ؟

ج: ولمَ لا؟ فأنا أعتقِدُ بأنَّ بِنيةَ الشِّعر المركزيّة هيَ الموتُ بشكلِهِ الخفيّ. بصورتِهِ غير الحسِّيّة التي تجلبُ للنَّفْسِ الرُّعبَ، وللرّوحِ الانقباضَ. وبالتَّحليل النَّفسانيّ، فهذا الموت المولود معنا منذ لحظة الخُروج من الرّحم، هوَ الظِّلّ الذي بقِيَ مُرافِقي طول العُمر. كانَ الموت هوَ الأقرب لي من الأصدقاء والكتُب والبحار والأحزاب والطّعام. بعبارة أدقّ: كانَ الموتُ الثوبَ المُلتصِقَ بلُطفٍ على الجِلْد، ولم يكُنْ مُتوحِّشاً ولا قذِراً ولا تاجِرَ مطبوعاتٍ شبيه بشايلوك شكسبير الذي ينتزِعُ لحمَ كُلِّ جمَلٍ يمرُّ بدارِ نشرِهِ. ولا مثل تلكَ الأمراض الخبيثة التي تقطَعُ عليكَ الطّريقَ لمُلاقاة الموت بطريقة غير مُروِّعة”.

في جدَليّة دازِن المُؤلِّف المُنفصِم والذّوات الشِّعريّة الافتراضيّة للشُّعراء في عوالمِهِم النَّصِّيّة

تستمدُّ الآليّات التَّخارُجيّة في هذه (الحوارات _ السِّيَريّة) سماتِها الخاصّة، من تعدّد طبقات بسط أساليب الوجود النِّسْيَاقيّة المُحايِثة، ومن تراكُبها الغنيّ عبر تخليق عوالم النصوص وانزياحاتِها الشِّعريّة تأسيساً على تشظٍّ دلاليّ بِنيويّ ينطلِقُ أوَّليّاً من الصِّراع الجدَليّ بين ذات المُؤلِّف الوقائعيّة، بما تنطوي عليه من معلومات ورُؤىً ثقافيّة وأفكارٍ مُسَبَّقة تخصُّ الشعراء المُحاوَرين _وتُمارِسُ شهوة حُضورِها التَّملّكيّ الاستحواذيّ على النصوص، بوصفِها شهوة طُغيان سُلطة الذات المُطابِقة_ وذات المُؤلِّف النَّصِّيّة، بما يفرضُهُ عليها صراعُ التَّخارُج الجدَليّ من تفاعُلات ثرّة مع شهوة تمويه الحُضور القَبْليّ، ومدِّهِ بروح الالتباس الشِّعريّ عبر ألاعيب توليد المَجازات، وتشويه الثَّوابِت واليقينيّات، والتحرُّك الحُرّ المُتراقِص مع العلامات تزويراً وتشويشاً وإرجاءً للمَعاني وتحريراً للدَّوال من قبضة المَدلولات المُسَبَّقة. ويتمُّ اختبارُ هذه الآليّات المُعقَّدة بتأثير التّصادُم والتَّزاحُم الجدَليّ عبر التَّفاعُل مع مُستويين مُتراكبين من جهتهِما أيضاً: أوَّلهُما قارَبناه في المحورين السابقين من القراءة، ويرتبط بصِلة دازِن المُؤلِّف المُنفصِم مع الذّوات الشاعِرة للشعراء في عوالمهم الوقائعيّة، وثانيهما مُرتبط بصِلة ذلكَ الدّازِن مع الذّوات الشِّعريّة الافتراضيّة للشعراء في عوالمهم النَّصِّيّة، حيثُ إنَّ تفاعُل المُؤلِّف المُنفصِم جدَليّاً مع الذوات الشعريّة الافتراضيّة في قصائِدها المُنجَزة، أو بمعنىً أدقّ: في تجارِبها النَّصِّيّة، يزيدُ من التباس قصديّات التَّخارُج، ويُعمِّق من تعدُّديّة طبقات الدَّلالة، وينزاحُ بالحوارات من مُستوى الوثيقة التّاريخيّة، إلى مُستوى الوثيقة الفنِّيّة الجَماليّة، ولا سيما أنَّ أيَّ غوص في فَجوات أساليب الوجود المُنبسِطة في عوالم هذه النصوص، سيزدادُ حيويّةً وخُصوبةً وتوليداً للحركيّات والتَّحوُّلات والتَّغيُّرات نسْيَاقيّاً طالما أنَّهُ يقودُ أو يُقادُ تخارُجيّاً جَرْياً خلفَ كثافة مَجازيّة أعلى تتعلَّقُ في أصولِها بذوات الشعراء في قصائدها، وما ينطوي عليه ذلكَ من أسئلة وخلافات وتأويلات ودلالات مَفتوحة وقابلة للتَّنقيح الدائم والتَّقليب التّأويليّ الرّحب ووضع الكثير من الأحكام بينَ أقواس الإرجاء، وهيَ العناصِرُ التي تُعزِّزُ إلى حدٍّ بعيد بثَّ الحوارات طاقاتٍ شِعريّة لا تكفُّ عن أُغواء المُتلقِّي بالحفر في دُرَر المَعنى الهارب باستمرار. لنقرأ من حيث المبدأ كيفَ تُعرِّفُ الذات الشِّعريّة الافتراضيّة للشاعرة غابرييلا مسترال الشاعرَ انطلاقاً  من أساليب وجوده الراسِخة تجربةً وتجريباً في عوالم قصائده:

“س: هل يليقُ بالشاعر أنْ يُشبِهَ بقرةً؟ ألَا يُشكِّلُ ذلكَ انتقاصاً ما بحقّ الشِّعر؟

ج: لا أعتقدُ أنَّ ثمَّةَ خطأً فيما ذهَبْتُ إليه بذلكَ التَّشبيه. الاثنان حيوانان. واحدٌ ناطِق بالكلام والثاني ناطق بأسرار الخوار. فإذا كانَ الشاعر بقرة أدبيّة تدِرُّ قصائدَ، ولا ينتفِعُ منها الناس إلّا في حالاتٍ نادِرة تخصُّ ضرورات صيانة أذواقهِم من الروتين والرتابة والتَّصحُّر والقلَق، باعتبار الشعر من عَوامِل تخريب الأجسام الهادِفة لإعادة بناء الحواسّ وفقاً للذوق الأدبيّ، فإنَّ البقرة، هيَ الأُثخرى شاعرة حقل، تُدِرُّ حليباً لفائدة مليارات من البشر. حليباً يُرمِّمُ العِظامَ من الكُساح ويطردُ الأمراضَ”.

لعلَّ اصطدام دازِن المُؤلِّف المُنفصِم اصطداماً جدَليّاً بحُضور الذات الشعرية الافتراضيّة في عوالمها النَّصِّيّة يستدعي تلقائيّاً تشغيل عنفات التخييل، ليس فقط لبسط أساليب وجود شعرية مُموَّهة ومُلتبِسة في (الحوارات _ السِّيَريّة)، إنَّما أيضاً لإعادة قراءة اليقينيّات السّائدة حول قصائد هؤلاء الشعراء وتنقيحها وتأويلها، ومُلامَسة كيفيات وجودهم الذّاتي في فضاءاتها، بغية استنطاق الغائِب مسكوتاً عنه أو غير مُفكَّرٍ فيه، حيث يتمُّ التَّحرُّكُ تخارُجيّاً بإشباع النِّسْيَاقات بروح الارتياب المُفتِّت لسكونيّة الاسترداد المُنجَز، وهوَ الأمر الذي يفتَحُ أفقَ الصراع على أفق المُتلقّي الذي يلتحِقُ بمناطق نزع الألفة كالمُنتشي سُكْراً، أو كالمُسَيَّر المُتلذِّذ خلفَ تسارُع خُطى اللّعب الحُرّ للجُمَل (بوصفها كما قلنا من قبل وَحدة العلامة القابِلة للتأويل عند ريكور)، لتستمرَّ نسْيَاقات الحوارات بتخليق مسافات توتُّر مَجازيّة تُشوِّشُ الدَّلالات من ناحية أُولى، وتُعمِلُ الإيحاء المَفتوح من ناحية ثانية، مُمعِنةً في إدارة الظَّهر في مُعظَم الحالات للزمن الحقيقي أو (المنطقي _ الخطِّيّ)، حيث تتداخَل المُستوياتُ الزمكانيّة في الحوارات مُتوزِّعةً بين التاريخ الأرضيّ الوقائعيّ والتاريخ الأُخرويّ الغيبي، وإلحاقهِما بالتاريخ العابر للأزمان. ولنقرأ الآن هذا الجزء من حوار المُؤلِّف مع المُتنبِّي:

“س: هل أدرَكَ المُتنبّي يوماً، بأنَّهُ كانَ يُؤسِّسُ لمدرسة سينمائيّة في الشعر العربي؟

ج: قبلَ أنْ تأخذَني بهذا السؤال إلى تكنلوجيا المَجاز، فقد كنتُ أقومُ بتطعيم شعري باللُّقاحات اللّازمة المُضادّة للتّصحُّر وأمراض الرّاحة. فالشعر، يجب أنْ يستمرَّ مُقلِقاً، لا مُصاباً بعاهة القلَق.

س: يا أبا الطَّيِّب: أيصحُّ القول إنَّ الشعر عند العرب، ليسَ أقلّ من ترويض الخيل، ولا أعظم من تربية الماء بقلب الصّحراء؟

ج: لا يُمكِنُ ضبطُ سلوكٍ في أثناء عمليّات التّرويض أبداً، أوّلاً، لأنَّ الشعر ليسَ بالحيوان المَتروك لعمليّات التّرويض وحدها. وثانياً، ما كُلُّ مُروِّضٍ يقدر على كسر جبروت الشعر، ويجعَلُ منه كائناً مُطيعاً.

س: وأنتَ. كيفَ كانت صنعةُ الشعر لديكَ؟

ج: صنعةُ مَنْ فجَّرَ في اللُّغة نبعاً، وصعَدَ به طُلوعاً إلى أعالي الجبال”.

وهكذا، يُعمِّقُ دازِنُ المُؤلِّف المُنفصِم عبر جدَليَّتِهِ التَّخارُجيّة مَفاعيلَ الحُرِّيّة المُتخفِّفة نسْيَاقيّاً قدر المُستطاع من سُلطة الذات الوقائعيّة المُسَبَّقة له، بتركِ ذاتِهِ النَّصِّيّة تُراقِصُ في الحوارات الذوات الشعرية الافتراضيّة للشعراء في قصائدهِم على وقع خُطى تلكَ الذّوات، وعلى هواها المُشبَع برغبة إحضار حياتِها الشعرية في قصائدها، وبسط أساليب وجودها المُتنوِّعة كما كانتْ تعيشُها في عوالمها النَّصِّيّة، لتنطويَ نسْيَاقات الحوارات تخارُجيّاً على مُحصِّلة جدَليّة مُتراكِبة بقدر ما تُعيِّنُ صورةً ما للذات الشعرية الافتراضيّة للشاعر في قصائدِهِ، تُشتِّتُ هذا التّعيين، وتُفتِّتُ وَحدَتَهُ وتُبعثِرُها عبر آليّات مَجازيّة تحتفي بالتَّحوُّل والتغيُّر والاختلاف، وتتحاشى إلى حدٍّ بعيد فخَّ السقوط في ثنائيّة (الحقيقة _ اللّاحقيقة)، إذ يتلاعَبُ فنُّ الحذف بالدَّلالات عبرَ توليد سوء فَهم عالي التّكثيف المَجازيّ والرمزي، ولا يخشى ألاعيب التّمويه والالتباس للفوز في النسْيَاقات بشعرية تُشوِّه وتُزوِّر أكثر ممّا تُفسِّر وتوضح وتؤكِّد. ولنلاحِظ في هذا الموضِع أساليب الوجود المنفتِحة في الجزء الآتي من حوار المؤلِّف مع الشاعر لوتريامون:

“س: أنتَ شاعرٌ صادِمٌ، لا تغفرُ للقارئ أنْ يتولَّى حتّى رعايتَكَ بشيءٍ من الشفقة. لا تريد منه إلّا أنْ يقذفَكَ بحجارةٍ من سجيل أو قنبلة فراغيّة. فهل كنتَ ساديّاً إلى ذلكَ الحدّ يا جَناب الكونت لوتريامون؟

ج: لأنَّني لمْ أرَ أمامي قارِئاً واحِداً مُطهَّراً من اللّعنات والذنوب، وهوَ على قيْد الحياة. كانوا جميعاً من رُكّاب الجحيم، يومَ كنتُ سائقَ قطارِهِ على سكك لُحوم، تصلَّبَتْ، فأخذَتْ من الحديد قوَّتَهُ وصلابتَهُ على تحمُّل دَوْس العجلات.

س: ألذلكَ قلتَ مُحذِّراً: (ليسَ من المُستحسَن أن يقرأَ الجميع هذه الصّفحات التي ستجيء… إنَّها مليئة بالسُّموم… ومليئة بالكُفر والإلحاد). أهوَ الاستغراق في السّاديّة أم التَّلويح بالإنذارات؟

ج: أنا لم أُحذِّرْ. أنا أخذْتُ القارئَ إلى غرفة الإعدام اللُّغويّ، وأقفلْتُ عليهِ الأبوابَ ليمتلِئَ برائحةِ الجيَفِ وبرائحةِ اللُّحومِ التي غادَرَتْها الأرواحُ إلى مُستوطنات الأبَد. أمّا السّاديّة التي تتحدَّثُ عنها، فهيَ من خردوات المَعنى النَّظَريّ للألم ليسَ إلّا. بينما عمَليّاً، فأنا أسَّسْتُ لهذا المرَض في الكتابة حتَّى قبلَ ظُهور (الماركيز دي ساد) من رحم تلكَ الخنفساء الشريرة”.

وعلى هذا النحو، تتموَّهُ وتلتبِسُ الصِّلةُ التَّخارُجيّة المُتراكبة جدَلياً بحِنكة بين ما يُريدُهُ دازِن المُؤلِّف المُنفصِم، أو بين ما يقودُ إليه بطريقة زائغة حركيّةَ النِّسْيَاقات، وما تبسطُهُ بحُرِّيّة الذواتُ الشعريّة الافتراضيّة الموجودة في عوالِمِ قصائدِها من أساليب وجود تخلقُ بُؤراً دلاليّة ارتيابيّة، وتفتَحُ فضاءات الحوارات، ولا سيما عبرَ تحالُفٍ مُحايِثٍ وخفيّ بين السّائل والمُجيب، أو عبرَ تفاوُضٍ جدَليٍّ مُتراكِبٍ يتبادلانِ بواسطتِهِ المَواقِعَ، مُولِّدَيْنِ انزياحاتٍ تتصارَعُ فيها إرادات القوى، وتتفاضَلُ فيها التأويلاتُ التي تتنقَّلُ بين الفَجوات كي تُقلِّبَ المَعاني، وتنتخِبَ بعضها _ولَوْ آنيّاً_ بما يبدو استجابة لألاعيب الإيحاء والترميز والتَّشفير التي تمتَحُ في مَواضِعَ كثيرة من الاعترافات المُخلخِلة لنمطيّة صورة الأيقونات الشعريّة، والمُنطوية إلى حدٍّ كبير على مُفارَقات ذكيّة وصدمات باذخة. وهذا ما يُمكِنُ أن نتلمَّسَهُ في الجزء الآتي من حوار المُؤلِّف مع الشاعر محمود درويش:

“س: ولكنَّ الحشمة في الشعر هيَ الأمِّيّة في جانبها المُظلِم والمُدمِّر؟

ج: الحُرّيّة في الشعر نوع من الانتحار أحياناً. تأكَّد من ذلكَ كما أقول.

س: هل هيَ بمثابة الشيطان برأيكَ؟

ج: وأهمّ من الشيطان نفسه، لأنَّها الصَّيرورة التي يستمرُّ فيها كُلُّ بناءٍ عبرَ التَّحوُّلات العميقة.

س: وتخافُ على القصيدة فيما لو تستمرّ؟

ج: كُلُّ ما كتبتُهُ كانَ تعبيراً عن خواصّ ما تزالُ تئنُّ في باطني. وأنا خائف منها حتّى الآن.

س: خواصّ تعمَلُ ضمنَ نوع من الدّيالكتيك النَّفْسي تقصد؟

ج: أنا أعتقدُ بأنَّ منشأ كُلّ شعريّة، إنَّما هوَ صراعٌ خفيّ بين مُختلَف التّيّارات العاطفيّة والسّياسيّة والاجتماعيّة. ولكنَّ الكثير من الشعراء لا يُدركونَ أنَّ حقيقة الشعر هيَ بالأصل لاهوتيّة. وأنا تعلَّمْتُ الشعر من سِفْرِ التكوين ومن الأساطير والألواح أكثر ممّا تعلَّمتُهُ من مدارس الشعر الواقعيّة أو الاشتراكيّة أو السورياليّة أو الرّمزيّة”.

وفي المَنحى نفسِهِ، أستشهِدُ بالجزء الآتي من حوار المُؤلِّف مع الشاعر ت.س.إليوت:

“س: هل تُؤمِن بالعرّافين؟

ج: بكُلِّ تأكيد. فالشاعر الذي وُلِدَ وترعرَعَ في كُهوفي الباطنيّة، يُؤمِنُ بأنَّ الشعر قراءة في المَجهول وتأويل لأحداث الشاعر الدّاخليّة المُتلاطِمة مع حركة سير الكائنات في الخارج. وإذا ما حدَثَتْ خربطةٌ بين الدّاخِلِ والخارِجِ، فإنَّ الاحتكام للعرّاف ضرورةٌ لابُدَّ منها. أتعرف لماذا؟ لأنَّ العرّاف أشبه بمُدير مصرف، عادةً ما يملكُ القُدرةَ على إقراضِنا أحلاماً يُمكِنُ التَّصرُّفُ بها، ولَوْ بشكلٍ وهميّ”.

إنَّ المُحصِّلةَ التَّخارُجيّة النّاجِمة في هذه النِّسْيَاقات عن تراكُبيّة الجدَل بين دازِن المُؤلِّف المُنفصِم الذي تتصارَعُ في حركيّتِهِ التَّخارُجيّة هذهِ سُلطة ذاتِهِ الوقائعيّة ورغبة انفكاكِهِ التخييلي الافتراضيّ من قيودِها، لا تكتفي باستنطاق الذوات الشعريّة الافتراضيّة للشعراء في قصائدهِم بوصفِهِ استنطاقاً لأساليب وجودهِم فيها فحسب، إنَّما يلتقي ذلكَ بعُمق مع بِنياتِهِم المعرفيّة والثقافيّة المُؤسِّسة لنظرياتِهِم الشعرية، وهو العامل الذي يُغني الحوارات، ويفتحُها على شهوة اقتحام أيقونات الشعراء ليسَ لخلخلتِها عبر المَجاز والرَّمز الناهضين على التشويه والتزوير المُبدِع فحسب، إنّما أيضاً لسبر مَعالِم الصراعات التي تنطوي عليها أساليب وجودهِم المُتنوِّعة في قصائدهِم بين مُسَبَّقات وقائعيّة وشعريّة وتنظيريّة، وفَجوات يُمكِن التسلُّل منها بحِنكة اللعب بين المُتحجِّب وغير المُتحجِّب (المُنكشِف)، وذلكَ لمُحاوَرة المسكوت عنه أو غير المُفكَّر فيه تمويهاً والتباساً يُحرِّر الدَّوال من قبضة المَدلولات القَبْليّة من جانب، ويُبقي النِّسْيَاقات مُغوِيةً في حركيّة مَخض الغِياب القلِق، والذي قد تُؤدّي مُحاصَرة ذوات الشعراء الافتراضيّة بتلبُّس دور المُحقِّق من قِبَل المُؤلِّف الذي يطرحُ كثيراً من الأسئلةً الصِّداميّة، إلى انتزاع اعترافات ثرّة لا تَعني بطبيعة الحال تسلُّط دازِن المُؤلِّف المُنفصِم تملُّكيّاً أو استحواذيّاً على ذوات الشعراء، ولا تمنعهُم في الوقت نفسه من الدِّفاع عن ذواتهِم الشعرية بصلابة جَماليّة عارِمة. وأظنُّ أنَّ الجزء الآتي من حوار المُؤلِّف مع الشاعر أنسي الحاج يُظهِرُ بعض مَعالِم ما أرمي إليه هُنا:

“س: هل واجَهَتْكَ اللُّغةُ ذاتَ يومٍ باعتراضٍ على شعركَ؟ بمعنى هل سبَقَ وأنْ أسمَعَتْكَ مرّةً، وهيَ تقول: ما تكتبُهُ يا أنسي ليسَ شعراً؟

ج: ليسَ من حقّ اللُّغة أنْ تقولَ ذلكَ لأحد. فالخوف من اللُّغة، ليسَ قراراً بإلغاء أعمال التّأليف، أو استبدالِها بمُمارَسة مِهَن أخرى. ولولا الشِّعر لأصبَحَتْ جميعُ اللُّغات مَدافِنَ للشُّعوب.

س: هل سبَقَ وأنِ اعتقَدْتَ بوجود شروط تخصُّ التأثُّر بالآخَر؟

ج: أنْ تتأثَّرَ من دون انحناء، ففي الشعر موادّ خام من السِّحر، وعليكَ ألّا تستعمِلَ ذلكَ التّأثُّر عن طريق الحشو بتلكَ المَعادِن.

س: أنتَ حرَّرْتَ الشعر من الأقفاص في البدء. ولكنَّكَ وقَعْتَ في مطبِّ الخواتم. ألا تفرضُ كتابات من ذلكَ القبيل، نمَطاً لا ينسجِمُ معَ الرُّؤية الانفتاحيّة الأُولى لمَسيرتِكَ الشِّعريّة التي بشَّرْتَ بها؟

ج: في بدايات حياتي، عشْتُ مُراهَقةً شِعرية نادِرة. كانتِ اللُّغةُ عندي مجموعةً أسماكٍ تتقافَزُ في سلّةِ الرَّأس فوقَ بعضِها. وكنتُ ميّالاً لضرب كُلِّ المَخاوِف التي عادةً ما يخشاها الشعراء. تلكَ المُتعلِّقة بالأوزان وبالقوافي وبالرَّتابة وبالنَّمطيّة. وهكذا مضيْتُ من دون أنْ ألتفِتَ لأحد”.

وكذلكَ يُمكِنُ أنْ نقرَأَ هذه الروح التَّخارُجيّة (التَّحقيقيّة _ الاتّهاميّة) التي تستدرجُ الذوات الشعرية الافتراضيّة في حياتِها النَّصِّيّة إلى كراسي الاعتراف، من دون أن تنتزِعَ منها حُقوقَها في بسط أساليب وجودها النِّسْيَاقيّة بحُرِّيّةٍ مُفاجِئةٍ ومُباغِتةٍ وكثيفةِ الدّلالات الشعرية الصّادِمة من جانبٍ أوّل، والزّائِغة من جانبٍ ثانٍ، في هذا الجزء من حوار المُؤلِّف مع الشاعر محمّد الفيتوري:

“س:  هل يعتبرُ الفيتوري نفسَهُ مُجدِّداً؟

ج: لا أبداً. لقد أبقيْتُ على نفْسي طائعاً داخِلَ الشعر. وأنا أشعرُ بلذّة في هذا الخُصوص. الحُرِّيّة تتطلَّبُ حركات تمرُّديّة ضخمة. وأنا كسول. وربَّما لأنَّ أحداً لم يُسعِفْني بالتَّخلُّص من تلال التُّراث الشعري والدّيني على حدٍّ سواء.

س: وهل وَجَدَ الفيتوري في الشعر ما يُشبِهُ الفلك بمعناه اللُّغوي؟

ج: وجدْتُ ذلكَ في الأساطير وحدها. أمّا في المَغزى العميق، فالشعر العربي لم يستطِعْ توظيفَ الأسطورة شعرياً، إلّا بشكلٍ سطحيٍّ عابِر.

س: وأنتَ؟

ج: أنا استَجْلَبْتُ السِّياسةَ للشعر، حتّى بلَغْتُ العمى.

س: وهل فعَلْتَ ذلكَ من أجل أنْ تُعبِّئَ جُيوبَكَ بالمال تحتَ غطاءٍ عُروبيٍّ. أليسَ ذلكَ صحيحاً؟

ج: يُمكِنُكَ أنْ تقولَ ذلكَ. وهيَ ليسَتْ تُهمة في كُلِّ الأحوال.

س: كيف؟

ج: كُلُّ ما قبَضْناهُ من مَبالِغَ وامتيازاتٍ على الأرض، كانَ من المَبالِغ التّافِهة لمالِنا الوطنيّ بالأساس. في حين كانَ مِنَ الأحقِّ، أنْ يجلسَ كُلّ مُبدِعٍ على بئرِ نفطٍ، لأنَّهُ الأجدر بذلكَ من بقايا الرُّعاع الذينَ لم يُؤسِّسوا بتلكَ الثروات سوى صناعة الفضائح والحُروب”.

حولَ التَّقليب التَّأويليّ لنظَريّات الشِّعر

يُؤدي تأسيس الحركيّة التَّخارُجيّة الجدَليّة في حوارات أسعد الجبوري على التَّزاحُم والصِّراع والتَّفاعُل بين دازِن ذاتِهِ المُنفصِمة، والمُستويات المُتراكِبة والمُتوزِّعة بين الذوات الشاعرة الوقائعيّة والذوات الشعرية الافتراضيّة إلى فَتْحِ نسْيَاقات الحوارات على النَّظَريات الشعرية لهؤلاء الشعراء، أو بمعنىً ثانٍ: على البُعد التَّنظيريّ الذي ينهَضُ عليه فَهمُهُم لنظرية الشعر، ذلكَ أنَّ صِلة البُعدين الوقائعيّ الحياتيّ والافتراضيّ النَّصِّيّ، وارتباطِهِما الحركيّ مع عالم الغيب والمَجهول، لا يقبَلُ فصْلاً حدِّياً بطبيعة الحال عن الرُّؤى والأفكار والخلفيّات المَعرفيّة الخاصّة بنظريات الشعر، والتي تنطوي عليها أساليب وجود أولئكَ الشعراء الراحلين في نسْيَاقات النصوص، حيث تبسطُ هذه الأساليب في مَواضِعَ واسِعة ومُتشابِكة حركيّات الجدَل التَّخارُجيّ المُتعلِّق بهُوِيّات الشعراء النظَريّة، وكيفيّات التَّقليب التَّأويليّ للبِنى المَعرفيّة التي انطوت عليها تجاربهُم، بين دازِن المُؤلِّف المُنفصِم وذوات الشعراء الوقائعية والافتراضيّة في آنٍ معاً، لكنَّ هذا الاستنطاق للأبعاد التنظيريّة الخاصّة بأشعارهم وخلفياتها المُختلِفة، لا يتمُّ في مُعظَم الأحوال بطريقة الكتابة الفكريّة المحضة الشبيهة بتأليف الكتب النقديّة أو الدراسات النظريّة، وإن كانت النِّسْيَاقات لا تخلو من بعض تلكَ الملامح، لكنَّهُ يأتي في الأغلب على حامِلٍ مَجازي فنتازي تكون بُؤرتُهُ الأثيرة مُتوضِّعةً في المُستوى التَّخييلي المُحتفي بالخطأ والشذوذ والتشويه والتزوير الفنِّي الذي يُعيد تشييد تلكَ النظريات الشعرية استناداً على أساليب وجود مُموَّهة ومُلتبِسة وزائِغة أكثر منها أساليب يقينيّة مُنجَزة، وهو الأمر الذي يقودُ المُتلقّي من جديد للالتحاق بحركيّة انصهار الآفاق بين المُحاوِر والمُحاوَرين لتلقُّف المُفارَقات الشعرية مَنزوعة الألفة، والتي وإنْ استفادَتْ من تأويل الاسترداد المُتكِئ على بعض المُسَبَّقات النظرية والتنظيرية الشّائِعة، غيرَ أنَّها توظِّفُهُ نسْيَاقيّاً لصالح تأويل الارتياب المُنفتِح تخارُجيّاً على قصديّات مُتراكِبة ومُشوَّشة لا تُرجِئُ فرصةً سانِحةً لاقتحامِ المسكوت عنه أو غير المُفكَّر فيه. ولنقرأ هُنا هذا الجزء من حوار المُؤلِّف مع الشاعر محمّد الماغوط:

“س: هل كانَ شعره (المقصود هُنا أدونيس) عائقاً يَحولُ دونَ التَّواصُل بينكُما؟

ج: كُنّا على تناقُض دائم، ولو بشكلٍ سِرِّيّ. هوَ يحرثُ بحثاً في العدم اللُّغويّ والجوائز والعلاقات الماورائيّة من دون تعب، وأنا أحرثُ في الطّين مُتسلِّياً، أتسكَّعُ معَ الحشرات والزهور والخراف.

س: هل مَعنى ذلكَ أنَّ عديلَكَ العائليّ أفنديّاً في الشعر، بينما أنتَ من مملكة الصّعاليك؟

ج: قد يكونُ ذلكَ صحيحاً، ولكنَّني أُشعِلُ في النُّصوص ناراً من دون الاستعانة ببنزين، بينما يستعينُ أدونيس بكافّة الموادّ الحارِقة التي تُسَهِّلُ إنارةَ نُصوصِهِ أمامَ القارئ، بدءاً بكريم الفازلين، وانتهاءً بقنابل تصريحاتِهِ الفراغيّة التي يُريدُ منها أنْ تُحدِّدَ موقعَهُ من هذهِ الحادِثة أو من تلكَ الأزمة.

س: ألا تعتقدُ بأنَّكَ كثيراً ما تقومُ بالتَّضخيم لتجعَلَ من قصيدتِكَ غراباً يجتمِعُ في حُنجرَتِهِ كُلُّ نقيق غربان العالم؟

ج: قبلَ قليل.. كنتُ عندَ الشاعر الفرنسيّ جاك بريفير، وتحدَّثنا عن دمِ الشعر، وكيفَ يجري في القُرّاء. قالَ لي بأنَّ الشعر مثل حرباء، تستبدِلُ ثيابَها للسَّيطرة على عين القارئ، فيما أنا، أعتقِدُ غير ذلكَ. أظنُّ بأنَّ القارئَ حرامي يسطو على الأشياء الخفيفة والأقلّ خُطورة على حياتِهِ من الشاعر. ولذلكَ يجب إخافتُهُ بالنَّعيق، باعتبارِهِ قوّة تدميريّة للأعصاب، ويستحقُّها القارئ الحسَّاس بجَدارة”.

وهكذا، تتموَّهُ نظريات الشعر في هذه النِّسْيَاقات، أو تلتبِسُ تنظيراتُ شعرائها ما دامَتْ شعريةُ (الحوارات _ السِّيَريّة) تُؤسَّسُ تخارُجيّاً على تقليبٍ تأويليٍّ تفاعُليٍّ يخلقُ مسافات توتُّر مَجازيّ وإيحائيّ بقوّة المُتخيَّل الذي تنطوي عليه أساليب الوجود المُنبسِطة في عوالم  هذه الحوارات، حيثُ يُؤدّي تشويشُ الدَّلالات وإرجاءُ المَعاني والتلاعُبُ الحُرّ خارج المنطق الميتافيزيقيّ لثنائيّة (الحقيقة _ اللّاحقيقة)، إلى توليد مُفارَقاتٍ شعرية لا تخلو من عوامل الجِدَّة والإدهاش التي تمنَعُ المُستوى الإيديولوجيّ الذي قد تنطوي عليه نظريّات الشعر أحياناً من افتراس المُستوى اليوتوبيّ المَفتوح على الأبعاد الفنتازية والغرائبية التي تُخلخِلُ وَحدات الذوات النظرية للشعراء عبرَ خلخلة أيقوناتهِم النّمطيّة انطلاقاً بطبيعة الحال من الذوات الشعرية الوقائعية والذوات الشعرية الافتراضية، وهيَ الآليّات التي تبثُّ في النصوص حبكات مشهدية ثرّة، ومَضبوطة في مَواضِعَ كثيرة على إيقاع فنّ الحذف. فها هو ذا جانبٌ من حوار المُؤلِّف مع الشاعر فلاديمير ماياكوفسكي:

“س: هل القصيدة بنظر ماياكوفسكي آلة على سبيل المثال؟

ج: وأكثر من ذلكَ بالطَّبع. فهيَ بنظري ونظريتي الحتميّة، ليسَتْ إلّا مُجنزَرة شبيهة بالدّبّابات تخوضُ معارِكَها على تُراب اللُّغة. أنا أفهَمُ الشعر كحركة لا كرسيّاً لجلوس الكلمات.

س: أنتَ تأخذُ الشعرَ إلى التَّعبير الأقسى. تأخذُهُ إلى الصِّدام بنفسِهِ، فيما لو لم يجِدْ أحداً يتعارَكُ معَهُ، ألا تعتقدُ بأنَّ في ذلكَ عسكرة للقصيدة؟

ج: وما العيبُ في ذلكَ، إذا كانتِ الوردةُ التي يُقدِّمُها العاشِقونَ لحبيباتِهِم بلون الدَّم!!”.

تبدو آليّة تحرير النِّسْيَاقات التَّخارُجيّة من سُلطة الإيديولوجيّات النظريّة المُسَبَّقة عبر فتحِ نظريّات الشعر على الأبعاد اليوتوبيّة لا تعني تجاهُل المَفاهيم المُتنوِّعة والخاصّة بعَوامِلِ خَلْقِ الشعر المُحيطة بكُلّ شاعر في عصره، كمَفاهيم الحداثة مثلاً أو غيرها، إنَّما تعني توظيف تلكَ الخلفيّات النظريّة المَعرفيّة للانتقال بالحوارات من خطر السُّقوط في فخّ أنْ تكون وثائقَ نظريّة بحتة، أو وثائقَ تاريخيّة ساكِنة، إلى أنْ تكون وثائقَ فنِّيّة جَماليّة تُعيدُ إنتاج الدَّلالات بفَتحِها على آفاق رحبة وبهيّة وغير قابِلة للحَصْر أو التَّعيين النِّهائيّ، وهُنا يكمنُ أسُّ الانزياح الذي تبسطُ أساليبُ وجودِهِ في النصوص أسئلةً تحتفي بتوسيع مَسافات توتُّر الفَجوات أكثر ممّا تسعى إلى سدِّ تلكَ الفَجوات، ولا سيما في ضوء التَّراكُب المَجازيّ الإيحائيّ لجدَليّات التَّخارُج المُحتفِية بعوالم عابِرة للأزمنة، ومُلتحِقة بزيَغان الحُضور المُسَبَّق للشعراء ونظريّاتهِم بوصفِهِ في الوقت نفسِهِ إحضاراً للغائِب والمَجهول والقلِق بما هوَ خلخلة للصُّوَر الأيقونيّة السائدة من قبل. ولنلاحِظ المثال الآتي المأخوذ من حوار المُؤلِّف مع الشاعر آرثر رامبو:

“س: هل كنتَ شابّاً رائياً يقودُ كتيبةَ جُند الحداثة على سبيل المثال؟

ج: في ذلكَ الوقت لم أشغَلْ نفسي بالنظريّات. كنتُ كنزاً وانكسرَتْ أقفالُهُ على حين غرّة. وما تقولُهُ أنتَ عَنِ الحداثة وكتيبة المُحدثين، هوَ شيء كانَ غائباً عنِّي تماماً. فأنا كرَّسْتُ الشعرَ في نفسي نجمةً ثمِلة بخَمْرٍ أحمَر، ولم أظنّ يوماً بأنَّ الشعرَ عندي بمثابة فانوس، يُمكِنُ أنْ يتعرَّضَ لأي حركة من حركات هُبوب الرّيح، فيموتُ ضوءاً ومعنىً.

س: هل كانَ رامبو خدعةً شعرية على سبيل المثال؟

ج: يُمكِنُكَ قول هذا. لأنَّ الشعراء الضِّعاف المُستَهْلَكينَ الذينَ ليسَ لديهِم أسلاكاً كهربائيّةً، تربطُهُم بعَوالِم الثُّقوبِ السَّوداءِ للشِّعريّات الفوّارة، هُم بلا مَعنى بلا مَبنى، ما دامَ الرُّهابُ يُصيبُهُم منِّي”.

وفي هذا المَنحى، يحرصُ دازِنُ المُؤلِّفِ المُنفصِم على ضبْطِ إيقاع انزياحاتِهِ الخاصّة بنظرية الشعر انطلاقاً من الأسُس المرجعيّة المُسَبَّقة كما ذكرْتُ من قبل، لكن بعدَ انْ يكبَحَ في آليّات فعل التَّخارُج شهوةَ سطوة ذاتِهِ السُّلطويّة التَّملُّكيّة من ناحية أُولى، وبعدَ أنْ يطمئنَّ إلى أنَّ الجدَل التَّفاعُليَّ مع الذوات الشاعرة الوقائعيّة للشعراء، ومع الذوات الشعرية الافتراضية لهُم، قد أفضى إلى نمَطٍ مُقنِعٍ من الانزياح القائم على نزع الألفة، وذلكَ عبرَ عمليّة تنقيح وتدقيق وإعادة قراءة وتشييد نظريّات شعر تلكَ الذوات، حيثُ تضخُّ أساليبُ الوجود النِّسْيَاقيّة المُنفتِحة في الحوارات مزيداً من طاقة التَّخييل المُتجدِّدة باستمرار، مُتراقِصةً بين انطواء السَّطح البصَريّ الخارجيّ على تقليبٍ تأويليّ استرداديّ، وانطواء السَّطح البصَريّ العميق على تقليبٍ تأويليّ ارتيابيّ، يتركُ للقارئ فضاءً شاسِعاً من اللعب الحُرّ للعلامات كي يُلامِسَ المسكوت عنه أو غير المُفكَّر به، وكي يستمرَّ في اللُّهاث التَّأويليّ خلفَ مَجازات وإيحاءات تنهَضُ على شعريّة التَّمويه والالتباس، مهما بدَتْ استعادة الصُّورة النَّمطيّة السّائدة مُستقرّة وساكِنة، إذ _قد_ يكفي أحياناً لخلخلتِها بسْطُ الأسئلة التي تفتَحُ الحوارات على حتميّة المُراجَعات، ولا سيما بما يخصُّ نظرية الشعر في هذا المحور الذي نحنُ بصدَدِهِ هُنا. ولنلاحِظ كيفَ تنبسِطُ أساليب الوجود الخاصّة بمَفهوم الشعر في الجزء الآتي من حوار المُؤلِّف مع الشاعر محمّد مهدي الجواهري:

“س: كما يبدو فإنَّ إيمانَكَ بقصيدة النثر ما زالَ غائماً أو مَعدوماً بشكلٍ نهائيٍّ. كيفَ ينظرُ الجواهري إلى حركة هذا الشكل الشعري وصعودِهِ الشَّرِس في العالم العربي؟

ج: لا أريدُ أنْ أطيلَ في البَحث والتَّأمُّل عن قصيدة النثر في الوطن العربي، غيرَ أنَّها بجُملةٍ قاطِعة: جزء من مؤامَرة الغرب في الشرق. لذلكَ فهيَ في فيضانٍ زائدٍ لتخريب ذائقة العرب.

س: ألا تُريدُ أنْ تُغيِّرَ رأيَكَ القديم، وخاصّةً بعدَ وصولِكَ إلى العالم الجديد الآخَر؟

ج: لم يتضِحْ لي بعد، بأنَّ قصيدة النثر شأنٌ فروسيّ. بل هيَ من ألاعيب بودلير ولعنات الغرب الذي يُحاوِلُ دسَّ السُّمّ في عسَل ما يُسمَّى الحداثة.

س: ولكنَّ الحداثة التي تُحاوِلُ إلغاءَ دورِها في حركة الشعر العربي، ربَّما تنالُ من الجواهري أيضاً. ألَمْ تعمَل أنتَ على الخُروج من قفص الكلاسيكيّة القديمة، فجدَّدْتَ الشعر بكلاسيكيّة غير نمَطيّة، تحملُ رؤىً وعلاقاتٍ ووشائجَ لُغويّة لم تكُن في حُسبان الشعر القديم من التُّراث العربي؟

ج: أنا عملْتُ على تحسين شروط البلاغة في القصيدة وتنزيل المَعاني بالزخارِف الثقيلة. حدَثَ ذلكَ، عندما قمْتُ بتعضيد أعمِدة الشعر الأصليّة في قصيدي، بأعمِدة الظِّلّ من أجل أنْ لا ينكسِرَ البيت، أو يسقطَ المَعنى في الغوغائيّات”.

إنَّ براعة أسعد الجبوري في بسط نظريّات الشعر في نسْيَاقاتِهِ الحواريّة، لا تتعلَّق فقط بالتّوازن الفنِّيّ الدَّلاليّ بين ما يُمكِنُ إرجاعُهُ إلى دازِنِه التَّخارُجيّ، وما يُمكِنُ إرجاعُهُ إلى ذوات الشعراء المُتوزِّعة بين المُستوى الوقائعيّ المَعيش، والمُستوى الافتراضيّ النَّصِّيّ، إنَّما بقدرتِهِ على المُوازَنة بين أسئلتِهِ المُحكَمة والمُتواجِهة بصلابة وعُنف أحياناً مع أولئكَ الشعراء، والتي تستندُ في أحيانٍ كثيرة على كليشيهات قديمة وقَبْليّة، وقُدرة هؤلاء الشعراء في أجوبتِهِم على الحركيّة الحُرّة والرَّحبة والمُوارِبة، وهيَ الأمور التي تُعزِّزُ صدمةَ الاعترافات، لا بوصفِها إذعاناً أو سُقوطاً في فخّ نصبَهُ المُؤلِّف للشعراء الموتى، لكن بوصفِها جزءاً حيويّاً من حركيّة الذوات الوقائعيّة والافتراضيّة المُنطلِقة خارجَ أيّة قيود مُسَبَّقة كي تُعبِّرَ عمّا يجول في خواطِرِها، وكي تبسطَ في تفاعُلِها الجدَليّ مع دازِن المُؤلِّف المُنفصِم أساليبَ وجودٍ تنطوي على جَماليّات مُتجدِّدة وقادِرة على انتزاع الدَّهشة عبرَ ألاعيب المُفارَقات ونزع الألفة وتخليق الصَّدمات لمُتلقٍّ يجِدُ نفسَهُ في خضَمِّ صراعٍ مُتراكبٍ نسْيَاقيّاً، ويضجُّ بالحيوية والتَّحوُّل والتَّغيُّر والاختلاف بينَ ما هوَ مُتحجِّبٌ وما هوَ غير مُتحجِّب (أي مُنكشِف). فها هو ذا جزء من حوار المُؤلِّف مع الشاعر شارل بودلير، والذي يُضِيءُ إلى حدٍّ ما مُستويات هذا التَّقليب التَّأويليّ المَذكور هُنا:

“س: هل تعتبِرُ نفسكَ ناظِراً أم رائياً؟

ج: لا أهمِّيّةَ عندي لذلكَ. ربّما لأنَّ كُلَّ نوعٍ من الخمر، يخلقُ لكَ طاقةً لاختراع الشعر. ولكنَّ تعاطِيَ المُسكِرات بشكلٍ عُموميٍّ، يقومُ بإرسال البرقيّات من النفس إلى الرأس. وكذلكَ فهوَ من يقومُ بالتقاط الشيفرات من الفضاء، وتخزينِها تحتَ القحف، باعتبارِهِ الملجأ الخاصّ لتكوين جميع مُوبقات القصيدة.

س: لماذا صنَعْتَ من الشعر مجموعة ألغام بحشوات مِنَ اللُّغة الفاسِدة المُوغِلة بالبذاءة؟

ج: لم أرَ مانِعاً يَحولُ دونَ ذلكَ. كتبْتُ كُلَّ ذلكَ من أجلِ أنْ تتمتَّعَ القصيدةُ بالطّاقة على البقاء خارِجَ المدجنة الفرنسيّة. ذلكَ أنَّ (فرنسا تمرُّ بمرحلةٍ من السُّوقيّة. فباريس، مركزُ وإشعاعُ الحَماقة الكونيّة)، وإنَّ (الفرنسيّ حيوان قنّ، مُدَجَّنٌ إلى حدِّ أنَّهُ لا يجرؤ على عُبورِ أيِّ حاجزٍ. انظروا إلى ذوقِهِ في الأدَب والفنّ. إنَّهُ حيوان مِنَ السُّلالة اللّاتينيّة. لا تُزعجُهُ القذارة في بيتِهِ، وفي الأدَب هوَ آكِلُ براز. إنَّهُ مُولَعٌ بالغائط).

س: تقصدُ أنَّ اللُّغةَ الفاحِشة، تُموِّلُ القصيدة بتأثيرات أوسَع لدى القُرّاء؟

ج: لا. لم يكُنْ هذا القصد بالضَّبط. إنَّما رأيْتُ أنَّ القصيدة المُثقَلة بالأخلاقيّات، لا تُوفِّرُ لنفسِها الحِمايةَ من الوحوش، عندما تجري بينَهُم أو تُقيمُ”.

بخُصوص جَماليّات النَّقص والنَّصّ المفتوح (بمَنزِلة خاتِمة)

لعلَّ العامِلَ الحاسِمَ الذي يُعمِّقُ كون حوارات “بريد السَّماء الافتراضيّ” وثائقَ فنِّيّة جَماليّة يرتبطُ حسبَ زعمي بما قُمْتُ بسَبْرِهِ وتفكيكِهِ في هذه القراءة عبر منهجي النَّقديّ المَدعو: “التَّخارُجيّة النِّسْيَاقيّة”، والذي أظهَرَتْ آليّاتُهُ التَّطبيقيّة كيفيّات بسط أساليب الوجود النِّسْيَاقيّة في هذه الحوارات انطلاقاً من تراكُبيّة العلاقة الجدَليّة التَّفاعُليّة المُحايِثة داخلَ دازِن (أسعد الجبوري) المُنفصِم بينَ مُسَبَّقات ذاتِهِ الوقائعيّة (الثقافيّة والمَعرفيّة)، وشَهوة تحرير النُّصوص من سُلطة هذه الذات القَبْليّة عبر تحرير الدَّوال من قبضة المَدلولات المُغلَقة استناداً على أفعال تخليق شعريّة تمويهيّة والتباسيّة زائِغة، تتعمَّقُ مُحايَثتُها التَّخارُجيّة بأصالةٍ بفعلِ الرّقصات الجدَليّة القائِمة بدورِها بينَ هذا الدّازِن المُنفصِم وذوات الشعراء الوقائعية والنَّصِّيّة، وهوَ الأمرُ الذي لا يكفُّ عن توليد مَسافات التوتُّر التي تُشوِّشُ الدّلالات، وتُعلِّقُ المَعاني، وتفتَحُ فضاءات انصهار الآفاق النِّسْيَاقيّة على نظريّات الشعر المُنطوية في أساليبِ وجودٍ قائِمةٍ على قصديّات مُتراكِبة وناجِية إلى حدٍّ كبير من قبضة الاستحواذ التَّملُّكي للمُؤلِّف، والذي ينحازُ لصالح خلخلة أيقونات الشعراء السّائدة نُهوضاً على الحُرِّيّة المَمنوحة لها في الحوارات كي تتلاعَب بالعلامات وتُواكِبَ جَماليات التّشويش والتَّشويه والتَّزوير بينَ حركيَّتي التَّقليب التَّأويليّ الاسترداديّ والتَّأويل التَّقليبيّ الارتيابيّ.

إنَّ جَماليّات الخطأ والشذوذ التَّمويهيّة المُلتبِسة في نسْيَاقات النُّصوص تمتَحُ من فيضٍ فنتازيّ غرائبيّ يُديرُ ظَهرَهُ للزمن الخطِّيّ الحقيقيّ، فتأتي الحوارات عابِرةً للأزمان، ومُتحرِّكةً ذهاباً وإيّاباً بلا هوادة بينَ العالم الأرضي الماضي للشعراء، والعالم الأُخرويّ الغائِب والمَجهول الذي باتوا ينتمونَ إليه، وبهذا المَعنى تتداخَلُ الأبعاد الزَّمكانيّة تخارُجيّاً لا كي تسدَّ الفَجوات التَّأويليّة بشكلٍ مَحدود، بل بالأحرى لتفتَحَ تلكَ الفَجوات على أسئلةٍ جديدة تغرفُ من أساليب وجود الصِّراع المُتراكِب بين عوالم مُختلفة لذوات مُختلفة، وهوَ الأمر الذي يُرَسِّخُه فنُّ الحذف الذي يُبقي اللوغوس البصَري بوصفِهِ مُحصِّلة التَّخارُج في النُّصوص مُحتفياً بالنَّقص والشكّ وعدم الاكتمال أو الانغلاق، حيثُ لا يُؤدّي استنطاقُ الأيقونات الشعرية إلى حبسِها في سجن ثنائيّة (الأسئلة/المُحاوِر _ الأجوبة/المُحاوَر)، إنّما تجيءُ تسلسليّة أساليب الوجود مُتجاوِزةً لمبدأ العلّة السَّببيّة، ومُؤسَّسةً على تحالُفٍ ضمنيّ يقومُ على الائتلاف والاختلاف من ناحية أُولى، وعلى تبادُل المَواقِع والتَّفاوُض من ناحية ثانية، بينَ المُحاوِر والمُحاوَرين.

وعلى هذا النَّحو، تبسطُ قوّةُ المُتخيَّل نسْيَاقاتِها التَّخارُجيّة مُشبَعةً بالمَجاز والإيحاء والتَّرميز، ليجِدَ المُتلقّي نفسَهُ مُنتمِياً من دونِ وعيٍ إلى أساليب وجود تتحرَّكُ خارِج التَّقابُليّة الثُّنائيّة الميتافيزيقيّة لـِ (الحقيقيّ _ غير الحقيقيّ)؛ أي بما هوَ ليسَ انتماءً إلى المَعرفة اليقينيّة المُستقرّة، لكنْ بما هو انتماءٌ إلى البَحث والتَّساؤل والشُّكوك التي تُحبِطُ أطماعَ أيّة مُطابَقة نهائيّة، وتُعلِي من شأن حركيّات التَّشتُّت الدَّلاليّ والتَّبعثُر المَعرفيّ والتَّباعُد نحوَ المُختلِف المُشبَع بجَماليّات النقص، والهائِم على وجهِهِ في انفتاحِ قصديّات التَّخارُج المُحايِثة على المُمكِن والمُستحيل من ناحية أُولى، وعلى الحُضور والغِياب من ناحية ثانية.

وهكذا، تستمرُّ الحركيّة الدَّوريّة للفَهم في تبادُل الأدوار مع اللَّعب الحُرّ للعلامات من دون الرُّكون إلى مَسْكَنٍ دلاليٍّ حاسِم _إلّا فيما ندَر_، وهوَ الأمر الذي يتعزَّزُ بتوظيفٍ لافتٍ للاشتغال البراغماتيّ المُوارِب على محوري التَّركيب والاستبدال، وبتوليدٍ ثريّ للمُفارَقات المُدهِشة التي تسيرُ باتّجاهيْن مُتلازميْن بينَ السَّطح البصَريّ الظّاهريّ والسَّطح البصَريّ العميق، فيما يبدو مُراجَعةً تنقيحيّةً تأويليّةً لتاريخ الشِّعريّة ليسَ بلُغة المَنطق العقلانيّ للمَعرفة، إنّما بلُغة المَجاز والحَدْس والنَّقص الخالِد والمَهيب، وقد فاضَ بشِعرية التَّمويه والالتباس التي تضخُّ في النِّسْيَاقات التَّخارُجيّة للحوارات لُقاحَ الانفتاح الدّائم على آفاق القراءة والتَّأويل والزّيَغان بينَ المُتحجِّب والمُنكشِف، وبما هوَ انفتاح يُجذِّرُ قُدرةَ أولئكَ الشُّعراء على إقلاقِ راحة العالم من جديد، وباستمرار.

دمشق في آب 2016.
________
*
شاعر وناقد سوري

 

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *