فنان في ” الميدان “

خاص- ثقافات

*ميمون حِـرش

    كشف المتظاهرون الشباب، وسط ميدان التحرير، في مصر بمناسبة اندلاع ما يسمى بالربيع العربي، عن قدر كبير من الوعي، والمسؤولية، والحب، والدهشة عند كل  شباب الشعوب العربية، ليس فقط لأنهم أيقظوا النُّومَ من سباتهم العميق، وليس أيضاً لأنهم قدموا صورة إيجابية، عبر رحلة كفاح ونضال، دامت ثمانية عشر يوماً، وصلوا بها إلى المجد الذي كتبه التاريخ لهم بفخر؛ بل لأنهم أخرسوا الأعداء الذين كانوا لا يتوانون، بصلف غربي استعماري محض، لإطلاق العنان لنعت الشعوب العربية بأقدح الصفات، يلصقونها بكل من يتكلم بلسان عربي، يصفونهم بها، ولعل أقدحها هي نعتهم بالقطيع الذي يسهل قيادته.

  والآن، بعد “ثورة الياسمين”، وتوهج شباب “ميدان التحرير”، وجب إعادة قراءة الأوراق من جديد، وليبدأ الغرب، وعلى رأسهم دُماهم من زعماء كل العرب الخونة، من فتح صفحة جديدة، وبدل أن يبدؤوها بالبسملة (وهم بخيانتهم لشعوبهم ليسوا بمسلمين، فلا حاجة لهم بها) حري بهم أن  يلزموا  بدايتها بكتابة رقمين هما 14، و25 يناير، واعتبارهما لازمتين، ورمزين لنهاية مُنْصِفَةٍ لكل الطغاة.

  شباب الدول العربية، تتبعوا مسار الثورتين( مصر وتونس) عبر قنوات عدة بذهول، لكن بإكبار، وإثر كل خبر يُبث عبر لازمة “عاجل” كانت عيونهم تجحظ، وقلوبهم تخفق لأصوات الحرية التي احتدت في مصر، وتونس، الصغير منهم قبل الكبير، جميعهم حرص على المكوث أمام التلفزة، مشاهداً مدللا، وفي النفس هذه الأمنية: “آه لو كنت معهم”.. وتكبر الأمنية، يوماً بعد يوم، وتصبح هذا الرجاء: “متى يأتي الدور على طغاة آخرين في بلداننا؟”..

  قبل غزو الفضائيات، والصحون المقعرة لوسائل إعلامنا، في ثورة إعلامية مباركة، هي في تصاعد مستمر، كانت اللهجة المصرية تقتحم بيوتنا، ولم نكن نشاهد – مرغمين- غير ما هو مصري؛ لأنه كان مفروضاً علينا، وما أكثر المسلسلات المصرية التي طرحت، في تيماتها الأساسية، موضوعات الحرية، والتحرر، والديمقراطية… !، ولعل أشهر “كلمة” كانت تتردد على ألسن الممثلين في هذه المسلسلات هي الشقة، وكان هذا المشكل(الشقة) لازماً لكل مسلسل يطرح، كتيمة، موضوعات الحب والزواج، لدرجة اختزلت فيه كلُّ الأعمال الفنية، لفترات عدة، كلَّ مشاكل مصر في مشكل (الشقة أما لفظة [يعني] فكانت تنداح علينا مثل فواتير الماء والكهرباء، ليس كل شهر، إنما كل يوم.

  وفي فترات أخرى تالية، وفي أعمال أخرى محسوبة على الفن الملتزم، أو الواقعية الاشتراكية، كان الفنان/ الممثل، في الفيلم، أو المسرحية، أو المسلسل، يرتفع صوته عالياً بضرورة تغيير المنكر، منتصراً للحق، والعدل، والكرامة، وحقوق الإنسان.. مثل هذه الرسائل وغيرها كثير كانت تمرر عبر تلفازاتنا، وكانت تبهرنا حين يحرص أكثر من مخرج، في أكثر من عمل، على طرحها، بدءًا من فيلم “الأرض” المأخوذ عن رواية “عبد الرحمان الشرقاوي”، والتي أنتجت سينمائيا سنة 1970.

 ولأن الفنان المصري تحديداً، في العمل الفني، ينتصر للحق، كنا نحبهم ونعشقهم، ونحفظ أسماءهم مثل أيام الأسبوع، كانوا لنا مثالا، وقدوة، لكن حين صَحْصَحَ الحق في مسلسل حقيقي، اختار له شباب مصر عنوان “ميدان التحرير”، وحين كانت أجهزة الهواتف النقالة، وأجهزة الحواسيب تصور أحداث الثورة على الهواء مباشرة، وحين كان الشباب يملأ الساحات، ويشغل أمصاراً أخرى، حين حصل كل هذا غاب فنانو مصر، أغلبهم كانوا في ما مضى، في أعمال فنية، يعطون انطباعاً آخر حول إيمانٍ كان يبدو راسخاً بمفاهيم التحرر، التقدم، وكرامة الإنسان، وحب الوطن، لكن سرعان ما أماط سكوتهم المخزي إزاء ثورة شباب مصر اللثام عن موقف رجعي، وسرعان ما كذب الماء، كما يقولون، الغطاس.

  ولأنهم لم يكونوا باردين، ولا حارين، إزاء ثورة شباب مصر فالأنفس ستتقيؤهم، وسيكتبهم الشباب في الذاكرة، وسيلقون بهم كما الفتات ليس وراء الموقد، بل خارج المطبخ أصلا.

 خلا “ميدان التحرير” منهم على مدار ثمانية عشر يوماً، لا هم شاركوا في التظاهرة بحضورهم، ولا هم سجلوا موقفاً عبر مكالمات هاتفية يعبرون فيها عما يحصل في مصر؛ نحن كنا نشاهد شباب الثورة في الميدان، وكنا نبحث عنهم بينهم، كنا نرْصدُهم من بعيد، ونسأل عن الفنانين الذين فرضوا علينا أنفسهم في بيوتنا، عبر مسلسلات مصرية لعقود من الزمن، كنا نود لو يترجمون ما كانوا يؤمنون به من أفكار التحرر، والديمقراطية، وكرامة الإنسان، بيد أننا لم نعثر لهم على أثر، وحدهم الشباب الثائر كانوا يلاقون مصيرهم، وحدهم كانوا يصنعون التاريخ، أما هم فصناعة التاريخ، بالنسبة إليهم، تتم عبر “شباك التذاكر” ليس إلا.

  بعض الفنانين المصريين يحرصون على ألقابهم، بل وفي سبيلها يخوضون معارك سجالية عجيبة، حتى تتصدر أسماؤهم الأعمال الفنية، يفعلون ذلك لأنهم، يرون أن الجمهور، المصري خاصة، يؤمن بقدرتهم على ترك بصمة من خلال أدوار يمثلونها، لكن هذا الجمهور افتقدهم في الليلة الظلماء حين كانوا في حاجة لبدر الحرية، وليسطع هذا البدر في سماء مصر كانوا في حاجة لأصواتهم ووجودهم إلى جانبهم في المتن لا في الهامش، لكنهم غابوا عن ميدان التحرير، وبرفضهم للعب دور البطولة في مسلسل حقيقي، انتصر أبطاله للحق، وللخير، وللتغيير، وللسلام، يكونون قد فوتوا على أنفسهم أحسن أدوارهم، كانوا سينالون عليها، لا جوائز “الأوسكار”، إنما جائزة اسمها “بركة مصر”، والخلود الفني الحقيقي كان في الميدان، بين شباب مصر الثائر.

   كل ممثل لا اهتداء بدوره على الساحة، حين تتطلب اللحظة التاريخية ذلك، لا يبالي الشباب الثائر ما إذا لاح نجمه أو غرب، فما عسى أن يقدموا بعد الآن غير الظهور في الشاشة، خدمة للشباك، ولصاحبه، والهدف هو في النهاية تجاري محض ليس إلا.. والفن، في النهاية، إذا لم يعانق هموم الإنسان، في صراعه مع الحياة، لا جدوى من إقامة الدنيا من أجله.

   عادل إمام،ودريد لحام مثالان لفنانين طرحوا أعمالهم” الثورية” وراءهم،وراحوا يربتون على أكتاف الجلادين في صورة رديئة حار المشاهد العربي في اختيار إطار لها مما قدمه ” الزعيم” و” اللحام”من أفلام ومسلسلات ،ومثلهما كثير،كثير،أغلبهم انبرى للنباح ففاقوا كل الجِراء الخونة من خدام الأنظمة الديكتاتورية في كل العصور.

 الآن، لو افترضنا، أن هناك من سينقل ما يحدث في سوريا، في مسلسل تلفزيوني أو فيلم سينمائي، ترى مَن مِن الممثلين المصريين أوالسوريين سيختارهم المخرج للعب دور البطولة؟ وأي من الأسماء التي غابت في “الميدان”، ولم تشارك في الانتفاضة المباركة تستحق دور البطولة؟

  هل سيتهافت على المسلسل على سيبل المثال لا الحصر بطل مسلسل “رأفت الهجان”، الذي ختم مسلسله في آخر حلقته بقوله: “مصر تستحق”؟.

  إنها تستحق أمام الكاميرا والوجه ملطخ بماكياج المشهد، وحين يحترق شبابها في انتفاضة مباركة، تتركون الحبل على الغارب، في لامبالاة غريبة، بل مشبوهة.

 وإذا كانت مصر تستحق، فأين كان أبطال هذا المسلسل، وغيرهم في أخرى شبيهة؟.. لماذا غابوا عن الميدان؟.. أو ليس دورهم هو منح الرؤية قبل المعرفة؟ لماذا غابوا في الوقت الذي كانت فيه الأسر المصرية،والسورية تعول عليهم حتى ينوبوا عن شهدائهم، ويواصلوا ما بدأوه؟.. ألم يُطبِّلوا، في أعمالهم الفنية، بأن درب النضال شاق وطويل؟

  إن الأسر المصرية والسورية ،وفي البلدان العربية التي فقدت أبناءها في الميدان آمنت بقدرها، لذلك وهبت فلذات الأكباد كرْمى للإنسان وكرامته، هي فقدت أولادها، وضحت بهم، ووهبت دماءهم للحرية الحمراء، أما فنانو مصر وسوريا، بغيابهم عن الميدان، فهم كانوا منشغلين بلعب دور آخر، دور الخذلان، والجحود..

لـ “عُمَر فاخوري” كتاب قيم بعنوان “أديب في السوق”، يدعو فيه الأدباء إلى الانخراط في الواقع، وترك الأبراج العالية، والنزول من فوق لمعانقة الناس، والاختلاط  بهم؛ آمن بأن نقل معاناتهم يجب أن تتم لا من فوق، وهم يطلون على الشعب من برج عاج، إنما باقتحام حياتهم الطبيعية الحافية على الأرض.

“فنان في الميدان” (عذرا لـ “عمر” على استعارة عنوان كتابه)، هذا ما كان ينبغي أن يحدث مع فناني مصر وسوريا، ويبدو لي أن ما دعا إليه “عمر فاخوري” هو ما كان يجب أن يقوم به هؤلاء، كان عليهم النزول إلى الميدان، والانخراط في واقع يسمو على كل التبريرات الواهية، الزائفة التي قد تحول دون الحضور، ثم هل غيابهم من القوة بحيث يبرر لهم تخاذلهم؟

  قلة قليلة من الفنانين كانوا هناك في الميدان.. المجد لهم ! هؤلاء أبانوا عن حس ثوري أمام الكاميرا، وبعيداً عنها.. أما غيرهم فكان يتدثر في غرف مكيفة، أو في مطاعم باذخة، أو صالونات القمار، أوفي “بارات” في بلاد الآخرين… لكنهم في المسلسلات تكبر أعناقهم كرمى لجيوبهم فقط لا غير، ويناضلون من أجل أن يكتب اسمهم أولا؛ هذا في “الجنيريك”، أما في الواقع فهم في آخر الطابور.

  مهزلة؟.. ما أصغر الكلمة!!

  إن بين الواقع والخيال “الميدان”.. ومعظم فناني مصر الذين غابوا عن الميدان لن يقنعوا أحداً بعد اليوم، بل إن مفهوم البطولة في العمل الفني بعد الثورة، يجب أن نعيد تحديد مصطلحها، واستباقهم المحموم حول تسجيل أسمائهم أوَّلاً في “الجنيريك”، بعد أحداث مصر، سيكون نكتة بائخة إذا أصروا على ذلك بعد اليوم، سيكونون بذلك مجرد حثالة تسترزق بالفن على حساب القيم الإنسانية الكبرى.

 “أم كلثوم” حين عرض عليها الموسيقار “محمد عبد الوهاب” أن تغني قصيدة “ما حْلاها عيشة الفلاح” رفضت بشدة، وبررت رفضها بكونها فلاحة، وهي تعرف جيداً كيف يعيش الفلاحون، لاسيما وأنَّ مضمون القصيدة الزجلية لم يكن يطرح حياة الفلاح طرحاً صحيحاً..

   ومناسبة هذا الكلام هو على الفنان أن يكون صادقاً في عمله، وكما الصَّب تفضحه عيونه، فإن الفنان يفضحه التاريخ إذا لم يكن ملتزماً، ولذلك أعتبر “الميدان” ، في مصر،وسوريا تحديداً هو “آلة كشفت كذب” كل الفنانين الذين دافعوا، في أعمالهم، عن الحق، والحريات، والسلام، والتحرر، وبدل تجسيدها حين تطلب الوطن منهم ذلك انساقوا مع الفكر الرجعي، وانتهوا إلى صمت مطبق لا يليق بتاريخهم الفني “العريق”،عفواً ” الغريق”.

_____________

*كاتب من المغرب..

من مُؤلفي “وشهد شاهد”-  إصدار 2016

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *