شعراء للبيع في «السوبرماركت»


*محمد اسماعيل زاهر


ماذا لو استيقظ البشر فوجدوا اللغة تخلو من المجازات والاستعارات والكنايات والتشبيهات؟، ماذا لو عجزوا عن إيجاد المفردات البلاغية للتعبير عن الفرح والحزن والحب واليأس والألم؟، وماذا لو قال أمامك أحدهم «علينا أن نبدأ إجراءات شد الحزام»، في دلالة على حالة من التقشف، فسألته ببلاهة «وما دخل الحزام في الموضوع؟»، وماذا لو انتابك الغضب وقالت لك ابنتك وهي تهدهدك:لقد مارست ثلاثة عشر أو أربعة عشر غراماً من القوة على ظهرك، واستثمرت ُ في المودة المتبادلة بيننا؟، وماذا لو فقد البشر القدرة على رؤية الفراشات؟، هذه الأسئلة وغيرها يطرحها الكاتب البرتغالي أفونسو كروش في روايته ذات العنوان اللافت والصادم «هيا نشتر شاعراً».
الصادم في تلك الرواية، ذلك الشعور الفج الذي ينجح الكاتب في نقله لك رويداً رويداً، فشراء الشاعر يبدو في العنوان للوهلة الأولى ذا دلالات أخرى، بعيدة عن الشراء المادي، تتوقعها وأنت تقتني الرواية، وتتفجر الفجاجة إلى أبعد مدى عندما تطلب البطلة، المراهقة المدللة التي تعيش في مكان مجهول وزمان لا يفصح عنه السرد، من والدها رجل الأعمال أن يشتري لها شاعراً، للتسلية أو لكي تجد مفردات تسمع عن قوتها في كتب التاريخ، استخدمها الشعراء في زمان سحيق في ذم الآخرين، لكي تستطيع أن تهجو أخاها«السخيف بدرجة خيالية»، والذي يتورط في علاقات عاطفية مع فتيات يتحدث عنها بالنسب، فهو يتعلق بهذه الفتاة بنسبة سبعين في المئة أو بتلك بنسبة ثمانين في المئة.

تظل حتى وأنت تقرأ تلك المشاهد الافتتاحية تسأل عن معنى العنوان «هيا نشتر شاعراً»، هل تسعى الفتاة لتؤجر قلم شاعر، أو لتوظيف شاعر في مهنة الهجاء تلك، وهي مهنة يهجو من خلالها المؤلف بدوره إحدى الوظائف الأساسية للشعر، إلى أن يأخذ الأب الفتاة المراهقة إلى السوبر ماركت لشراء شاعر بالفعل «كان المحل يعج بشعراء من كل الأصناف: قصار، طوال، شقر، بنظارات وهم الأغلى، علماً أن الجزء الأكبر منهم، اثنين وسبعين في المئة كانوا صُلعاً، وثمانية وسبعين في المئة كانوا مُلتحين».
هنا يبدأ الهجاء الفعلي والفج للشعر والشعراء، فالشاعر الذي يعجب الفتاة أخنف وأحدب ويرتدي حذاء مهترئاً، ويمسك تحت ذراعه بكتاب، ولا تنتمي ملابسه إلى أية ماركة أو شركة راعية للشعراء، وهي مسألة فارقة، حيث يرتدي شقيق الفتاة«تي شيرت»تحتل واجهته علامة الشركة التي يعمل فيها، فالبشر مجرد مساحات للإعلان، أو هم مادة استعمالية لا قيمة لها في الواقع إلا الدعاية للشركات الرأسمالية الكبرى وفق عبد الوهاب المسيري، غياب العلامة أو الماركة عن ملابس شاعرنا يثير استغراب الأب ليسأل البائع«هل هذه النسخة مخُربة. وهي الخاصية الأكثر شيوعاً بين الشعراء وتضاهي العنف بين الكلاب؟»، فالشاعر من دون«ماركة»، عذراً، يبدو كالكلب الضال، والشعراء يشعرون بالميل إلى التخريب وإلا يفقد الشعر قيمته وجدواه، وكلها دلالات يفصح عنها السرد صراحة أو ضمناً، والشعراء أيضاً لا يمتلكون معرفة بأبسط الضروريات مثل العمليات الحسابية الأولية، ولا علاقة لهم بالتكنولوجيا، ولذلك لا يشتريهم أحد، وفي مقابل ذلك ليسوا متطلبين ربما ينسون الأكل ولا يكلفونكم شيئاً وهم أنظف من الرسامين الذين يلوثون البيوت، هنا نعرف وفي أماكن أخرى من السرد أن هناك أيضاً فنانين وممثلين وكتاباً تشتريهم بعض الأسر لترفه عن نفسها.
يتواصل الهجاء للشاعر في بيت تلك الأسرة، فهم يخصصون له غرفة صغيرة أسفل الدرج، وتأتي الفتاة بصديقاتها لمشاهدة الشاعر، وتستضيف الأسرة جيرانها للتفرج على الشاعر، فيتحدث هذا عن رسام اشتراه في العام الماضي، وذلك عن ممثل، وثالث يتناول ما فعله أحد الكتاب عندما مكث في بيته..الخ. ولا تستطيع الأسرة فهم معظم كلام الشاعر فهو عندما يقول للفتاة النافذة تحتوي البحر، تصاب بالدوخة وتنتابها العديد من الأسئلة: هل فتح نافذة من دون إذن البلدية؟، وكيف يمكن لمربع صغير في الحائط أن يحتوي البحر؟، وفي مشهد مؤثر يستوقف الفتاة تحديق الشاعر في فراشة، هي مجرد حشرة مزعجة، ببطء تنجذب الفتاة إلى كلمات الشاعر، وتبدأ رؤيتها تختلف للحياة، ليس الفتاة ولكن أمها أيضاً، كلمات بسيطة عن الحب والوجود والأبدية تدفع الأم للتفكير في حياتها مع الأب الذي تتوالى خسائره في البورصة، لتبكي للمرة الأولى في حياتها، ولتترك المنزل لاحقاً، الشعر علمها البكاء، وإفلاس الأب دفعها للرحيل، يدرك الأب أن حياته تغيرت بفعل الشاعر فيقرر طرده.
يبلغ الهجاء ذروته عندما يحمل الأب وابنته الشاعر في سيارة ويتركانه في إحدى الحدائق العامة، وعندما تلتفت الفتاة لتلقي النظرة الأخيرة عليه تجد الدموع متحجرة في عينيه. حالة من الأرق تنتاب الفتاة بعد التخلص من الشاعر، لا تستطيع النوم، فالكلمات التي كانت تستمع إليها منه وعلى غرابتها كانت تمنحها الهدوء والسكينة، «كل الناس يعرفون شكل النافذة، ولكن قلة فقط هم من يستطيعون القول إن النافذة قطعة من بحر أو قبرة تطير».

نص مراوغ

نص «هيا نشتر شاعراً» مراوغ جداً ومكثف في توصيف حال الشعر، أو اللغة على وجه الدقة، ففي تلك الرواية القصيرة التي تقع في ستين صفحة، توجد أبيات شعرية يحورها المؤلف ببراعة لكل من والت ويتمان، وهنري ميشو، وإليوت، وديلان توماس، وبوكوفسكي…الخ، أحياناً يرد البيت على لسان الشاعر بطل الرواية لكي يدين واقعه وما آل إليه حاله، وأحياناً يسخر المؤلف على لسان البطلة من أبيات شعرية عويصة وغير مفهومة، حيث تتضافر مجموعة من الأسباب التي أدت إلى خفوت صوت الشعر، ولكن الملاحظ في توظيف تلك الأبيات أنها تأتي عابرة ومن دون إحالات إلى أصحابها في المتن أو الهامش، وكأن الراوي يهدف إلى القول إن بناءه الروائي إذا كان يخلو من المجاز والبلاغة فهو كذلك يخلو من الشعراء والذين ترد الإشارة إليهم في نهاية النص، وهو كذلك يخلو من اللغة الشعرية بكل مداراتها وفضاءاتها تلك اللغة التي أضر بها الشعراء أنفسهم.
هناك في النص أيضاً بشر من دون أسماء أو ملامح، يعُرفون بالرقم، فهذا الشخص هو x 3456 وذاك z 1456، وهكذا… البشر الرقميون فكرة تتقاطع مع أعمال أدبية كثيرة، فضلاً عن زمان ومكان مجهولين، وسيادة لغة الاستهلاك والربح، وحديث بالنسب عن الطعام والعلاقات الإنسانية والمشاعر بين البشر، وغياب واضح للإيمان الديني، فهناك القسم بما يدعى «مامون» وهو غامض وغائم في النص، عندما نقرأ هذا النص الصغير نستحضر هكسلي وويلز وكانيتي ويونسكو وغيرهم.
«هيا نشتر شاعراً»إدانة مبطنة لعصر تشارك فيه الجميع على ضياع اللغة بوصفها مفردة تتجاوز الفضاء الأدبي إلى الشرط الإنساني نفسه، عندما نفقد القدرة على التعبير عما يجول في داخلنا أو ما يدور في عقولنا سنشبه بطلة القصة في تلك الراوية الصغيرة والوحيدة في النص التي تتحدث بضمير المتكلم، ولا اسم أو رقم لها، والوحيدة التي تتأثر بالشعر «المفهوم» أو الشعر «كما كان» أو الشعر «كما ينبغي له أن يكون»، وهي أيضاً الوحيدة التي عليها أن تقطع أميالاً في الخيال كل يوم لكي تستطيع النوم، لكي تستبطن إنسانيتها، لكي تجد مفردات تجعلها قادرة على استرداد إنسانيتها والخروج من حالة الاستلاب العامة التي يعيشها البشر.
النص وإن كان يبدو في الظاهر مرثية وداع طويلة للشعر، نتيجة لعوامل عدة، فإنه صرخة تنبه إلى عواقب هذا ضياع الشعر الذي سيؤثر بالسلب في اللغة نفسها، والتي تساوي في النص الإيمان أيضاً، فضياع اللغة يعني ضياع روح الإنسان.
«هيا نشتر شاعراً» يُقرأ على أكثر من مستوى، هل يسعى الكاتب إلى ترسيخ فكرة موت الشعر لمصلحة صعود النثر، كما يقول ناشر الكتاب على غلافه الخلفي؟، لا نظن ذلك، فهذه القضية تبدو مفتعلة وعربية بالدرجة الأولى، فالنص السردي يخلو من تلك الجماليات والتقنيات الروائية الجاذبة والتي تجعلنا نتورط في القراءة متحمسين للسرد، بل إن هذا النص يدفعنا لتركه جانباً في أحيان كثيرة نظراً للغته «الخشنة» والتي يتعمدها المؤلف. هل يقرأ على مستوى الروايات التنبؤية التي تستشرف مآل الثقافة في المستقبل؟، هل يدين الحداثة وما بعدها وأعلامها من الشعراء الذين أسهموا بنصيب وافر في انصراف الناس عن الشعر؟، هل يرصد بدايات عصر يصيب فيه التشيؤ البشر كلهم؟، كلها أسئلة تنتاب القارئ وهو يطالع هذا النص غير الفاتن ولكن المؤرق في الوقت نفسه.

أرقام مؤرقة

في آخر النص يكتب المؤلف «ما يشبه الخاتمة» ليتحدث مباشرة إلى القارئ عن وضع الثقافة في البرتغال، ويطالب بالمزيد من الإجراءات الحكومية التي تحمي الثقافة بوجه عام وتستثمر فيها، ونعرف من هذا المؤلف سبب مراثيه الصادمة للغة وللوضع الثقافي، فالبرتغال خصصت لقطاع الثقافة، السينما والمسرح ودعم الكتاب…الخ، 0.1% من ميزانيتها في عام 2009 لهذا القطاع، وهو الدعم الأقل للثقافة في منطقة اليورو، بينما حقق القطاع نفسه للدولة نحو 2.7 مليار يورو متجاوزاً قطاع الزراعة والصناعات الغذائية، الأمر الذي يفرض على الدولة مزيداً من الدعم لتحقيق المزيد من الربح. هنا لا يتركنا أفونسو كروش إلا لكي نتفكر في حال ثقافتنا العربية على المستويات كافة: حال اللغة، حال الشعر، حال الاستثمار في الثقافة، وهي قصة أخرى. ولكننا حتى الآن نستطيع أن ننام مطمئنين فبعضهم يمتلكون فائضاً من البلاغة يستطيعون استخدامه لكي يعبروا عن أنفسهم ويحصلوا من خلاله على الهدوء والطمأنينة، والأغلبية، حتى أولئك الذين يكرهون الشعر ولا تهمهم اللغة أو الثقافة، تتوافر لديهم تلك المجازات والكنايات والاستعارات التي تمنحهم السلام والأمل.

___________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *