أطلق قمرنا يا حوت

خاص- ثقافات

*يوسف غيشان

لا أعرف تماما، إذا ما كنت قد شاركت فعلا في المسيرة ..مسيرة التظاهرة ضد الحوت الذي ابتلع القمر، أم أن الأمر حصل على السماع، وربما من خلال المعلومات المتراكمة على شاشة الدماغ من جرّاء المطالعة والقراءة المستمرة، التي ابتكرت مخيلة لم تكن موجودة أصلا . لكني- على الأقل-  متأكد أنني شاركت نسبيا، ولو على شكل متفرج جانبي  في تظاهرات صلاة الإستسقاء التي كانت تمر بحارتنا منتصف الستينيات ، حيث يحمل الناس لعبة قماشية ما على خشبة ، وهو يرددون بصوت كوريالي :

يا أم الغيث غيثينا

يليها الكثير من الكلمات والمناشدات التي تدعو السماء بأن تحنّ على الأرض وتمطر ماءً غزيرا لتسقي الزروع والضروع، وتحيي الأرض والبشر ناهيك عن البهائم…وهذه التظاهرات  تحصل في جميع أرجاء العالم العربي .

أما ما أتحدث عنه هنا ، فهو التظاهرات الاحتجاجية التي كانت تنطلق فجأة كلما حصل خسوف للقمر …حيث يتجمع الناس وهم يحملون طبولا أو طناجر تصدر صوتا مزعجا بالضرب عليها بالعصي ، ويشرعون في الصراخ والتطبيل وهم يقولون:

– أطلق قمرنا يا حوت….. يا حوت أطلق قمرنا…أطلق أطلق قمرنا.

وهذا هو الشرف الذى لا أستطيع أن أدعيه بثقة تامة ، لكن لا بد شاهدث بعيني – التي سيأكلها عبدالله النسور قبل الدود- مثل هذا، ربما في الحلم ، أو أن الوالدة الرؤوم تحدثت في الموضوع بوجودي!!..لكن ذلك حقيقة ليست تاريخانية فحسب ، بل هي ممارسة عملية حية ، ما تزال تحصل حاليا في الكثير من المناطق الريفية الفقيرة في أرجاء العالم العربي الكبير. .

يبدو أن هذه التظاهرات ، كانت وما تزال شكلا استعاريا من أشكال الاحتجاج على الأوضاع القائمة، واحتيالا بالذخيرة الحية على أجهزة القمع المنتشرة كالدحنون في وطننا العربي الكبير، ذات الأجهزة التي وصفها الساخر الكبير محمد الماغوط بأنها مثل مشروب الـ(سفن أب)..تحبها تحبك..وإلا لا تلم إلا نفسك.

على كل، يبدو أن هذه هي التظاهرات الاحتجاجية الوحيدة التي لم تكن تقمع في العالم العربي بالغازات المسيلة للدموع وبالرصاص الحي والمتوفى، ناهيك عن  الاستدعاءات والاعتقالات والضرب والسحل ولعانة  الحرسة، والوالدين .

ويبدو أيضا، أنها كانت التظاهرات الوحيدة التي كانت تنجح في تحقيق أهدافها ، إذ لا يمر أكثر من ساعة – في أطول الحالات- إلا ويضطر الحوت الذي ابتلع القمر ، الى إخراجه من جوفه ، وإعادته إلى مكانه الطبيعي لينير ليالي الحصادين. ويعود المتظاهرون إلى بيوتهم راضين مرضيين ، يشعرون بالزهو والفخر والسؤدد، بعد أن نجحوا في تحرير القمر . وربما كانت هذه التظاهرات تدريبا استباقيا – بالذخيرة الحية  كما أسلفت-  على  تظاهرات الربيع العربي التي حصلت بعد خمسة عقود ونيف.

كان حوتا طيبا أم جبانا أم أهبل، ذلك الحوت ، لص الأقمار ، وكان يتراجع  ويجبن بسهولة أمام صرخات الناس البسطاء الذين لا يستطيعون ، ولا يجيدون،سوى الصراخ والعويل، فيعيد القمر – قمرهم – إلى مكانه قبل أن تنتهي التظاهرة الاحتجاجية ..بالفعل كان حوتا طيبا.

لكن أحفاد ذلك الحوت ….الحيتان المتعددة التي تستولي على حياتنا ومماتنا وتبتلع اقتصادنا وقراراتنا السياسية والسيادية…..هذه الحيتان لم تعد تخشانا، ولم تعد  لنا أي قمر ابتلعته، ولم تفاوضنا على إعادة نصفه مثلا ، أو توقيف البلع  إلى أجل محدود في استراحة بين الشوطين. لا بل هي مستمرة في ابتلاع أقمارنا وأفلاكنا وأطفالنا وكرامتنا وضمائرنا  ..وقريبا ستجهز على المجرة بأكملها ، إذا تركناها واكتفينا  بأن نصرخ باستجداء:

– أطلق قمرنا يا حوت !!
________
*كاتب أردني

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *