“نظرية العدالة عند جون رولز” لمحمد هاشمي

خاص- ثقافات

*أحمد العطـار

   لم يكن تحصل  ” جون رولز ” ( 1921 – 2002 ) على ميدالية ” الإنسانيات ” الممنوحة للشخصيات التي تقدم أعمالا رائدة للإنسانية، على يد الرئيس الأمريكي بيل كلنتون إلا اعترافا بقيمة المنجز الفكري لواحد من الفلاسفة السياسيين الأكثر تأثيرا في القرن العشرين. لقد أمضى رولز أكثر من نصف قرن منهجسا بمسألة العدالة داخل ما أسماها بالدولة الاجتماعية, محاولا إنقاذها و إعادة تأسيسها وفق تعاقد اجتماعي مغاير. يتجاوز ثنائية الخاسر و الرابح، أو المنتصر و المنهزم, مادامت العدالة تستمد قيمتها باعتبارها فضيلة للمؤسسات تحضى بإجماع مختلف الأطياف، و من كونها تمتح أولويتها من اقترانها بمبدأي الحرية و المساواة. وفي هذا الصدد يأتـي كتاب :    ” نظرية العدالة عند جون رولز – نحو تعاقد اجتماعي مغاير  “الصادر عن دار توبقال للنشر للأستاذ الباحث   ” محمد هاشمي ” ليتقدم إلى القارئ العربي بخطاطة عامة للمشروع الرولزي من خلال متابعة التمفصلات المركزية لأطروحات صاحب ” نظرية العدالة ” ساداً بهذا الإصدار القيم فراغا في المكتبة العربية التي ظل هذا المفكر يحضر فيها، كما في أدبياتنا السياسية، بشكل محتشم.

   يستعرض المؤلف تصور جون رولز لمفهوم العدالة داخل ما يسميه المجتمع المحكم التنظيم و الذي يروم إصلاح أعطاب هذا المفهوم الناتج عن الأزمة التي عاشها المجتمع الأمريكي غداة حرب الفيتنام و الحرب العالمية الثانية و التي جعلت التراث الليبرالي مطرح مساءلة و مراجعة ” لاسيما فيما يختص بالحقوق المدنية : الحرية و المساواة، وكذا على مستوى المخاطر المتربصة بالحداثة و المتبدية في تضخم الفردانية و تعاظم الأنانية الاستحواذية و تفكك الروابط الاجتماعية و اتساع هوة الفوارق بين المحرومين والمحضوضين و استفحال اللامبالاة السياسية و غيرها من تشوهات الديموقراطية الليبرالية “. فالمبتغى العام لمشروع رولز إذن – يقول الكاتب – هو مواجهة هذه التحديات  للحفاظ على قيم تراثية أصبحت مكتسبا تاريخيا يحتاج الى دعامة تبريرية جديدة، و من هنا الطابع الإصلاحي لنظرية العدالة “( ص 70 ). يقوم المجتمع من منظور رولز على أساس تعاون مشترك بين الناس. و هو ما يقتضي وجود وضعية تعاقدية سليمة تحترم كل هذه الصفات بحيث تكون وضعية منصفة، الأمر الذي يطرح إشكالية التنافس و التوزيع، فالعدالة الاجتماعية ستلعب دورا وسيلانيا لتحديد الحقوق و الواجبات داخل المؤسسات الأساسية للمجتمع، كما تهتم بالتوزيع المناسب لمكاسب و تكاليف التعاون الاجتماعي يقول رولز.

 tgfds

     يعارض الطرح الراولزي مذهب المنفعة الذي اشتهر مع الفيلسوفين” جيرمي بنتام و جون ستيوارت مل ” الذي يحصر العدالة في تحقيق الرفاه الإجتماعي على أساس شعار : ” أكبر قدر من السعادة لأكبر قدر من الناس ” ، فالتعارض القائم هنا بين اعتبارات المنفعة و اعتبارات العدل يؤدي في كثير من الأحيان إلى تبرير الظلم و شرعنته. فالعدالة باعتبارها الفضيلة الأولى للمؤسسات كما يحددها رولز تحضى بإجماع كل المتعاقدين كمبدأ وحدة، في حين يبقى الخير و المنفعة حبيس تصورات اختلافية و لا توافقية. يصوغ جون رولز تصوره ” للوضعية البدئية ” التي هي المقابل لحالة الطبيعة كما تبلورت مع فلاسفة العقد الاجتماعي ( توماس هوبز و جون جاك روسو ) مفترضا تجمع أشخاص أحرار تعاقدوا لاختيار القواعد و المبادئ التي ينبغي أن تقود بنية المجتمع, و بشكل أخص  توزيع الخيرات الأساسية ( الحقوق , الحريات , الثروات … الخ )، مخضعا هؤلاء الشركاء لحالة يطلق عليها إسم “حجاب الجهل ” إذ يكون أطراف العقد على جهل بكل الحقائق والمعطيات المتعلقة بهم و بمجتمعهم :

( وضعيتهم الطبقية, انتماءهم الديني و العرقي, جنسيتهم و تصورهم للخير, موارد مجتمعهم و تاريخه ). أما ما سيسمح لهم بمعرفته  فقط حقائق عن الطبيعة الإنسانية العامة و المؤسسات الاجتماعية و الاقتصادية إضافة إلى كون مجتمعهم محكوم بسياق تطبيق العدالة. فالغاية من هذا الحجاب تكمن في استبعاد وقوع المتعاقدين في اختيار مبادئ للعدالة على أساس شخصي أو فئوي أو انسياقهم لتفضيل مصالحهم الذاتية و نزوعاتهم الأنانية المرتبطة بالمكاسب و الأرباح أو التحيز لمبدأ دون غيره. من هنا يتبين أن  تحجيم وحرمان أطراف العقد من المعارف و المعطيات في إطار الوضعية البدئية يضمن شروطا جيدة للتفكير و القرار تجعل نتائجه قابلة لأن تقرر كتصور موحد و عام  وذلك من خلال توفير أعلى درجات شروط العقلانية  للفعل التعاقدي التي تهدف لبناء نظرية دقيقة حول العدالة كما يضيف رولز.

تسمح هذه المحددات إذن بصياغة تصور عمومي متوافق عليه يتجلى في مبدأين للعدالة هما:

 -1يحوز كل شخص حقا متكافئا للنسق الأكثر اتساعا من الحريات الأساسية المتساوية بين الجميع

 -2ينبغي تنظيم التفاوتات الاجتماعية و الاقتصادية على شاكلة تجعلها في نفس الوقت : أ – أن تكون في مصلحة الأفراد الأكثر حرمانا و الأقل حضا في المجتمع. ب  -أن ترتبط بوضعيات ووظائف مفتوحة في وجه الجميع حسب تكافؤ منصف للفرص. يرتبط المبدأ الأول بتوزيع الحقوق و الواجبات، فيما يختص المبدأ الثاني بتوزيع الامتيازات ذات الطابع الاجتماعي و الاقتصادي. يحيل هنا نظام المساواة الديموقراطية حسب رولز إلى التزاوج بين ” مبدأ تكافؤ الفرص المنصف و بين مبدأ التفاوت, و لذلك فهو الأنسب مع تصور المجتمع التعاوني. ذلك أن المبدأ الثاني يشرط العدالة التوزيعية بمدى قدرتها على تحسين وضعية الأطراف الأقل حظا ” ص 94.

و إذا كان اهتمام رولز بتحسين وضعيات الفئات المحرومة أو من هم في الدرك الأسفل من المجتمع واضح من خلال عملية تأويج رفاهية هذه الفئة، فإن تأطير المجتمع بآليات تسمح للجميع بأن يأخد فرصته في اثبات ذاته و تحقيق انتظاراته يجعل البنية الأساسية للمجتمع العادل لا تعمل على تفضيل طرف على الآخر كما لا تسعى إلى تجريم النجاح الإجتماعي. غير أن الالتزام بتحقيق هذا المبدأ لا يتقوم إلا إذا تم استيفاء مطالب المبدأ الأول المتعلقة بتكافؤ الحريات و الحقوق ، فمبدأ التفاوت ( اللامساواة ) في الدخول و الثروات لا يمكن تبريره إلا بعد حصول تكافؤ منصف للفرص. يهدف تصور رولز إلى تنظيم المجتمع بمجموعة من القواعد الإجرائية بشكل عادل للتعاون الاجتماعي يمنع وقوعه في وضعيات غير عادلة. فإن كان تصور العدالة كإنصاف يهم بدءا إيجاد تصور عمومي للتوافق السياسي فإن رولز يركز على الإمكانات المفتوحة للتنـزيل المؤسساتي لمضامين مبدأي العدالة على أرض الواقع. يثير الكتاب في فصله الرابع الخطوات الإجرائية لتفعيل تصوره للعدالة الاجتماعية و السياسية و حسبنا أن نشير هنا إلى بعض العناوين و الإشكالات المهمة ( ص141  و مابعدها ):

– حرمة الحرية ( لا يسمح بالحد من الحرية إلا باسم الحرية )، حرية الإعتقاد، إشكالية التسامح مع غير المتسامحين ، المشاركة السياسية العادلة، قواعد سلطة القانون في المجتمع العادل، العدالة التوزيعية و المؤسسات الاقتصادية العادلة، تبرير الحدود العادلة للخضوع لمبدأ حكم الأغلبية …

    يسعى إذن هذا المؤلف على امتداد فصوله السبعة إلى تقديم رؤية بانورامية للمتن الراولزي من خلال لحظاته الأساسية التي يمكن إجمالها حسب الأستاذ ” محمد هاشمي ” في لحظة إرهاصات ما قبل نظرية العدالة ( يلقي هذا الجزء الضوء على عمل رولز الشاب )، و لحظة الطرح الأولي لتصور العدالة كإنصاف في كتاب ” نظرية العدالة ” ، و أخيرا لحظة المراجعة المتمثلة في كتابي الليبرالية السياسية و قانون الشعوب.

  إن الدرس المستفاد من كتابات جون رولز عربيا يتجلى في مطلب التمرس عمليا على مقتضيات العدالة كإنصاف و على حقوق الإنسان الأساسية و قيم الليبرالية السياسية باعتبارها تعاقدا بين مواطنين كاملي العضوية داخل المجتمع كنظام للتعاون المنصف يروم تحقيق السلم و الاستقرار . و النظر إلى مبادئ العدالة ليس كوضعيات وجودية تهم الآخر و تنسحب على حضارته بقدر ما ننظر إليها كمحصلة للجهد الإنساني الذي يمثل المشترك بين جميع الثقافات و الشعوب دون تمييز أو حيف. وإجمالا  يمكن القول أن المشروع الرولزي يقدم لنا سنداً لإعادة بناء الذات و الدولة و المجتمع وفق منظور عادل يسمح بتيسير السبيل لتعاقد اجتماعي مغاير .

 يقول أرسطو : كل الفضائل توجد في طي العدالة .

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *