أي أوجاع يُورث المنفى؟

*د. حسن مدن

حين غادر محمود درويش حيفا قال ما مفاده: «غادرت لأني لم أعد قادراً على البقاء هناك»، ولكنه قدَّم استدراكا مُهما: «أحيي كل أولئك الذين امتلكوا القدرة على البقاء». في هذا الاستدراك شيء من الاعتذار الخفي لأولئك الذين انتقدوا خروجه، وهو نقد وجد التعبير عنه في الحملة التي انطلقت يومها ضده وفحواها: ما كان عليه ان يغادر، فأهمية شعره آتية من كونه يكتب في ظروف الاحتلال.
ليس صحيحاً أن أهمية شعر درويش آتية من بقائه تحت الاحتلال. التجربة برهنت على عدم دقة ذلك، ما كتبه الشاعر بعد خروجه من شعر أكثر نضجاً من بداياته عندما لم يزل في حيفا، على أهمية تلك البدايات.
بعد ذلك بنحو عقدين تقريبا قال محمود في حواره مع ايفانا مرشليان المنشور في كتاب: «أنا الموقع أدناه»: «أعترف بأني نادم على الخروج من حيفا، على الرغم من أن قرار خروجي لم يكن حراً. نعم، كان ينبغي علي أن أبقى في السجن هناك حتى لو كتبت شعراً ذا قيمة أقل».
نتذكر هذا ونحن نقارب موضوع علاقة الأدب بالمنفى، أو المهجر، حين يطول هذا المهجر القسري، ولا يعود بوسع المنفي أن يعود إلى وطنه وقت يشاء، لكننا كيف نفسر الحالات التي تنتفي فيها الأسباب القسرية لغربة المنفي، ويصبح بإمكانه العودة، لكنه لا يفعل ذلك، ويؤثر البقاء في المنفى عن العيش في الوطن الذي عاد ففتح ذراعيه له.
يمكن الاعتداد بسيرة وكتابة الروائي التشيكي ميلان كونديرا كنموذج للمبدع المنفي الذي وجد أن البقاء في بلاده بات متعذرا، فغادر إلى فرنسا، وأقام فيها طويلاً، لا بل كتب رواياته بلغتها، وحين أصبحت العودة إلى بلاده بعد نهاية الحرب الباردة متاحة له، فضلَّ البقاء في فرنسا.
اللافت ان كونديرا لم يتحدث عن نفسه في هذا المقام، وإنما فضل الحديث عن مواطنته فيرا لينهارتوفا التي غادرت مثله براغ الى فرنسا في عام 1968، وشرعت تكتب وتنشر بالفرنسية. وحين زالت أسباب المنفى لم تعد، وقدمت ورقة في ندوة أقيمت في براغ عن إشكالية المنفى ردت فيها على منتقديها هي وسواها ممن يتشابهون معها في الوضع، جواباً على السؤال: ألا يعد رجوعكم للوطن واجبا أخلاقيا؟
«لا- تقول المرأة- إني أتعاطف مع الرُحَلْ. لم أعد كاتبة تشيكية، ولم أصبح كاتبة فرنسية. أنا في مكان آخر».
من أكثر الشهادات التي قرأتها عن المنفى، عمقاً وشجناً ووجعاً هي تلك التي كتبها المثقف العراقي الشهيد كامل شياع الذي أودت بحياته رصاصة غادرة في بغداد، التي عاد إليها من منفاه في أوروبا بعيد سقوط نظام صدام حسين الذي اضطره، كما مثقفين ومبدعين عراقيين كثر، على التغرب عن وطنهم.
هالني، في تلك الشهادة، أنه كان يهجس بالموت، ولأمرٍ ما لم يكن يخافه: «أعلم أنني قد أكون هدفاً لقتلة لا اعرفهم، رغم ذلك أجد نفسي مطمئناً لأنني حين وطأتُ هذا البلد الحزين سلمتُ نفسي لأمر القدر بقناعة ورضا. القضية بالنسبة لي تعني الحياة وليس الموت».

كم من الجهد علينا أن نبذل لفهم ما الذي يجعل شخصاً ينعم بهدوء أوروبا ونظامها وحرياتها وتحضرها يخلفها وراءه، ويعود إلى وطن محتل بلغ القاع تتناحر فيه الطوائف، ويسعر فيه أمراء المذاهب وداعموهم خارج الحدود الاقتتال الأهلي.
لدى كامل شياع نجد الجواب: « للعودة من المنفى في حالتي سبب عاطفي أكيد، إذ وجدت نفسي في علاقة لا أقوى على استبدالها أو تعويضها، إنها العلاقة مع الوطن كمجموعة من البشر والتقاليد والأمكنة، كفضاء من ضوء وهواء، من فوضى وخراب وألم، وبعد أن جربت هذه العلاقة صرت متيقناً من جدواها ومعناها بوصفها حقلا للممارسة اليومية والفكرية».
بل اننا نجد عند كامل شياع توضيحا أهم جدير بالكثير من متحذلقي الثقافة أن يقرأوه بعناية: «عدتُ إلى العراق بعدما اكتشفت أنني شخص دون مشروع خاص، في السياسة كما في الثقافة، مشروعي مرتبط بالجماعة، فلا فعل ولا حضور من دون مشاركة وتضامن».
الذين خبروا المنفى الطويل يستطيعون أن يحسوا بكل كلمة من الكلمات التالية لكامل شياع: «عدتُ من المنفى وأنا مدرك أن لا عودة لي منه لأنه يجدد نفسه في كل تماس مع ما هو مألوف أو غير مألوف. كل رجوع عن المنفى تعميق لجذوره وإيهام بخفاياه».
أي أوجاع سرية يُورث المنفى؟ أي شفاء يحمل الوطن؟
وحين يرد اسم ناظم حكمت ترد تركيا، إننا غالباً ما نسبق اسمه بالوصف التالي: الشاعر التركي. ولكن ناظم حكمت أصبح تركياً منذ سنوات قليلة فقط. قبل ذاك لم يكن الشاعر الذي مات في صقيع المنفى بعد سبعة عشر عاماً قضاها في سجون تركيا يحمل جنسية بلاده، حيث كانت السلطات قد أسقطتها عنه منذ حوالي نصف قرن.
ومضت عقود، تعاقبت فيها على تركيا حكومات مختلفة في ذلك التناوب الرتيب بين حكم العسكر وحكم المدنيين، لكن حكومة من هذه الحكومات لم تتذكر أن أهم شاعر في تركيا في القرن العشرين قد نزعت عنه جنسية وطنه. لقد أحب تركيا أكثر مما أحبها كل الذين تعاقبوا على الحكم فيها طوال حياته ومماته، ومن أجلها قضى قرابة العقدين في سجونها.
من يتجرأ على سجن الشاعر أو نفيه عن وطنه؟ ولكنهم يفعلون!.. في شغب الشاعر وجماله أمر مقلق، ورغم أن الشاعر يسكن عادة في المخيلة، لكن مخيلة الشاعر مقلقة لأنها تنشأ على ضفاف الحلم، والحلم، كما الشعر، ممنوع حين يعم الظلام.
في شهادةٍ لزوجته، قالت إن ناظم حكمت كان يصحو كل صباح ليذهب راجلاً إلى مبنى البريد تسقطاً للرسائل المقبلة من الوطن البعيد تحمل أخباره. وكانت تلك الأخبار زاداً وملهماً وباعثة على الدفء في برد الروح الذي يجتاح المنفى.
وفي صباح أحد أيام صيف عام 1963 خرج إلى مشواره اليومي نحو البريد، لكنه لم يعد. لقد سقط ميتاً في الشارع وهو في طريق متلهفاً إلى رسائل الوطن.
بين الشعراء وصندوق البريد علاقة قدرية. أذكر تلك المشاهد العبرة في فيلم «ساعي البريد» الذي يروي جانباً من حياة الشاعر التشيلي بابلو نيرودا في المنفى بإيطاليا. كان الشاب الغر ساعي البريد يحمل في كل صباح رزمة من الرسائل إلى الشاعر الكبير التي ترده من قرائه وقارئاته من الوطن البعيد حيث أدرك الشاب أن من يحمل إليه البريد يوميا هو شاعر كبير وحائز على نوبل أيضاً رجاه أن يعلمه الشعر.
قال له أريد أن أصبح شاعراً، وحين سأله نيرودا عن السبب، أجاب لأنني أحب فتاة جميلة، وأريد أن أكتب لها شعراً، وكان رد نيرودا بسيطاً ومعبراً ومكثفاً: إن الحب هو قصيدة شعر.
لكن المنفى ليس فقط هو النفي عن الوطن. بالكاد كان فرانز فانون في السابعة والعشرين من عمره حين وضع كتابه المهم والمُلهم: «بشرة سوداء وأقنعة بيضاء»، فالشاب الآتي من مورتينيك سيكتشف بشرته السمراء في فرنسا التي ولّدت لديه شعوراً بالغربة في مجتمع أبيض.
سيتعزز هذا الشعور لديه فيما بعد أثناء عمله في الجزائر مديراً لمستشفى الأمراض العقلية مدة نضال حركة التحرر الوطني الجزائرية من أجل الاستقلال، ما حمله على الاستقالة من منصبه، حين شعر بأن المعاملة المختلفة له كونه آتياً من الكاريبي نموذج لمعاملة ذوي البشرة السمراء مثله، فاستنتج أن الأمراض النفسية التي يعانيها مرضاه الجزائريون آتية من معاملة المستعمر لهم.
سيغدو «بشرة سوداء وأقنعة بيضاء» مرجعاً تتجدد الحاجة إليه عبر الزمن، حيث عاد مجدداً إلى الصدارة بفعل تنامي الاهتمام بدراسات ما بعد الكولونيالية. وسيكون لافتاً أن مفكراً آخر آتياً من العالم النامي هو إدوارد سعيد هو من أبرز من أعادوا لفت الأنظار إلى دراسات فرانز فانون.
وجد إدوارد سعيد أمراً مشابهاً لسيرته في سيرة فانون، فهو الآخر آت من بيئة شرقية ليعيش في الولايات المتحدة الأمريكية، ويدرك المعاناة الناجمة عن وقوف المرء على تخوم أكثر من هوية، ما ينجم عنه نتائج متضادة، فمن جهة يكون هذا الموقع مصدر ثراء للشخصية، لتعدد المصادر الثقافية واللغوية التي لا تتوفر لمن يولدون بهوية واحدة، ومن جهة أخرى يمكن لذلك أن يكون مصدر شعور بالمنفى الداخلي، حين يشعر متعددو أو ثنائيو الهوية بالغربة إزاء بيئة المجتمعات الآتين منها، كونهم انفصلوا، فيزيائياً، عنها، وبيئة المجتمعات الآتين إليها كونهم يحملون بشرة أو ملامح مختلفة، أو تكويناً ثقافياً مغايراً.
وللسبب نفسه، ليس غريباً اهتمام إدوارد سعيد بحياة عالم النفس الشهير فرويد، حيث كان يلقي كل سنة كلمة في المتحف الذي يحمل اسمه في فيينا وعنه كتب كتابه المهم «فرويد وغير الأوروبيين»، فهو هاجر إلى بريطانيا بعد استيلاء النازية على موطنه النمسا ما جعله يجرب فكرة المنفى في معناها المباشر، ليضاف إلى شعوره، قبل ذلك، بالمنفى الداخلي وهو في النمسا كونه يتحدر من أقلية.
______
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *