زينون الرواقي.. رجل يبحث عن اطمئنان النفس

خاص- ثقافات

*د. يسري عبد الغني عبد الله

      قيل لزينون : أي الملوك أفضل : ملك اليونانيين أم ملك الفرس ؟، فقال : من ملك شهوته وغضبه.

*

هو شيخ الفلاسفة الرواقيين القدماء، كان مولده حوالي سنة 336 قبل الميلاد بمدينة (كتيوم) بجزيرة قبرص، وقد اشتغل بالتجارة قبل إقباله على الفلسفة ودراستها، وتكريس حياته لها.

         تحدثنا الروايات عن مجيء زينون إلى مدينة أثينا اليونانية، فمن إحداها أن زينون كان في سفينة تحمل بضائع من أرجوان الفينيقيين، فغرقت السفينة على مقربة من منطقة (بيري ) في البحر المتوسط، ونجا زينون فقصد إلى أثينا.

         ولا شك أن التاجر الشاب وجد في العاصمة اليونانية عالمًا جديدًا لا عهد له به، يتكلم الناس فيه عن أشياء تتجاوز أمور المكسب والخسارة في التجارة، وإذ كانت الحركة الفلسفية مزدهرة بمدينة أثينا في ذلك الحين، فلا عجب أن نرى زينون يجعل اليونان مقامه ومستقره، ويرتضيها لنفسه وطنًا ثانيًا.

         كان زينون رجلًا طويل القامة، نحيف الجسم، شديد سواد الجلد، وكان يرتدي الأقمشة البسيطة الرخيصة، ويقنع في مأكله بالقليل من الخبز والتين والعسل، وكان سلوكه سلوك الرجل الرزين الوقور المهذب، حيث كان يؤثر الصمت على الكلام.

د.-يسري-عبد-الغني-عبد-الله-1

         يروون أن زينون قال في ذلك : إن لنا لسانًا واحدًا وأذنين، لنعلم أننا ينبغي أن ننصت أكثر مما نتكلم، وكان زينون موجز العبارة، ولم يعن في كتابته بفصاحة ولا أسلوب، ولعله لم يبلغ قط شأن اليوناني الأصيل في الافتتان الأدبي، بل كان بنشأته يميل إلى البساطة والفطرة ويحتقر الفن الذي يسيطر عليه التكلف.

         ولكن واقع الحال يقول إن خشونة الطبع وغلظة القول وسط قوم مغرمين بالرشاقة والجمال، لم يكونا ليحولا بين زينون الفيلسوف وبين التأثير على مستمعيه أبلغ تأثير.

         وقد أجمع القدماء على أن زينون كان على خلق عظيم، وكانت حياته قدوة طيبة وصالحة، وبلغ زينون من طول الصبر وضبط النفس مبلغًا كان الأثينيون يضربون به المثل، قائلين : أضبط لنفسه من زينون، وعاش زينون حتى بلغ من العمر 98 سنة، ولما مات حزن عليه أهل أثينا حزنًا شديدًا، وقاموا برثائه رثاءً رسميًا، وأصدر أولو الأمر قرارًا أعلنوا فيه أنه يستحق كل الاحترام والتقدير، وأن الوطن مدين له بما قدم من خدمات جليلة أفادت الشباب الذي دعاه وحثه في فلسفته على الفضيلة والحكمة، وعليه فقد منحته أثينا تاجًا من ذهب، وقبرًا في مدافن العظماء.

         ولزينون مؤلفات عدة، ضاعت ولم يبق لنا منها إلا عناوينها، وبعض جمل وشذرات متفرقة، ومن هذه الكتب نذكر رسالة (الحياة وفقًا لطبيعة )، ورسالة (القانون)، ورسالة (الإبصار)، و رسالة (الدلالات).

         هذا، وقد ذكر لنا العلامة الشهرستاني حكمًا كثيرة أُثرت عن زينون، قيل لزينون : أي الملوك أفضل : ملك اليونانيين أم ملك الفرس ؟، فقال : من ملك شهوته وغضبه.

         وقيل : إن ابنه نعي إليه، فقال : نعم إن ذلك يحزني أشد الحزن، ولكن إنما ولدت ولدًا يموت، وما ولدت ولدًا لا يموت !، وقيل له وكان لا يقتني إلا قوت يومه : إن الملك يبغضك، فقال : وكيف يحب الملك من هو أغنى منه ؟.

         وقد تتلمذ زينون على الفيلسوف / أقراطيس الكلبي زمنًا غير قصير، ولعل أقراطيس هو الذي أثر في زينون أثرًا عميقًا باقيًا، فألف زينون في أستاذه كتابًا سماه (ذكريات أقراطيس)، وقد تلقى زينون معظم تعاليم الكلبيين عن طريق أقراطيس، التي كانت ترمي إلى ازدراء العرف وإطراح التقاليد واحتقار الأوضاع.

والكلبيون فريق أو جماعة لا تحفل بشيء، و يسخرون من كل شيء، ومن أجل ذلك تنازلوا بكل إرادتهم عن أموالهم وممتلكاتهم، وآثروا أن يعيشوا كالمشردين أو المتسولين، ولكنهم حاولوا بقوة إرادتهم أن يحدوا من سلطان الحاجات والرغبات والشهوات التي تمتلك الإنسان وتسيطر عليه، وبالطبع هي ناشئة عن الحياة في المجتمع والتعامل مع الواقع المعاش.

الكلبيون يرون أن الإنسان عندما يستجيب إلى نداء الفطرة يتجرد بسهولة ويسر من أي سيطرة للرغبات والشهوات عليه، وبالتالي يحقق في داخله السعادة الحقيقية المنشودة، ووفقًا لما يذهبون إليه فإنه يستكفي بنفسه، لأن السعادة إنما هي في شيء داخلي أمره بيدنا، ويرجع إلينا وحدنا، ولا يستطيع أحد كائنًا من كان أن يسلبنا إياه، وذلك هو اطمئنان النفس والاستقلال عن الغير.

وواضح أن الكلبيين، أولئك الداعين إلى العودة للطبيعة الأم، كانوا ينظرون إلى الدساتير السياسية والنظم الاجتماعية نظرهم إلى الأشياء الضارة والأوضاع المصطنعة، ولم يكن الإنسان في نظرهم مواطنًا لمدينة أو دولة خاصة بل وطنه العالم.

وكانوا يطمحون إلى مجتمع يسوده الحب والأمن والسلام، يعيش فيه الناس جميعًا أمة واحدة، ولا يكون فيه دستور ولا قوانين موضوعة، تكتب وتعلن ولا يتحقق منها شيء على أرض الواقع، كانوا يبحثون عن عالم يسوده الانسجام الناشئ عن الغرائز الطبيعية في حالة استقامتها ونقائها وصلاحها.

كان ذلك ما تلقاه زينون الرواقي عن أستاذه / أقراطيس، وكان له عظيم الأثر في الدعوة الرواقية إلى الجامعة الإنسانية والتي قدر لها أن تتسع، بفضل الرواقيين، حتى تشمل الجنس البشري كله، فتمنح كل فرد من أفراده لقب مواطن العالم.

وإذا كانت فلسفة زينون استمرارًا للفلسفة اليونانية، فإننا نرى أن عنصرًا شرقيًا يرجع إلى الأصل الفينيقي الذي ينتمي إليه شيخ الرواقية يظهر من خلال فلسفته، ويجعلنا نتساءل عن صلة ذلك العنصر بالمذاهب الشرقية.

قيل : إن مثال زينون أقرب إلى مثال المصلح أو المفكر الشرقي منه إلى مثال الفيلسوف اليوناني أو الغربي، فمثال الفيلسوف اليوناني بلغ ذروته في سقراط وأفلاطون، واكتشاف الحقيقة عند أفلاطون لا يجيء نتيجة لتعليم أو تلقين، بل تستخلص الحقيقة الكامنة فينا بالاستنباط والدليل العقلي.

وهذه الطريقة هي نقيض طريقة المصلح أو المفكر، الذي يؤمن أنه اكتشف الحقيقة بالتأمل والإلهام، لا بالدليل العقلي.

ومن العجب أن زينون وإن كان مضمون تعاليمه يونانيًا، إلا أن نغمة صوته أقرب إلى نغمة أهل الإصلاح والصلاح : كان يشعر أنه صاحب رسالة  يريد أن يؤديها إلى الناس في كل مكان، وأن يأخذ الناس بها كاملة.

وإذا كان زينون يذكر العقل في كلامه من حين إلى حين، فإن ذكره إياه كان من قبيل (أللازمة) في آخر الموشح الأندلسي، فكان يلجأ في تعليمه إلى عبارة يرددها في آخر الدور إذ يقول : (هكذا قال العقل !)، وإذا كان الناس يصدقون أقواله، فليس ذلك بسبب اقتناعهم بها اقتناعًا عقليًا، بل لأن ثمة وراء تلك التصريحات والتأكيدات قوة شخصية هائلة، ولأن ثمة شيئًا كان في أعماق قلوبهم شاهدًا مؤيدًا لأقوال الأستاذ : فهو تصديق لا عقلي، وهو أشبه بالإيمان.
__________
* باحث وخبير في التراث الثقافي

Yusri_52@yahoo.com

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *