لماذا اختار البير كامو أمه؟

* بوداود عميــّر

في كتابه الموسوم «والفيلسوف إذا سُئل، لماذا اختار البير كامو أمه؟»، الصادر حديثا عن الدار الجزائرية للنشر والتوزيع، يعيد الكاتب والمفكر حميد زناز،  طرح سؤال، أثار ولا يزال، جدلا واسعًا في الساحة الأدبية الجزائرية بين مؤيّد ومعارض : هل يعتبر الفيلسوف ألبير كامو جزائريًّا أم لا؟ ولعله السؤال نفسه، الذي طُرح بصيغة أو بأخرى، منذ سنوات الستينيات والسبعينات، ولا يزال إلى الآن، حاضراً في نقاشات الساحة الثقافية والأدبية في الجزائر، وبأكثر حدّة، فيما يبدو.

البير كامو (1913-1960) كاتب عالمي كبير، نال العديد من الجوائز والتكريمات عبر العالم، وعلى رأسها جائزة نوبل للآداب سنة 1957، وُلد وترعرع في الجزائر، ومعظم أعماله تدور في الجزائر وعنها. تُعتبر روايته «الغريب»، واحدة من أكثر الأعمال ترجمة ومبيعا في العالم، أدرجت ضمن قائمة أفضل 100 كتاب في تاريخ البشرية، من طرف دائرة الكتاب النرويجية، والتي أعدّت بناء على اقتراحات من طرف 100 كاتب، من نحو 54 بلدا عبر العالم. كما احتلّت المرتبة الأولى، ضمن قائمة أفضل كتاب في القرن العشرين بفرنسا.

IMG_1865_632989799

يستهل حميد زناز كتابه، بمقولة للكاتب البير كامو، تنطوي على كثير من الدلالات الإنسانية، التي تختزل فيما يبدو فلسفته في الحياة، ورؤيته للعالم : «لسنا ننشد عالمًا لا يُقتل فيه أحد، بل عالمًا لا يمكن فيه تبرير القتل». ثم ينتقل إلى استعراض ظروف وملابسات إطلاق كامو لعبارته الشهيرة، التي فضّل فيها أمه، على حساب العدالة: «بين العدالة وأمي، أختار أمي»، تلك العبارة التي صرح بها أثناء احتفالات منحه جائزة نوبل سنة 1957، والتي نشرتها وفق المؤلف، جريدة «لوموند» الفرنسية مجتزأة من سياقها. ثم يتساءل المؤلف عن هؤلاء الذين شنّوا حربا على كامو، معتبرين أنه كاتب من البلد، خان قضيتهم العادلة : «هل قرأوا فلسفة الرجل قراءة متأنية، أم كان عداؤهم مبنيا فقط على امتناعه مساندة ثورة التحرير، وجملة نسبت إليه»، لينتقل إلى التذكير بمواقف كامو، وكتاباته المساندة للجزائريين، والمنددة في أغلبها بالممارسات الاستعمارية: «لم يشفع له تعاطفه مع الأهالي الفقراء، والدفاع عن المساواة بين كل السكان، ولا فضحه للظلم الاستعماري، الذي كان مسلطًا على الجزائريين، ولاتزال «الجملة اللعينة» تلاحقه إلى اليوم».

ولتأكيد جملة المواقف الشديدة المعارضة لكامو، يذكّر صاحب كتاب «المعنى والغضب، مدخل إلى فلسفة سيوران»، ما حدث سنة 2010، عندما أقدم مجموعة من الكتّاب والإعلاميين الجزائريين، برفع عريضة شديدة اللهجة، مندّدين بما أطلق عليه آنذاك «قافلة كامو»، وهي التظاهرة الثقافية، التي تبناها نخبة من المثقفين الفرنسيين والجزائريين، وعلى رأسهم ياسمينة خضرا،  كانت ستجوب مدنا جزائرية، للتعريف بأعماله الأدبية، بمناسبة الاحتفالات المخلدة للذكرى الخمسين لرحيله، لكنها ألغيت في آخر المطاف بعد حملة شعواء، شنتها بعض الصحف، وساندها مجموعة من الكتّاب، وهي العريضة التي حملت عنوانا مستفزا: «خمسينية البير كامو : نداء استنفار إلى الضمائر المناهضة للاستعمار، مالذي تحيكه لوبيات الاستعمار المتجدد حول البير كامو؟»، ومما جاء في ختام العريضة: «.. فهذه شهادة وبلاغ، كي لا يقولن أحد أنه لم يكن على علم بما كان يحاك خلف العملية المشار إليها، وهي القافلة التي تهدف إلى تزوير التاريخ، والى الكذب والخداع المغلف بغلاف الإبداع، فلنبق حذرين، لأن ذلك اللوبي، ليس مجرد وجه من أوجه الحرب الماضية، فهو لا يزال متماديا في بناء الهيمنة الكولونيالية الجديدة، نداء نوجّهه إلى الضمائر الحية، والى نبضات الوعي،  التي لا تزال تخفق في القلوب الحرة، وفاء أبديا لسيّر الأجداد النضالية، ودفاعا عن ذاكرة شهدائنا، وأحبابنا في ذلك الكفاح العادل».

في الفصلين الثاني والثالث من الكتاب، يسرد المؤلف آراء مجموعة من الكتّاب الجزائريين حول كامو، وطبيعة علاقته مع الجزائر، التي يصفها بأنها «معقدة، مرتبكة وملتبسة، تثير الكثير من الانفعالات»، ابتداءً من كاتب ياسين، الذي كان صديقا له في الخمسينيات، كما تبيّن ذلك الرسائل المتبادلة بينهما، والذي لم يغفر له تفضيله لأمه بدل العدالة، «كان يمكنه أن يحبّ العدالة وأمه في نفس الوقت» كما صرح صاحب «نجمة» متأسفا، ثم ينتقل إلى رأي مولود فرعون، الذي أشاد كثيرا بمقالات كامو، خاصة  في فضحه لمظاهر البؤس الشديد في بلاد القبائل أثناء الاستعمار.

وبينما يعلن الروائي ياسمينا خضرا، موقفه العلني، المؤيّد لكامو، عندما أقام حفلا تكريميا له، أثناء فترة إدارته للمركز الثقافي الجزائري بباريس، وإطلاقه تصريحات أثارت جدلا إعلاميا حينها، عندما قال أن ابن قرية الذرعان هو «الفائز الجزائري الوحيد، بجائزة نوبل»، مضيفا أن «الأقدام السوداء هم جزائريون رغم كل شيء»، يورد موقف بوجدرة المعارض له، حينما صرح بأن كامو «لم يكن يحبّ جزائر الجزائريين، بل جزائر الأقدام السوداء والمعمّرين، الجزائر التابعة للمستعمر… ». كما يورد المؤلف في السياق نفسه، أراءً مختلفة لمجموعة من الكتّاب، من بينهم لحبيب السايح، محمد ساري، حميد عبد القادر، مايسة باي، كريستيان عاشور، وسعيد خطيبي… الخ.

في الفصل الأخير الذي عنونه: «جزائري أم غريب الوجه والديار»، يخلص حميد زناز، بعد استعراضه لآراء عدد من الكتاب والباحثين الفرنسيين، المتخصصين في فكر كامو، من خلال تحليل نظرته الفلسفية للحياة، أن كامو، ذهب ضحية مرتين على الأٌقل، أولا عندما لم يصفح له المثقفون الفرنسيون من ذوي الأصول الفرنسية، هذا النجاح الكبير من رجل جاء تقريبا من لا شيء، من خارج فرنسا ومن عائلة فقيرة، وغير ماركسي الاتجاه، كما كانت الموضة السائدة آنذاك، فوجدوا ذريعة لدفنه أدبيا. وثانيا يرى كثيرون أن كامو كان ضحية لذلك الخطاب الرسمي الذي انتهجته السلطات الجزائرية، بعد الاستقلال مباشرة، وهو الخطاب الذي يؤكد هوية الجزائر العربية الإسلامية، والمقصي لكل ما يشكل خلاف ذلك، والتنصل بالتالي من التعددية الثقافية الجزائرية، في بعدها المتوسطي، خاصّة.
—–
* نفحة

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *