الحبّ أعمق الأهواء الإنسانية

*موريس أبوناضر

تقترح مجلة «العلوم الإنسانية» الفرنسية في عددها ما قبل الأخير، مراجعة حساباتنا حول الأهواء الإنسانية، باعتبار أنّ كل واحد يعرّف بأهوائه، فيقال مثلاً هذا يهوى جمع الطوابع البريدية، وذاك يهوى لعب الورق، وثالث يهوى الصيد.

الهوايات الإنسانية متعدّدة الأسماء، وتغطّي أشياء مختلفة من بينها الحب والطبخ والرياضة… لقد عرفت مجدها في القرنين السابع عشر والثامن عشر في فرنسا، استفاد منها الباحثون في الأخلاق والفلاسفة والكتّاب والمسرحيون. وضع شكسبير مثلاً على خشبة المسرح الأهواء الحارقة كالحب عند أوتيلو، والحب المستحيل بين روميو وجولييت. وعبّر راسين في مسرحياته عن الحب المقموع في «أندروماك».

أمّا الفلاسفة فتناولوا موضوع الأهواء بكثيرٍ من الحذر لِما للأهواء من تأثير سلبي في الناس. ينظر ديكارت إلى الأهواء انطلاقاً من نظرته الثنائية، فالإنسان عنده مكوّن من نفس وجسد، والأهواء تأتي من الجسد، وتترك أثرها في النفس. إنها ليست خطرة بطبيعتها، وإنما الاستفاضة في استعمالها أمر خطير.

وهنا يقسم ديكارت الأهواء إلى ستة عناصر هي: الإعجاب، الحب، الكراهية، اللذة، الفرح، الحزن، أما ما تبقّى من أهواء فهي مشتقة من العناصر الآنفة الذكر. بحث هيوم في الأهواء، وحاول أن يضع الأسس لعلم الأهواء هادفاً من وراء ذلك إلى تبيان كيف تختلط الأهواء في مابينها في أعمالنا، وهو على العكس من ديكارت، لا يؤمن بقدرة العقل على لجم الأهواء لأنه «هوى هادىء» لا يقدّم أو يؤخّر. كانط نظر إلى الأهواء كمرض نفسي، وشوبنهور رآها الكيان الأساس عند الإنسان، أما كيركارد فاعتبرها ملازمة للإنسان في كل حالاته النفسية.

وعلى رغم اعتبار بعض الفلاسفة الأهواء مرشدة سيئة السمعة، ومرضاً يصيب النفس، مارسوا في حياتهم معظم أنواع الأهواء وبخاصة الحب. يقول أفلاطون في كتاب «الجمهورية»: «كل من لا يبدأ بالحب لن يعرف مطلقاً ماهي الفلسفة»، سارتر طبّق هذا المثل أوّلاً باعتماده الفلسفة، وثانياً بممارسة الحب الذي يقوم عنده بين الوجود والعدم. فهو القائل «إن الآخر يسلبني ذاتي، وهو يبقيني تحت نظره، ويصادرني، ويضع لي حدودي».

ولكن انطلاقاً من المصدر ذاته يكون الآخر هو من يجعلني أعرف ذاتي، ويساعدني في أن أكون، أي أن «يوجد كيان يمثّل كياني». حتى في أكثر أشكال الحب سطحية وجنسية، ينبعث الحب من مشروع انتعاش الذات في علاقتها بالآخر. ونحن كما يقول سارتر نشعر بأن وجودنا مبرّر عندما أصير محبوباً، وبذلك لا أعود عنصراً منفصلاً عن أساس العالم، وإنما العالم نفسه.

يعدّ الحب قضية متعبة عند سارتر إلا أنه قضية ممتعة أيضاً. إذا وجد العاشق نفسه غارقاً في القلق، وكره ألا يكون سوى مجرد وسيلة للإشباع النرجسي للآخر، في هذه الحالة قد يشعر أنه ناقص، وهالك، ولكن بفضل النعمة التي يتمتع بها حين يحبّه شخص ما يصبح غاية في ذاتها، وقيمة مطلقة، وليس نسخة تقبع وسط آلاف النسخ.

السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق، أي نوع من الحب ألهم سارتر عند كتابة صفحاته الأكثر جمالاً، والأكثر طمأنينة، والأكثر موضوعية، أهو حبّه الحميم لسيمون دوبوفوار، أم علاقات الحب الموازية، ربما الإثنين معاً؟ إذا كان هناك ما يميّز مؤلف «الوجود والعدم» راديكالياً عن بقية من كتب عن فلسفة الحب، فهو امتداح النعيم الذي كان يرغد فيه، حالة لم يصفها أبداً باعتبارها «متعة قضيبية»، وإنما استثناء لا يحدّه الوصف.

قليل من الفلاسفة هم الذين ذهبوا بعيداً كما فعل سارتر في الإجابة عن سؤال لماذا نحبّ؟ ولماذا نريد أن نكون محبوبين؟، وتعدّ فريدة الكتابات الفلسفية التي ساقها سارتر حين كان شاباً حول موضوع الحب في كتابه «الوجود والعدم». إن حرية الإنسان كما يقول سارتر تدفعه إلى الذوبان الكامل في الحب، وهو نوع من تخصيص الذات أشدّ تعقيداً من الرغبة البسيطة في السيطرة على الآخر. تكتب سيمون دوبوفوار عشيقة سارتر عن الحرية في الحب قائلة: « قليلون هم الأحبة الأحرار الذين يلتقون على الاتفاق ذاته كما فعلت أنا وسارتر».

امتدح سارتر الحب، وكذلك فعل الفيلسوف الفرنسي المعاصر ألان باديو في كتابه «امتداح الحب»، الذي يعرض فيه مفهومه للحب الولهان، فيحدد «التجربة الشخصية الأكثر شمولية»، ليرفعنا إلى حيث هو عالم الأفكار والجمال، كي نصل مع الوقت الى الانتصار على مصاعب الحياة التي يعيشها الحبيبان. ولكن هذا الانتصار مهدّد في المجتمعات المعاصرة بـ «الفردانية» والتعلّق – حتى في ممارسة الحب – بتحقيق المصلحة الشخصية التي تعدّ في الوقت الحاضر المحرك الأساس للجماعات الإنسانية.

تياران فلسفيان على ما يقول باديو في كتابه «امتداح الحب» حطّا من قدر الحب. مذهب اللذة «أدونيسم» الذي يدفع الإنسان إلى البحث الدائم عن اللذة، والتقليد المتشائم عند الباحثين في علم الأخلاق الذين يرون في الحب نوعاً من الوهّم يقود المحبّ إلى العذاب.

صحيح أن الحب في مساره يمرّ أحياناً بحالات عذاب وشكّ وقلق، ولكنه يتحلّى في أحيان كثيرة بالشجاعة والعناد في وجه كل الأخطار التي تحدّق به، لذا فإنه يساهم في توسيع آفاق المحبين نفسياً وجسدياً. وعندما كان سارتر يدرس نموذج وعي الآخر، لجأ إلى الحب حيث ثمة مسعى إلى أن يروق الحبيب لحبيبته، وأن يتمتعا معاً بلذات الحياة النفسية والجسدية. ويؤسس هذا المسعى إلى التجربة الأساسية في تعلّم «الغيرية». فالحب يعلّم الناس أن يجدوا حقيقة الحياة في الاختلاف، وليس في المماثلة، وبالتالي فإن الحب يفرض أسلوباً في العيش، لا يتسم بالروتين، وإنما بحبّ المغامرة. وفي هذا سموّه على بقية الأهواء.
_____
*الحياة

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *